قراءة من كتاب ” كمال جنبلاط.. الإنسان والصّوم”.. رمضان والفضائل والزّهد عند الموحّدين المسلمين ..بقلم الشيخ الدكتور سامي أبي المنى
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم
إنّه الشّهر الفضيل، شهر رمضانَ المبارَك!.. حيث تترسّخَ معاني وأهميةُ الصّوم كفريضةٍ إسلاميةٍ، وكوسيلةٍ لمدّ الإنسان بطاقةٍ روحية، وتزكية النفس والارتقاء بها، وكسبيلٍ لوقاية الجسم من الأمراض، وكمدخلٍ لتربية الشخصية الإنسانية وإعدادها إعداداً كاملاً، ماديّاً ومعنويّاً وعقليّاً ونفسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، على ما يقول كمال جنبلاط، معتبراً: “أنّ الصومَ هو حمّامُ الجسدِ الداخلي، الذي يًضفي على العقلِ والحواسِّ الصفاءَ والتجرُّد”.
لقد جاء كتابُ ” كمال جنبلاط.. الإنسان والصّوم”.. وافياً في التعريف بالصوم وتناوُلِ معناهُ ومفاهيمَه عند الأُمم والشعوب قديماً وحديثاً، وفي الأديانِ والشرائعِ السماوية التي قالت كلُّها بالصوم وأهميّتِه، وإن اختلفت المواقيتُ والطرق، إلى أن جاءت الفريضةُ الإسلاميةُ لتؤكّدَ عليه كأحد أركان العبادات الأساسية، إضافةً إلى الشهادة والصلاة والزكاة والحجّ، حيث لكلّ فريضةٍ أحكامٌ وأصول، ولها أبعادٌ ومعانٍ تتجاوزُ الالتزامَ الظاهرَ بها إلى ما هو أبعدُ وأعمق، أي إلى غايتِها وحقيقتِها، وهو ما أشار إليه مؤلّف الكتاب الأستاذ حسن بحمد في معرض كلامِه عن “فلسفة الصوم والزهدِ عند الموحدين المسلمين”، كما أسماه.
إنّ فضائلَ الصوم عند الموحِّدين هي ذاتُها التي يشير إليها الإسلام الذي هو “الدينُ عند الله” ولا دينٌ سواه، أي الإسلامُ بمعناهُ الأشملُ والأوسعُ، والذي فيه روحٌ من المسيحيةِ والشرائعِ السماويةِ والفكر الإنسانيِّ الذي سبق. وهذا الإسلامُ غايتُه التوحيد، والتوحيدُ هو غايةُ الأديانِ كلِّها، كما أنّ الحكمةَ هي غايةُ الكتاب، فلكلِّ فريضةٍ غاية، والموحِّدُ الحقُّ هو مَن يسعى ويسافرُ في درجاتِ السّعيِ والعبادةِ والتأمّلِ والتحقّقِ والممارسة، ومَن يحاولُ الارتقاءَ الدائمَ لكي يَبلغَ تلك الغاياتِ، بإيمانٍ وجِدٍّ واجتهادٍ وعونٍ من الله تعالى.
وكما أصابَ المؤلّف الأستاذ حسن بحمد في ربط الصّوم بالزّهد عند الموحِّدينَ المسلمين، كذلك نجح في الإشارة إلى درجات الصّوم الثلاث، التي يضعُها الموحِّدون نُصبَ أعينِهم، ويؤكّدون عليها، وهو ما يتناسبُ مع مسلكِهم الروحانيِّ اللطيف، والذي يستمدُّ جذورَه من الحديث النبويّ الشريف القائلِ بدرجاتِ الإسلام الثلاث، أي الإسلامِ والإيمان والإحسان، فإذا كان الإسلامُ هو الشهادةُ والقولُ بالفريضة وأداؤُها، والإيمانُ هو الاعتقادُ بوحدانيةِ الله وبالرسُلِ والكُتبِ المقدّسةِ واليومِ الآخِرِ والقدر، فإنّ الإحسانَ، أي التوحيد، هو أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإذا لم تكن تراه فإنّه يراك، وفي هذا الأمرِ منتهى الصّدقِ في العبادة، وغايةُ الإسلامِ والإيمان. ومن هنا تأتي درجاتُ الصّومِ المُشارُ إليها، وأولُها درجةُ صومِ العموم، عن الأكل والشرب والشهوات، وثانيها درجةُ صومِ الخصوص، أي كفُّ البصر والسّمع واللسان واليدِ والرِّجل عن الآثام، وثالثُها درجةُ صومِ خُصوص الخصوص، أي صَونُ القلبِ عن غيرِ ذِكرِ الله، والعيشُ معه، وهو ما يسعى الموحِّدُ لأن يبلغَه، وما يؤكِّدُ شيوخُنا الثِّقاتُ الأطهارُ عليه.
وإذا كان شهرُ رمضانَ المبارَك محطةً سنويةً للعودة إلى الذات والمجاهدة في سبيل تطهير النفس والجسد من الآثامِ والرواسب، فإنّ للمسلم الموحِّد أياماً أُخَرَ لا بدّ له من الاستفادةِ منها، وهي موصولةٌ بالفريضة والحدَثِ الدينيِّ، وأوّلُها أيام العُشرِ المبارَك في بداية شهرِ ذي الحِجّة، والتي تترافقُ مع فريضة الحجِّ وتمهّدُ ليوم الأضحى المبارَك، وغيرَها من الأيام التي يُستَحَبُّ فيها الصيامُ والمجاهدةُ وذكرُ الله، غير أنّ ذلك لا يُمكن حصرُه بأيامٍ معدوداتٍ وزمنٍ معيَّن، فالأيامُ والساعاتُ والثواني والأزمنة مفتوحةٌ أمام المؤمن الموحّدِ للمجاهدة والعبادة والاجتنابِ والاكتساب، وحَسبُ الموحِّد أن يكونَ طائعاً راضياً مسلِّماً، عاقلاً أمورَه بعلمٍ ومعرفةٍ وحكمةٍ، وتلك هي وظيفةُ العقل، والعقلُ هو ما يميّزُ الإنسانَ عن سواه من المخلوقات، وما يُميّزُ المسلم المؤمن الموحّدِ في مسيرة التزامِه الدينيّ وارتقائه العرفانيّ وتحقّقِه التوحيديّ.
