قصف وإنذارات واغتيالات… ثلاثية إسرائيل لمنع العودة إلى جنوب لبنان
صدى وادي التيم – لبنانيات /
يفسر كثير من المحللين السياسيين والعسكريين جميع الأعمال الحربية التي ما فتئت إسرائيل تشنها على المناطق الحدودية الجنوبية بأنها تصب في خانة منع سكان القرى الحدودية، وتحديداً القرى الواقعة في الحافة الأمامية من العودة إلى بيوتهم بهدف خلق منطقة عازلة.
وتتمثل هذه الأعمال بقصف البيوت الجاهزة التي يسعى الأهالي إلى وضعها في أماكن بيوتهم المدمرة كبديل موقت قبل بدء تعميرها، إلى التسلل إلى أطراف هذه البلدات وإطلاق النار في أوقات متفاوتة، لا سيما في ساعات الليل، وكان آخرها تعليق أوراق بأسماء مواطنين تطلب إليهم منع عناصر “حزب الله” من العودة للقرى الحدودية.
فمنذ يومين وجدت عائلة علي حمود أثناء تفقد منزلها المدمر في بلدة كفركلا (قضاء مرجعيون) أوراقاً ألصقت بمادة صمغية على عدد من الجدران، موجهة إلى أحد أبناء البلدة باسم عباس علي صالح (خريس) بمثابة تنبيه وتحذير مفاده “تم استهداف منزلك بسبب استغلاله كمنشأة لمصلحة (حزب الله) الإرهابي. الحزب يعرض حياتك وحياة عائلتك للخطر. الخيار بيدك فلا تسمح لعناصر الحزب بالعودة أبداً وعلى الإطلاق، لا لبيتك، ولا للمنطقة بعامة حتى لا تتعرضون للخطر. لا تجعل عائلتك وأهلك وجيرانك يدفعون الثمن غالياً. وقد أعذر من أنذر”.
وفي اتصال لـ”اندبندنت عربية” مع عباس علي صالح خريس أكد أنه “صاحب الاسم المعني بهذا الكتاب التحذيري”، لكنه لفت إلى أن “البيت الذي علقت على جدرانه هذه الأوراق يعود إلى ابنة أختي وعائلتها النازحة إلى منطقة النبطية وليس لعائلتي. أنا لا أسكن في كفركلا حالياً، ولم أعد إليها بسبب تدمير بيتي وبيت العائلة، ما زلت نازحاً إلى البقاع منذ أكثر من سنة”.
واستغرب خريس اختياره تحديداً في هذا الكتاب، وقال رداً على سؤال بهذا الشأن “اسألوا الإسرائيليين، فأنا لا أعلم لماذا وجهوا إلى مثل هذا الكتاب، ومن أكون أنا أصلاً كي أمنع أحداً من العودة إلى كفركلا؟”.
تدمير البيوت الجاهزة
وشنت مروحية إسرائيلية من نوع “أباتشي” مساء الخميس الماضي ثلاث غارات متتالية على بيوت جاهزة للسكن في بلدة الناقورة في قضاء صور بجنوب لبنان فدمرتها. وتزامناً دوت صافرات الإنذار في المركز الرئيس لقوات “يونيفيل” في البلدة الحدودية. وسبق هذه الغارات في خلال النهار أن استهدفت مسيرة إسرائيلية سيارة من نوع “رابيد” على طريق بنت جبيل – يارون في محلة الدورة، وأصابتها من الجهة الخلفية. وأشارت وزارة الصحة اللبنانية إلى سقوط جريحين جراء الغارة. وبعد الظهر استهدفت الطائرات الإسرائيلية سيارة أخرى من نوع “رابيد” في بلدة علما الشعب الحدودية (قضاء صور). وأعلنت غرفة طوارئ وزارة الصحة أن الغارة أدت إلى إصابة مواطن بجروح.
وفي الـ23 من مارس (آذار) الماضي استهدفت طائرة مسيرة إسرائيلية منزلاً جاهزاً في بلدة الناقورة، كان وضعه قبل يوم من استهدافه أحد أبناء البلدة فوق ركام منزله فدمرته. وكذلك أقدم الجيش الإسرائيلي ليلاً على استهداف عدد من المنازل الأخرى الجاهزة في بلدة شيحين (في قضاء صور)، كما قصف أيضاً خيمة خاصة بالمناسبات قيد الإنشاء من دون وقوع خسائر بشرية. واستهدفت مسيرة إسرائيلية صباحاً سيارة من نوع “كيا” في عيتا الشعب (بنت جبيل)، مما أدى إلى مقتل سائقها حسن نعمة الزين، بعدما دمرت غارة أخرى فجراً مقهى يملكه الزين في البلدة الحدودية.
