المسيحيّون اللبنانيّون بعد أربعين عامًا على حرب 1975 (2014)
لكنْ… لكن في تلك المرحلة لم تكن الأركيلةُ سيّدةَ الساحات، ولم تكن المساعِداتُ الأسيويّاتُ يجمعن الغسيل الوسخ عن الأرض، ولم تكن المخدّراتُ مخدّاتِ الأحلام السعيدة وصولًا إلى الموت السريع، ولم يكن الشذوذ الجنسيّ موضة، ولم تكن النكات السمجة والبذيئة آخرَ صيحة في عالم الحوار وعِلم الكلام، ولم تكنِ الأمّهاتُ رائداتِ نوادي الرياضة والتدليك… حين انطلقت شرارة الحرب الأهليّة عام 1975، قيل إنّ فوفو ونونو (في إشارة إلى أنّ الشابّ المسيحيّ مدلّل غنّوج) لن يقفا في وجه الفلسطينيّين والأحزاب الوطنيّة… لكنّ فوفو ونونو فاجأا العالم، وجعلا الحربَ تطول، والمسيحيّين يصمدون.
في تلك المرحلة،
قبل جينز البطريرك الراعي، وأغنيات الأب فادي تابت، وفضائح الرهبان الجنسيّة والماليّة، كان نسك الأودية والقمم ينجبُ ثورةَ المطران الأحمر غريغوار حدّاد وفلسفة المستقيم الرأي شارل مالك وفكرَ العالِم يواكيم مبارك وشعرَ اللاهوتيّ ميشال الحايك… وقداسة الشهداء.
في تلك المرحلة،
قبل إطلالات ميشال الحايك ومايك فغالي وليلى عبد اللطيف ومالك مكتبي وديمة صادق ومريم نور وتيتا لطيفة وأرزة الشدياق وماريو باسيل وجو معلوف وفادي وكارين ومايا دياب ومريم كلينك عبر شاشات محسوبة على المسيحيّين، كانت برامج فؤاد افرام البستاني وإيلي صليبي وعادل مالك وجان فيّاض وجان كلود بولس وكميل منسّى ورياض شرارة ونجيب حنكش وميشال معيكي ومي منسّى وشارلوت وازن الخوري وجاندارك فيّاض ونهى الخطيب سعادة وكابي لطيف، تؤنسُ ليلَ الناس وتنيرُ عقولهم…
في تلك المرحلة،
قبل “جسد” جمانة حدّاد (العلمانيّة الملحدة) كان (ت) هناك “شعر” أنسي الحاج (عاشق القدّيسة ريتا ومترجم نشيد الأناشيد) ويوسف الخال (مترجم الكتاب المقدّس)، وقبل متسوّلي شارع الحمرا كان هناك صحافيّون حوّلوا المقاهي منابرَ، وشعراءُ حوّلوا الأرصفة قصائدَ، وقبل حجابٍ يُخفي الوجوه كانت تنّورة “الميني جوب” تكشف الساقين …
في تلك المرحلة،
قبل جبران باسيل وستريدا جعجع وميشال فرعون ونقولا فتّوش، كان الأخوان رحباني وزكي ناصيف ووليد غلمية وروميو لحّود يبنون لنا وطنًا شامخًا، ذكيًّا، عفيفًا، هادئًا،…
في تلك المرحلة،
قبل أن يصيرَ خروجُ التلامذة للنزهة تحت الأشجار نشاطًا تربويًّا تفتخر المدرسة بإنجازه، كان المسيحيّون يتبادلون قصص التدريس تحت سنديانات عتيقة تنشر فيئَها على كنائسَ تحضن العِلم… وكنّا مقتنعين بأنّنا معلّمو معلّمي العالم، كما أقنعنا أنطون سعادة وسعيد عقل، لا تلامذة أغبياء أمام مفتّش تربويّ من أميركا (أميركا نفسِها التي تفتّت بلادنا) أو فرنسا (فرنسا نفسِها التي استعمرتنا) نرجوه كي يزور مدارسَنا، ليعلّمنا كيف نعلّم…
في تلك المرحلة،
قبل أن يأسرَ المسيحيّون أنفسَهم بين نفقَي نهر الكلب وشكّا، كانت بعلبّك قِبلة مهرجاناتٍ أنشأتها السيّدة الأولى زلفا شمعون، وكانت صيدا حكايةً من حكايات سعيد عقل، وكانت صورُ أميرةُ البحار جرنَ معموديّةٍ خرجت منه أليسار، وكانت طرابلس عاصمةَ الشمال حيث القلب، لا عاصفةً تحمل غبارَ التعصّب وتذروه في عيون الإنسانيّة…
في تلك المرحلة،
وقبل أرحامٍ على صورة سوبرماركت أطفال، كانتِ النساء يُنجبن رجالًا وأخواتِ رجال، وقبل أثداءَ تشرئبُّ بالسيليكون، كانت الصدور تدرّ حليبًا صافيًا، وقبل رؤوس محشوّة بسخافات التلفزيون وترّهات التحاليل السياسيّة عبر تويتر وواتس آب، كانت العقولُ تحلّق بحثًا عن المعرفة…
في تلك المرحلة، كان فوفو ونونو وأترابُهما أطفالًا عندهم جدّاتٌ يُحكنَ الكنزات ويحكين القصص لا جدّاتٌ مدمنات فيسبوك، وكان عندهم أجدادٌ يزرعون الوعر، لا أجدادٌ يزرعون الطرقاتِ جيئة وذهابًا من الضجر، وكان عندهم آباء وأمّهات يجلسون قربهم عند الصلاة والدرس لا آباء وأمّهات غارقون في قضايا الخيانة والطلاق وتحديد نسب كلّ ولد من الأولاد…
في تلك المرحلة، فاجأ فوفو ونونو العالم بصمودِهما…
أمّا اليوم، فرجاءً لا تضعوا في رأسيهما أنّ الحربَ لعبةٌ سهلة، وأنّ البندقيّةَ خفيفةُ الحمل، وأنّ لبنانَ وطنُ الرسالة، بل حمِّلوهما جوازَي سفر (الشهادة المدرسيّة والجامعيّة أمر بسيط)، ليرحلا إلى بلد آمن، أو على الأقل أقنعوهما بأنّ هذا الوطن لا يشبه في شيء ما كان عليه منذ أربعين عامًا… وأنّنا – ما لم نُطلقْ ثورة روحيّة تربويّة اجتماعيّة فكريّة ثقافيّة – لن “نبقى هون مهما العالم قالوا”… وأنّ لبنان مش “راجع يتعمّر” على قياس لبنانَ أجدادهم، وأنّ الوقوف على أطلالِ “مجد لبنان أعطي له” يتطلّبُ رِجلين ثابتتين على أرض صلبة… لا جناحَي طائرة تحمل الراعي وخرافَه بعيدًا عن مزارات شربل ورفقا والحرديني… ومتاحفِ جبران ونعيمة والريحاني… وأرزات بشرّي وجاج الباروك…