مَن يبيع ؟ قصة قصيرة لوداد طه
كان وقتُ الصلاة قد حان. وقف المصلّون في صفوفٍ منتظمة. أطال الإمامُ السُّجود، وتهدّج صوتُه وهو يتلو آيَ الذّكْر. بكى بعضُ المصلّين. وحين انخفضت الوجوهُ وتهاوت الأيادي عنها، بقيت الحاجّة سلمى في مكانها، ولم ترفعْ نظرَها عن أرض الحرم الملساء النّظيفة ــ ــ وهو أمرٌ بات جميعُ من يزورون مكّةَ يعرفونه؛ فالقيّمون على أمر الحرم يُبقونه طاهرًا على الدوام.
لاحظتْ أنّ امرأةً تجلس قبالتها وهي تتململ في مكانها. أحسّت أنّها تريد أن تتحدّثَ معها، فبعثتْ بابتسامةٍ مقتضبةٍ شجّعتْها على أن تبادرَ بالتحيّة. قالت أمّ عادل، كما عرّفتْ عن نفسها:
ــــ مبيّن عليكِ مؤمنة كثير. إنتِ من لبنان؟ أنا جاية من غزّة.
ــــ أهلًا بكِ. كلّنا عرب وإخوة. الله يعينكن شو عاملين بهالوضع؟ مضيّقين عليكن اليهود، صحّ؟
قالت الحاجّة سلمى ذلك، وهي تدير عينيها، تريد أن تعودَ إلى خشوعها. لكنّ أمّ عادل أرادت لمسار الحديث خطّةً مغايرة، فقالت: “والله اليهود أحسن من العرب. بتقولي إخوة؟ خدلك هالسّولفة وإنتِ أحكمي.”
“عندي ابن في الخامسة والثلاثين. ولد واحد لله. حاولنا، أنا ووالدُه، أن نبقيه سالمًا، ونبعده عن كلّ المظاهرات والخطابات والأحزاب، فلم ينتسبْ إلى أيّ فريق، والله شاهد. في يوم كنّا قاعدين، أنا وهو ووالده، فسمعنا أصواتًا من خارج الحوش. قمنا مفزوعين، نجري وراء الصّوت. فتح أبو عادل الباب. لقينا مجموعة من الرّجال، قدّامهم واحد أسمر، بدا مسؤولهم، وصرخ في وجه زوجي: ’وين إبنك هالعرص؟‘ ثمّ لمح عادل آتيًا من خلف أبيه، فانقضّ عليه بيديه وسلاحه، وانهالوا جميعًا على كتفيه ووجهه بالضّرب. سحبوه من جاكيتته. بدا، وهم يجرّونه، مثل خروف مسحوب إلى القتل. خفت ورحت أصرخ وألطم وجهي وأحاول أن أمسك بطرف ثوب الرّجل، من دون جدوى.
“مرّت خمسة أيّام لم نسمعْ خبرًا عن عادل. لم نعرف أين أخذوه، ولا الجهة التي اعتقلتْه. كان الموضوع ملفوفًا بغموض مخيف، جعلني ذاتَ عصر أقوم من مكاني عن الكنبة بجانب أبي عادل، الذي زاد عمرُه في تلك الأيّام الخمسة عقودًا. المهمّ، بلا طول سيرة عليك خيْتا، قلتله للرّجّال: ’خالية من دين محمّد، ما برجع على هالبيت إلّا ما أعرف وين إبني.‘ وضعتُ في حقيبة يدي سرواليْن، ولففتُ وجهي بشالي، وخرجتُ وهو يحاول أن يثنيني عن الخروج، قائلًا: ’بكرا بيرجّعوه، إهدي يا مرا كرمال الله.‘
“مثلَ زوبعة تدور في العاصفة همتُ على وجهي. لم أعرف أين كنتُ أنام، على كرسيّ بجانب الجامع، أو قرب حاوية قمامة، أفرش جاكيتتي أحيانًا، أو أُحْضر كيسًا وأنام فوقه. كنت أدور من مركز شرطة إلى آخر، هذا يدفعني إلى ذاك، وذاك يدلّني على ذلك. للمرّة الأولى في حياتي عرفتُ طعمَ الليل، ليلِ غزّة الطّويل. عشتُ فيها عمري كلَّه، ولكنْ لم يتسنَّ لي قبلًا أن أكتشف كلَّ ما فيها، أو أحفظَ أسماءَ شوارعها وأحيائها وسجونِها الكثيرة.