ويتنقل الاستهداف الإسرائيلي للبيوت الجاهزة من قرية حدودية إلى أخرى، فقد سبق أن استهدفت مسيرة إسرائيلية بيوتاً جاهزة في بلدة كفركلا، إذ استهدف الطيران المسير الإسرائيلي فجر الأحد الـ30 من مارس الماضي عدداً من البيوت الجاهزة في بلدة كفركلا الحدودية، مما أدى إلى تدميرها. وكانت بلدية كفركلا قد وضعت إحداها كمركز لـ”مجلس الجنوب” بغية استقبال مراجعات الأهالي ومستنداتهم في عملية مسح الأضرار.
وسبقها ليلاً تضرر عدد من المنازل والسيارات جراء تمشيط إسرائيلي مكثف بالأسلحة الرشاشة على الحي الشرقي في بلدة كفرشوبا (قضاء حاصبيا). وألقت كذلك مسيرة إسرائيلية قنبلتين صوتيتين باتجاه تجمع للأهالي في ساحة بلدة يارون في قضاء بنت جبيل. وصباح الأربعاء الماضي استهدف الجيش الإسرائيلي بيتاً جاهزاً في ساحة بلدة يارون عبر مسيرة، مما أدى إلى تدميره من دون وقوع إصابات.
حرب المنطقة العازلة
يرى النائب السابق على لائحة “حزب الله” المحامي نزيه منصور أن “ما يفعله الإسرائيليون من تهديدات متواصلة لأبناء القرى الحدودية، من قصف واغتيالات وتدمير البيوت الجاهزة وإبقاء مسيراتهم وطائراتهم الحربية في الأجواء الجنوبية والتصعيد المستمر ووضع رسائل تهديد للعائدين هو جزء من حرب نفسية وعسكرية وإعلامية وسياسية تهدف أولاً إلى إيجاد منطقة عازلة أو شبه معزولة بين لبنان وفلسطين، وعدم السماح بعودة الناس وتيئيس البيئة الشيعية وتحديداً بيئة “حزب الله”، وإيصال الجنوبيين إلى مرحلة متقدمة من القلق والخوف بجعل مناطقهم غير آمنة أو لن تكون كذلك، فيجب ألا تعودوا إليها”.
ويضيف منصور “إسرائيل لديها أهداف استراتيجية من وراء هذا التكتيك، فهي تريد فرض أمر واقع على لبنان على المستويين الجغرافي والسياسي كرد على الآراء الرافضة للتطبيع أو الذهاب معه في حوار. ولبنان في موقع ضعف، ولن نختبئ خلف إصبعنا، وعندما نصل إلى مرحلة تشبه تجريدنا من كامل ثيابنا، من كل شيء، تبقى قدرة القوى المناوئة لإسرائيل على الصمود في أخطر مرحلة من مراحل عض الأصابع، لذلك لا أتوقع حرباً إسرائيلية كبيرة جديدة، بقدر اكتفاء الإسرائيلي باستباحة الاعتداء على لبنان متى يشاء وبأساليب مختلفة وسط أجواء دولية وإقليمية تطلق يده ولن تردعه”.
ويعتبر منصور “ما جرى في مدينة صيدا فجر الرابع من أبريل (نيسان) الجاري، من عملية استهداف القيادي في حركة (حماس) حسن فرحات وولديه، رسالة كذلك إلى البيئة السنية في لبنان، ولمن يؤيد منها (حزب الله) أو يتعاطف معه، وأيضاً جميع اللبنانيين للانفكاك عن الحزب. إنه حصار كامل وعزل تام حتى على المستوى الدولي والإقليمي، وتبقى القدرة على الصمود هي من ترسم معالم المرحلة المقبلة، حتى لو قدر اليوم للإسرائيلي استباحة لبنان من الجو والبحر والبر، فثمة واقع لن يدوم كثيراً”.
الناقورة ورعب العودة
يقول مختار بلدة الناقورة محمد عواضة لـ”اندبندنت عربية”، إن “كل واحد من أبناء الناقورة والقرى الجنوبية الحدودية لديه رغبة كبيرة في العودة السريعة إلى قريته وبيته، وإلى أرضه وجيرانه، فالناس ذاقت الأمرَّين جراء النزوح المتواصل وعدم الاستقرار في منازل ليست منازلهم، ويتكبدون مصاريف عالية للعيش خارج بيوتهم الأصلية، لكنهم في الوقت عينه بدأوا يشعرون بالخوف والقلق مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية التي تدل على نهج واضح يقضي بمنع الناس من العودة بشتى الوسائل والأساليب، وهذا مخططهم ليس تجاه الناقورة فحسب، بل والقرى الحدودية برمتها سعياً إلى خلق منطقة عازلة، وهو ما عبروا عنه أكثر من مرة”.
