الياس الرّحباني حافرٌ لكينونته الإبداعيّة منفردًا متفرّدًا بقلم”سلام اللحام”
صدى وادي التيم-رأي حر بأقلامكم/
منذ ما يقارب العامين غادر المبدع الياس الرّحباني أرض الفناء لينتقل إلى الأخدار السّماوية. لقد رحل الياس الإنسان والفنّان المثقف المتواضع المؤمن والذي كانت له فلسفته الخاصّة ونظرته العميقة في هذه الدُّنيا . وهو الذي حفر كينونته الإبداعيّة منفردًا ومتفرّدًا، متّكئًا على ثقافته الموسيقيّة وهو صاحب النكتة الظريفة والطّلة الودودة والفنّان الموسوعة الذي يتميّز بقوة ذاكرته ودقة معلوماته وغزارة أفكاره وكلامه الصّريح الجريء والواضح. لقد غاب صاحب الإبتسامة المشرقة والضحكة العبقريّة والموسيقى الخالدة، تاركًا لنا إرثًا موسيقيًّا لا يُستهان به.
تلقى الياس الرّحباني دروسه الموسيقيّة في الأكاديميّة اللّبنانيّة أولاً ثم في المعهد الوطني للموسيقى، وقد تخرج عام 1956 بالإضافة لتلقّيه دروساً في الموسيقى طوال عشرة سنوات تحت إشراف أساتذة فرنسيّين. في العشرين ربيعًا التحق بإذاعة “بي بي سي” البريطانية (الفرع اللبناني) وباشر العمل معها رسميّاً، فلحّن أربعين أغنية وأنجز ثلاثة عشر برنامجًا. ولقيت أعماله ترحيبًا في الأوساط الموسيقيّة والفنّية.
عام 1962 كان محطة رئيسيّة في مساره، فهو بدأ حينذاك الخروج إلى عالم الاحتراف الحقيقي، وراح يتعاون مع مغنّين معروفين، بعضهم ينتمي إلى مدرسة الأخوين الرّحباني، ليباشر بعدها العمل كمخرج ومستشار موسيقي في إذاعة لبنان، وتعرّف إلى نينا خليل التي أصبحت زوجته وأم ولديه، الفنانيْن غسان وجاد. وكان عمله في إذاعة لبنان قد فتح أمامه مجال التخصُّص في الشُّؤون التقنيّة، لا سيما في ما يتعلق بعالم “الأستوديو” والإخراج والإنتاج، وما لبث أن تعاون مع شركات لإنتاج الأسطوانات.
بدا الياس الرّحباني منذ انطلاقته في عالم التلحين وكتابة الأغاني أقرب إلى الموجات الفنّية الحديثة، من دون أن يتخلى عن ذاكرته الرحبانيّة، واتّجه إلى تلحين أغنيات بالفرنسيّة والإنجليزيّة، متّبعًا طريق الموضة الغنائية الرّائجة، وقد أنجز أغنيات تسمّى بـ”الفرنكو أراب” كانت تلقى رواجاً لدى جيل الشباب. وراجت أيضاً موسيقاه الإعلانّية، التي تمكنت من فرض نفسها بجرأة وقوة، حتى ليمكن القول إنّه أسّس مدرسة في هذا المجال، ومن المعروف أن له نحو 2500 أغنية ومعزوفة في الموسيقى التصويريّة، وقد بلغت الأفلام التي عمل فيها خمسةً وعشرين، منها أفلام مصرية، من أشهرها موسيقى فيلم “دمي ودموعي وابتسامتي” وفيلم “حبيبتي” وفيلم “أجمل أيام حياتي”، عطفاً على المسلسلات الكثيرة، ومن أشهرها مسلسل “عازف الليل”، الذي ما زالت موسيقاه يتردّد صداها حتّى اليوم.
وضع إلياس الرحباني ألحاناً تتجاوز الخمسين للشحرورة صباح، وكان تعامله معها بمثابة إنطلاقة جديدة له، ومن الأغاني: “كيف حالك يا أسمر”، “شفتو بالقناطر”، و”يا هلي يابا”، “قالو عني مجنوني”، “نوسي نوسي”، “جينا الدار”، “ولد يا ولد”…. ونجح في تلحين وإعداد أغنيات فيروزيّة ومنها: الأوضة المنسية، يا طير الوروار، كان الزّمان، كان عنا طاحون… وغنّى من ألحانه وديع الصافي (يا قمر الدار، قتلوني عيونا السود)، نصري شمس الدين، ملحم بركات وماجدة الرومي، وكان له تعاون مع جوليا بطرس وباسكال صقر، اللتين غنّتا له بالعربيّة والفرنسيّة إلى جانب سامي كلارك وسمير حنا الذي غنّى أكثر من ألبوم غنائي له. هذا بالإضافة إلى إنتاج وتأليف مسرحيات عدّة منها: وادي شمسين (مع المطربة صباح)، سفرة الأحلام (مع مادونا)، و”إيلا”. في عام 2001 قدّم نشيد الفرنكوفونية كتحية لـ52 بلداً شاركت في القمة الفرنكوفونية التي عقدت في لبنان. وفي مجال الشعر، صدر له عام 1996 كتاب “نافذة العمر” ويضمُّ قصائد وجدانيّة وإنسانيّة الطابع.
ختامًا، لقد حفر الياس الرحباني كينونته الإبداعيّة في عالم النّغم والألحان والموسيقى التّصويرية وأغاني الأطفال التي أظهرت الرُّوح الطفوليّة المرحة إلى جانب الخلفيّة التُّراثية الحيّة للثقافة الشّعبية بمسحة أنثروبولوجيّة باقية في ذاكرة الوطن والإنسان.