“في اليوم التاسع خارج البيت، وصلتُ إلى أحد مراكز الشرطة. لا أعرف أيّ شيء عن أبي عادل، ولا هو يعرف إنْ كنت حيّةً أو ميّتة. وصلتُ المركز منهكةً. لم أكن قد أكلت؛ فالنّقود التي كانت معي صرفتُها على الرّشاوى والإرضاءات لكلِّ مَن زعم أنّه سيدلّني على مكان ابني. وجدتُ كرسيًّا، فرميتُ بنفسي فوقه. وصودف مرورُ رجل، فأمسكتُ بطرف ثوبه وقلت له: ’يمّا يا حبيبي بتعرفلي وين بلاقي عادل المغربي؟ إبني عادل أخدوه من عشر تيّام، وحالفة ما أرجع بلا ما أعرف وينه. بالله يمّا، يا حبيبي، برضى الله عليك، ساعدْني أعرفه وينه.‘
“نظر الرّجل إلى عينيّ وقال: ’لحظة.‘ غاب ساعتين تقريبًا، ثمّ لمحتُه يدخل الغرفة التي بجانب الكرسيّ، من بابٍ آخر، في آخر الرّواق. هرولتُ نحوه، فقال: ’هيّاه جاي استنّي شويّ!‘ تشاغلتُ بمراقبة الناس الذين يراجِعون رجالَ المباحث في مركز الشرطة. جلستْ قربي امرأةٌ. أخبرتني قصّةَ ابنتها. قالت: ’ابنتي، لا أخفي عليكِ، منظّمة. تحبّ المظاهرات. تعالج المصابين في المسيرات. عرفتُ أنّهم لن يتركوها من دون عقاب، فوضّبتُ البئر تحت البيت تحسّبًا لهجومٍ مفاجئ. وصحّ ظنّي. إذ كنتُ أجلس مع جاراتي، حين هاجم الدارَ رجالُ الشرطة، وعاثوا في المكان تفتيشًا. لم يجدوها، فتوعّدوا بالعودة، وهدّدونا جميعًا ــــ أنا والجارات ــــ بأنّنا لن نُفلتَ من عقاب التستّر على مخرِّبة. همّوا بالانصراف، فإذا بملثّم من فوق سور الدار يشير إلى الأسفل ناحية البئر. اقترب أحدُ الرّجال من المكان. رفع الغطاءَ الحشيشيّ الذي وضعتُه، فوقع. أبعد الأحجارَ من جوانب البئر، وفتح البابَ الخشبيّ، ثمّ تناول الفتاة كأنّها قطّة، وجرجروها عبر البوّابة. لم تحتمل إحدى الجارات الظّلم، فسعت إلى الملثّم، ثمّ حاوطته النّسوة، فلم يتمكّن من الفرار. وحين أمطنا لثامَه، إذا به…ابني، أخوها! بعد أسبوع، مات أبوهم. وها أنا أزورها كلّما سمحوا لي برؤيتها. لم يحاكموها. هي في يد السّلطة. الله بيعلم شو بيعملوا فيها.‘
“أخبرتِ المرأةُ قصّتَها وأنا أسبّح بمسبحتي العاجيّة. انفرطتْ حبّاتُها فجأةً بعد أن أنهت آخر كلماتها، فتشاءمتْ، وقامت من مكانها. دخلتْ في آخر الرّواق وغابت. رحتُ ألملم حبّات المسبحة. كان ذلك صعبًا، لأنّ لونَها بلون بلاط المركز. جلستُ على كرسيّ، وأنا أضعها في يدي بمحرمةٍ مهترئةٍ لا تكفي للحفاظ عليها، فراحت حبّاتُها تكرّ واحدةً واحدة، كلّما هوت حبّةٌ هرولتُ إليها، فأصبتُ بعضَها، وغاب بعضُها. وبعضَها رأيتُه تحت أقدام الرّجال الرائحين والغادين، تدوسه، من دون أن تشعرَ به.
“توضّأتُ وصلّيتُ العصرَ والمغربَ والعشاء، ثمّ أخرجتُ سندويشًا جاءني بها الرّجلُ الأسمر الذي لم يقل لي اسمَه أبدًا. وفجأةً، وأنا أقضم آخر لقمة، إذا بعادل بين رجليْن، يجرّانه كما فعلوا حين أخذوه. الله وكيلِك، حين رأيتُه بصقتُ اللقمة من فمي، وقمت مفزوعة، أبوّس يديه ورجليه. ’حبيبي يمّا! فرجيني إيديك، شو هاذ الي بإيدك يا عادل؟‘ وكلّما حاولتُ أن أرفع كمَّه جاء أحد الرّجلين وأنزله بعصبيّةٍ ونفور. بدا عادل تعبًا ولونُه غريبًا، كأنّه رماديّ موشّى بالزّرقة والحمرة. عيناه زائغتان، ورأسه يتدلّى إلى الخلف كأنّه طابة.
“عدتُ إلى البيت. وجدتُ أبا عادل على الكنبة في مكانه، كأنّ الأيّام العشرة لم تمرّ به. كانت لحيتُه أطولَ وأكثرَ تشعّثّا. وضعتُ حقيبتي بجانبه. لم أكلّمه. أخرجتُ السّروالين وفضضتُهما تحت ماء الصّنبور في المطبخ، ثمّ نشرتُهما على حبل الغسيل. رأتني جارتي، فهرولتْ إليّ تطمئنّ. لم أستطع أن أقول الكثير. فهمتْ واستأذنتْ. قلتُ لها أن تعود في اليوم التالي لتشرب فنجان قهوة.
“استعدتُ صورةَ عادل الغريبة. لم أردْ أن أحكي لأبيه كيف بدا هزيلًا. وضعتُ على النار طنجرةً فيها بعضُ اللحم الذي كنتُ قد ادّخرتُه للأيّام الصّعبة. قشّرتُ بعضَ حبّات البطاطا. قليتُها بزيت لم أغيّرْه منذ شهرين، فأعطاها لونًا بنّيًّا جعل طعمَ اليخنة مشوبًا بالاحتراق. تذكّرتُ يديْ عادل المحترقتيْن، فلم آكل شيئًا.
“بعد ثلاثة أيّام كنت أشذّب شجرةَ الليمون التي زرعها أبو عادل في الدار. فإذا بسيّارة الجيب التي أخذتْ عادل تلقيه أمام الباب. جاء أبوه كالسّهم. التقطناه وأدخلناه بعناء. بقي نائمًا ساعات، وأنا ووالدُه نحرس نومَه، ويدمَى قلبانا لكلّ صرخةِ ألمٍ تصْدر منه وهو يقلّب بدنه فوق الكنبة. في المساء أفاق واستطاع الكلام. قال لي جملةً جعلتني أكره العالمَ كلّه والعربَ والأجانب: ’يمّا، وأنا هناك، كنت أحلم بصوتك، سمعت صوتك يمّا يقلّي قوم يا عادل.‘”
***
ما كادت المرأة ذات السِّنّ الذهبيّة الوحيدة تُنهي آخرَ كلاماتها، حتّى أقام المؤذّنُ الصلاة. وقفت المرأتان، من دون أن تنظر أيٌّ منهما إلى الأخرى، وكأنّما تواطأتا على تفادي المزيد من الألم. لكنّ أمّ عادل اشتبهتْ بوجهٍ تعرفه. كان الرّجلُ الأسمر بين الجموع يرفع يديه إلى أذنيه مكبِّرًا، وعلى وجهه علاماتُ الخشوع والإيمان.