ويعدد المختار عواضة “المحاولات الإسرائيلية لمنع عودة السكان، والتي تتجلى بتحليق مكثف ودائم طوال النهار والليل للطيران المسير في سماء الناقورة، وقصف البيوت الجاهزة بواسطة مروحيات (الأباتشي) منذ يومين وتدميرها ثلاثة بيوت، وقد نجا أصحابها بعناية إلهية بسبب وجودهم خارجها لحظة استهدافها، وإلا كانوا سيلقون حتفهم حتماً لو كانوا في الداخل. هذه الحادثة تكررت أكثر من مرة في الناقورة وغير الناقورة، والغاية منع الناس من العودة إلى هذه البيوت الموقتة. وهم دمروا سابقاً وحدتين لمواطنين من البلدة وأخرى للبلدية، ناهيك باعتداءات تحصل بين الحين والآخر تجعل العائدين إلى الناقورة في حال حذر وقلق، وهذه أهداف العدو، لا يريد لسكان الناقورة العودة إليها، وكذلك لسكان راميا وكفركلا وجميع القرى الحدودية”.
يؤكد المختار عواضة أنه لا “خيار حالياً أمام العائدين إلا السكن في بيوت جاهزة بسبب تدمير منازلهم بصورة كلية، وأنا واحد منهم، وما يمنعني من العودة هو أن بيتي مدمر بصورة تامة. جرت محاولات للعودة إلى بيوت جاهزة، لكن العائدين يواجهون بالنار والتهديد بالموت، هذا القصف للبيوت الجاهزة هو تهديد واضح لحياة أصحابها”.
شهود “الواقع المرير”
وعن دور قوات “يونيفيل” التي يقع مقرها الرئيس في وسط الناقورة بمنع الاستهداف الإسرائيلي يأسف المختار عواضة “من أن الاعتداءات التي تحصل على الناقورة من الطائرات الإسرائيلية من فوق البحر تعبر كذلك فوق مقر قوات حفظ السلام، لكن السؤال الذي يطرحه أبناء الناقورة: أي سلام تحفظه هذه القوات؟ وبماذا تنفعنا صفارات الإنذار التي تطلقها في أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية؟ إن الناقورة عاصمة قوات الطوارئ الدولية في لبنان، لكن ليس للناقورة من يحميها، فالبلدة تتعرض دائماً للقصف والتدمير من الإسرائيليين، وجنود حفظ السلام ليسوا إلا شهوداً على واقع مرير من دون أدنى رد فعل”.
ويؤكد رئيس بلدية عيتا الشعب في قضاء بنت جبيل محمد سرور أن “الإسرائيليين يتقدمون بين الحين والآخر من مواقعهم في الراهب والحدب نحو جدار بلدتنا ونواحيها الجنوبية. وكانت آخر اعتداءاتهم صباح الـ23 من مارس الماضي باغتيال الشاب حسن نعمة الزين من قبل مسيرة إسرائيلية استهدفت سيارته من نوع “كيا” بعد وقت قليل على استهداف مقهى متواضع افتتحه حديثاً في محلة المطل في عيتا”.
ويضيف سرور “هناك بيوت جاهزة في عيتا نسعى إلى أن تكون مراكز موقتة للبلدية والخدمات الصحية ومراجعات الأهالي، ونحن إذا فكرنا ببيوت جاهزة لجميع سكان عيتا فهذا يعني أننا نفكر بـ14 ألف بيت، لذلك لم تعد إلى عيتا الشعب سوى أربع عائلات سرعان ما ستغادر إذا ما حصل أي توتر أمني”.
مسح وسط الخطر
نسأل رئيس “مجلس الجنوب” هاشم حيدر عن عملية مسح الأضرار في قرى الحافة الأمامية من الحدود الجنوبية وسط استمرار التوتر الأمني، فيقول “على رغم ما تتعرض له مناطق الجنوب الحدودية، لا سيما قرى الحافة الأمامية، ومع كل الأخطار المتوقعة، لا تزال لجان مجلس الجنوب تقوم بمهامها الإحصائية ومسح الأضرار. ومنذ أيام قليلة تعرضت فرقنا في الناقورة لعملية إطلاق نار من المواقع الإسرائيلية، مما جعلها تتوقف لساعات ثم تواصل عملها في اليوم التالي. طبعاً، وقت يشعرون بالخطر يحاولون مداراة أنفسهم ثم يتابعون لاحقاً عمليات المسح”.
ويتحدث هاشم عن استهداف أحد البيوت الجاهزة “الذي قدمته بلدية كفركلا لمجلس الجنوب كمركز لمراجعات الأهالي، مما أدى إلى تدميره. لكننا سنكمل هذا العمل في جميع القرى الحدودية التي دخلت إليها لجان المسح التابعة لنا باستثناء بلدات قليلة لم نستطع الدخول إليها بسبب الوضع الأمني واستمرار الخطر الإسرائيلي”.