أصاب الأستاذ حسن بحمد في وصفه مجتمعَ الموحدينَ الدروز، لكنّه أوجزَ في التعريف، إذ ليس الكتابُ مخصَّصاً للحديث عنهم، ولكنّ سمةَ الزهد التي تكلّمَ عنها تُلقي الضوءَ على مجتمعِهم الديني، وعلى مسلكِهم العرفاني، المتأثّر بمسالك المتصوّفينَ، وتربطُ الصّومَ بمهمّة التعفّف وضبطِ النفسِ عن الرغبات الجسدية والدنيوية، هذا ما أُشيرَ إليه في كتابِنا “المظاهرُ الثقافية عند الموحِّدينَ الدُّروز”، في سياق التعريفِ بحياة الشيوخ أربابِ مسلكِ التوحيد والعرفان، الذين يتميّزون بعيش “التقوى والصدق والأدب والمحبة والتوكّلِ والورع والزهد والرضى… وإقامة التوازن بين الخوف والرجاء”، والبدء بالصّيام، أي التخلّي عن الملذات، وصولاً إلى التحلّي بما هو أحسن، وسعياً للتجلّي بما يعكسُ نورَ الحقّ في صفحة القلبِ النقيّة. ولعلّ خيرٍ مثالٍ عن أولئك الأصفياء البررة، وأفضلَ قدوةٍ في مجالِهم، كان أحدُ أبناء هذه المنطقة وأحدُ أخلصِ السالكينَ العارفين الشيخ محمّد أبو هلال الملقّبُ بالشيخ الفاضل، والذي كان الصّومُ عندَه وسيلةً لا غاية، فانقطع عن الدنيا وغاب عن ذاتِه وملذّاتِه، وانشغل بذكرِ الله وحبِّه، وهذا ما استشهد به الكاتبُ الصديق، وأجمل ما أورده في تلك الصفحة من الكتاب (ص 78)، قولٌ لكمال جنبلاط يرى فيه أنّ الذاتَ تتأملُ الذات “سواءٌ في الصمت أو في الحياة العادية، وأنّ عليها بموازاة الجهاد الأكبر أن تخوض غِمارَ الجهادِ في سبيل حاجة العقل… لاكتشاف ماهيّتِه التامّة…” وتلك هي الصفةُ الملازمةُ للعرفان ذاتِه الذي هو محضُ اختبارٍ لا يتحقّق إلا في سرّ البصيرة العقلية والخاطر، ومسلكُ الحكمة والتوحيد يستوجبُ هذا الترفّع، وهذا هو مسلكُ الموحّدين”.
وإذا كان الصّيامُ فريضة، وهو كذلك، فإنّ له عند كمال جنبلاط أدباً خاصّاً به، وهو ما أسماه “أدبَ الصّيام”، معتبراً أن الصّيامَ الحقيقي هو أدبُ الحياة، إذ في صيام الفكر سعادةُ الجَنان، وفي صيام الجسد صحتُه”، وأنّ الصّيامَ “لا يكون بالانقطاع عن كلِّ شيء، بل بالزّهد في كلّ شيء”، كي لا يكونَ هناك حجابٌ بين الإنسان وحقيقة ذاتِه. وليس غريباً على مفكّرٍ عرفانيٍّ ككمال جنبلاط أن يغوصَ في معاني الحياة، وأن يتعمّقَ في أدبِ كلِّ بابٍ منها، من السياسة إلى التغذية إلى البيئة إلى الرياضة إلى التربية إلى الحبِّ والزواج، وصولاً إلى أدب الصمت والصّوم عن الكلام، ولعلّه أحوجُ ما يحتاجُ إليه معظمُ الناس، في وقتٍ كثُرَ فيه الكلام وقلّتِ المروءاتُ والأعمال.
لن أُطيلَ أكثرَ، وحسبي العودةُ إلى الموضوعِ لأنهيَ بما ورد في كلمةٍ لسماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن، أوردها المؤلِّفُ (ص 81)، قائلاً: “وإذا كان الواجب عند أهل الدين التحلّي بالأدب، من رياضة النفوس، وتأدية الجوارح، وطهارة الأسرار، وتجريد الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، فإنّ لدى الموحّدين الثِّقات ما هو أبعدُ في التحقيق، من طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظِ الوقت، وقلةِ الالتفات إلى العوارض والطوارق، واستواءِ السرّ مع العلن، وحُسنِ الأدبِ في مواقف الطلب…”. وفي هذا المنحى من الأمانة والصدق والترقّي يكمنُ سرُّ الصائم ويبرزُ شرفُ الصّيام، ويُفهَم معنى التقوى التي أراد اللهُ جلّ وعلا أن تكون غايةَ الصّيامِ، بقولِه تعالى: “يا أيّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكمُ الصّيامُ كما كُتِب على الذين من قَبلِكم لعلّكم تتّقون”. صدق اللهُ العظيم.
** الأمين العام لمؤسسات العرفان التوحيدية
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي