التسويق مع ”شي إن“ خيار المتعلمات بغياب فرص العمل
صدى وادي التيم – لبنانيات /
عندما تضيق الخيارات، تتّسع المخيّلة. هكذا تبدو حال كثير من النساء اللبنانيّات اللواتي وجدن أنفسهنّ فجأة خارج سوق العمل التقليديّ، بعد سنوات من الدراسة أو الخبرة أو حتّى الطموح المؤجّل. لم يعد المكتب هو المساحة الوحيدة للعمل، ولا الراتب الثابت ضمانًا للاستقرار.
في ظلّ أزمات تتوالى، وأسعار تتصاعد، وحياة يوميّة ترهق الأفراد من دون رحمة، بدأت نساء كثيرات يعُدن إلى بيوتهنّ، ليس للراحة، بل ليبدأن من جديد من شاشة الهاتف.
من بين كلّ المنصّات التجاريّة، برز اسم ”شي إنّ“ كمساحة إلكترونيّة تحوّلت إلى مورد رزق فعليّ. هي شركة صينيّة تُصدّر الأزياء السريعة، بيد أنّها في لبنان باتت توفّر فرصًا بطيئة للخروج من الضيق: عمولات مقابل الترويج، طلبات تُنسّق عبر المحادثات، زبائن يأتين من العالم الواقعيّ والافتراضيّ معًا. ليس العمل مع ”شي إنّ“ وظيفة تقليديّة، بل أقرب إلى مساحة هجينة بين التجارة والعلاقات، بين الاستهلاك والتمكين. وما كان في البداية محاولة لسدّ حاجة موقّتة، تحوّل لدى كثيرات إلى أسلوب عيش، يحفظ لهنّ بعض الكرامة في بلد تفلت منه مقوّمات العيش يومًا بعد يوم.
من الحقوق إلى التجارة
من بين الأسباب التي تدفع المرأة اللبنانيّة إلى العمل في التسويق لشركات مثل ”شي إنّ“، تبرز تجربة ليليان صابر، التي درست الحقوق وتدرّجت في مكتب محاماة، لكنّها اضطرّت إلى ترك عملها مع ولادة طفلها الأوّل. وجدت في هذا النوع من العمل فرصة بديلة على رغم التعب واستنزاف الطاقة في المتابعة مع الزبائن وتنظيم الطلبيّات. تؤكّد صابر لـ ”مناطق نت“ أنّ ”النجاح فيه يتطلّب تنظيمًا وصبرًا، ما يجعله مجالًا تغلب عليه النساء. وعلى رغم أنّه لا يحقّق طموحي المهنيّ، إلّا أنّه منحني استقلاليّة ماليّة من منزلي، وهو خيار أكثر واقعيّة من الوظائف التقليديّة التي تتطلّب نفقات يوميّة ربّما تستهلك نصف الراتب، من حضانة الأطفال إلى المواصلات والطعام“.
تعترف صابر بأنّ سوق العمل في مجالها الأساسيّ يعاني من منافسة غير عادلة وغياب للحقوق، ما يجعلها ترى في التسويق كوسيط تجاريّ حلًّا غير مستقرّ لكنّه فعّال، وتصفه بـ ”العمل“ لأنّ المرأة اللبنانيّة لطالما ابتكرت الوسائل التي تمنحها شعورًا بالاستقلاليّة، في ظلّ ظروف اقتصاديّة تُثقل كاهل الرجل أيضًا. تشير صابر إلى أنّ ”كلفة الحياة في لبنان وكأنّنا نعيش في سويسرا، بينما الواقع هو أقلّ من دول العالم الثالث حيث ندفع كلّ شيء مرّتين، واليد الواحدة لا تصفّق“.
من التعليم إلى التسويق الإلكترونيّ
وفي سياق مشابه، تمثّل تجربة حنان صالح من مدينة صور وجهًا آخر أكثر استقرارًا في العمل مع ”شي إنّ“. حنان تحمل إجازة ماجيستر في التعليم لكنّها لم تجد فرصة عمل في مجالها، تساعد أختها في صالون تزيين نسائيّ، فيما تعتمد على نشاطها كوسيطة مع ”شي إنّ“ كمصدر دخل إضافيّ لا يتطلّب منها مغادرة المنزل.
تقول لـ ”مناطق نت“: ”أستطيع خلال السهرة أن ألبّي طلبات الزبائن، والربح الذي أجنيه من هذا العمل ربّما يفوق ما يمكن أن أتقاضاه من وظيفة تعليميّة“. منذ ثلاث سنوات، بدأت حنان نشاطها عبر بيع الملابس على صفحات الإنترنت، ومع بروز ”شي إنّ“ بقوّة في السوق اللبنانيّة لجأت إليه كخيار جذّاب بفضل أسعاره المقبولة وتنوّع موديلاته (عروضه) التي تلائم مختلف الفئات العمريّة والذوقيّة.
توسّعت دائرة زبائنها من الأقارب إلى الأصدقاء، ثمّ إلى شبكات أوسع، مشيرة إلى أنّها لم تواجه مشاكل تُذكر بفضل الثقة المتبادلة. وتضيف أنّ بعض الفتيات يطلبن من خلالها موادّ أوّليّة للرسم، الأشغال اليدويّة، أو تزيين الحلويّات، نظرًا إلى فارق السعر الكبير مقارنة بالسوق المحلّيّة. وبرأيها، ”هذا العمل يحتاج إلى صبر وقدرة على التعامل مع الناس، لكنّه مجدٍ ومناسب في ظلّ ضيق الفرص التقليديّة“.
عوضًا عن البطالة
تمثّل تمارا قانصوه نموذجًا آخر لنساء لبنانيّات وجدن في العمل مع ”شي إنّ“ فرصة بديلة من البطالة القسريّة التي فرضتها التحدّيات الاقتصاديّة. درست تمارا تخصّص الأمن الغذائيّ، ولكن سرعان ما اكتشفت أنّ سوق العمل في لبنان لا تُقدّر تلك التخصّصات كما ينبغي، ما جعلها غير قادرة على ممارسة مهنتها. ومع كونها أمًّا لطفلين، كان عليها اتّخاذ قرار عمليّ في ظلّ الواقع القاسي. فاختارت أخيرًا أن تكون وسيطة مع ”شي إنّ“، لأنّها رأت فيه خيارًا يتماشى مع مسؤوليّاتها الأسريّة، دون أن تضطرّ إلى التخلّي عن أولادها أو الابتعاد عنهم. بدأت رحلتها بتلقّي طلبات من الأقارب، ولكنّها تخطّط الآن لتوسيع نطاق عملها عبر حملات تسويقيّة تستهدف جمهورًا أوسع، بما يفتح أمامها آفاقًا أرحب من الاستقلال الماليّ.
تقول لـ ”مناطق نت“: ”أحبّ التسويق وتصفّح الصفحات التجاريّة، لذلك يناسبني جدًّا هذا النوع من العمل“. تعكس تجربتها بوضوح الفجوة المتزايدة بين النظام التعليميّ اللبنانيّ وسوق العمل المحلّيّة، حيث أصبحت التخصّصات الأكّاديميّة التقليديّة أقلّ فائدة، بسبب وضع اقتصاديّ يدفع النساء إلى البحث عن مال سريع وفوريّ، بعيدًا من تعقيدات الوظائف الأكّاديميّة التي لا تتماشى دائمًا مع الضرورات الحياتيّة اليوميّة.
تجارب أخرى
في المقابل بدأت لمى عكر، شابّة من النبطية، تجربتها في العمل كوسيطة لصالح ”شي إنّ“ بعد أن كانت تتعامل مع وسيطة أخرى لشراء حاجيّاتها، لتقرّر لاحقًا خوض التجربة بنفسها. إلّا أنّ الحماسة ما لبثت أن خفتت سريعًا، بعد تأخّر أوّل طلبيّة اضطرّت فيه للتعامل المباشر مع الزبائن وتقديم التبريرات، ما تسبّب بفقدان الثقة بينها وبينهم.
توضح عكر أنّ الأرباح الهامشيّة – إذ لا يتجاوز ربح الوسيطة عشرة دولارات عن طلبيّة تتخطّى الـ 100 دولار – لا توازي حجم الوقت والجهد المطلوبين، خصوصًا في ظلّ التغييرات المستمرّة في الأسعار بسبب الشحن والجمرك، والتي لا يمكن عكسها على الزبائن. وتضيف: ”هذا العمل يتطلّب تفرّغًا لمتابعة التفاصيل مع الزبائن والردّ على استفساراتهم، وفي حال حصول أيّ خلل، أتحمّل وحدي المسؤوليّة“. لذا، اختارت حنان الانسحاب من هذا المجال الذي وصفته بأنّه ”مرهق وغير مستقر“.
ليست ظاهرة عابرة
لم يكن الإقبال المتزايد من النساء اللبنانيّات المتعلّمات على العمل كوسيطات مع شركة ”شي إنّ“ الصينيّة مجرّد ظاهرة عابرة، بل هو تعبير عن تحوّل جوهريّ في طريقة التفكير والعمل في لبنان. فقد كانت التخصّصات الأكّاديميّة والتعليميّة تقليديًّا هي البوّابة الوحيدة للحصول على فرص عمل مستقرّة، ولكن مع تدهور الأوضاع الاقتصاديّة وارتفاع كلف الحياة، باتت النساء اللبنانيّات، اللواتي يحملن شهادات تعليميّة رفيعة، يبتعدن عن المسارات المهنيّة التقليديّة في البحث عن فرص دخل جديدة توفر لهنّ الاستقلال الماليّ والمرونة، وتمكّنهنّ من التفاعل مع الاقتصاد العالميّ دون الحاجة لمغادرة منازلهنّ.
هذا التحوّل لا يرتبط فقط بالبحث عن دخل مادّيّ، بل هو أيضًا خطوة نحو الاستقلاليّة الشخصيّة، وتجاوز العقبات التي يفرضها الوضع الاقتصاديّ الراهن، الذي يضع النساء في خانة الاستسلام أمام ايجاد فرص العمل التقليديّة، ليمثّل العمل كوسيطة تجاريّة نوعًا جديدًا من التحدّي للنظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الصعب.
مايا ياغي – مناطق نت