ويؤكد هاشم أن “مسح الأضرار عمل ضخم إذا ما نظرنا إلى حجم الدمار الكبير، لكننا في فترة وجيزة سننهي أعمال المسح والكشف”. مضيفاً “نحن لا ندخل إلى هذه القرى إلا بمعاونة بلدياتها، ونعتمد في القرى المدمرة على الخرائط الجوية، إذ يظهر كل بيت بموقعه ومساحته وحدوده، فضلاً عن المستندات التي تجمعها البلدية، والتي تدعو أصحاب البيوت المدمرة أو المتضررة إلى مرافقتنا إن استطاعوا وتقديم ما يملكون من إفادات عقارية وهويات ومستندات وأوراق ثبوتية وغيرها. أما ما أصاب البنى التحتية في هذه القرى فقد أصبحت لدينا معلومات وافية نسميها تقديرات أولية، وأجرينا إحصاء كاملاً للمدارس المهدمة أو المتضررة، والمستشفيات وشبكات المياه والخزانات وشبكات الكهرباء”.
ويشير حيدر إلى أن لجان المسح “كونت إحصاءً دقيقاً للمناطق التي دخلت إليها، وهي على وشك الانتهاء إذا لم تحصل تطورات أمنية، وتبقى المناطق التي لم نستطع حتى الآن الدخول إليها، لكن يمكنني الجزم ألا بيت أو مبنى سَلِمَ في القرى الحدودية، وتحديداً في الحافة الأمامية من أضرار الاعتداءات الإسرائيلية، وإن بصورة متفاوتة بين تدمير كلي أو جزئي أو أضرار بسيطة، وهذا ينطبق على عدد كبير من القرى الحدودية التي جرى مسحها”.
في مرمى النيران
عاد المراسل الصحافي أحمد غانم إلى بلدته كفرشوبا منذ شهر ونيف، ويحاول الاستقرار هنا على رغم عدم وجود أدنى ضمانات من الخطر الإسرائيلي المحدق. يقول “كان عليَّ أن أترك بيتاً أستأجره في بلدة كوكبا (حاصبيا) بمبلغ 340 دولاراً طوال فترة النزوح. رممت غرفة ومطبخاً وحماماً في بيت أهلي هنا كي أستطيع أن آوي إليه عندما أعود من عملي”.
يؤكد غانم أن “كفرشوبا، منذ إعلان وقف إطلاق النار في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وحتى اليوم، لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية عليها وعلى أراضيها الزراعية، وهذا الأمر حدث منذ قليل، إذ تعرضت أطراف البلدة لرشقات رشاشة من المواقع الإسرائيلية، وصلت إلى محيط البيوت الواقعة عند التخوم الجنوبية. كل يوم يحصل هذا الأمر وكأن الإسرائيليين يسعون إلى رسم حدود أمنية جديدة، أو مسافة عزل معينة لمنطقة ممنوع على أبناء كفرشوبا الوصول إليها، وهي مناطق زراعية بامتياز. وكأنهم يريدون إعلامنا أن هذا النوع من الروتين، ومن الاعتداءات، سنبقى نعيشه إلى وقت غير محدد، ولن تعود حياتنا كما كانت قبل الحرب وممنوع أن نصل إلى حقولنا وبساتيننا”.
ويعدد الصحافي غانم المواقع الإسرائيلية التي تتعرض لكفرشوبا “وتقع في أراضيها المحتلة أصلاً، وهي السماقة ورويسات العلم ورمثا، وتحديداً في الليل، بعد التاسعة أو العاشرة وتستمر حتى ساعات الفجر. ولقد عثر الجيش اللبناني على كاميرات مراقبة وأجهزة تجسس في مناطق قريبة من الأحياء السكنية، وهذا يدل على أن القوات الإسرائيلية تتقدم بين الحين والآخر إلى مناطق قريبة”.
عادت إلى كفرشوبا بحسب غانم “175 عائلة، لكن القلق والخوف حاضران دائماً. الناس هنا مكبلة لا قدرة لها على ترميم بيوتها أو تعمير ما تهدم، هم عادوا مرهقين بعدما جردهم النزوح من أموالهم أو أوقعهم تحت ديون، لذلك آثروا العودة كيفما حصل بعدما ذاقوا الأمرين، ولن نحكي عما تعانيه كفرشوبا حالياً من مشكلات بالمياه والكهرباء والمجاري الصحية، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء بسبب استمرار الخطر الإسرائيلي عليهم وعدم تمكنهم من الوصول إلى حقولهم الزراعية وبساتينهم”.
كامل جابر – اندبندنت عربية