التوطين لم يعد وهمياً.. هذا تأثير “صفقة القرن” على ثورة 17 تشرين
قبل الحديث عن تأثير “الصفقة” على لبنان، لا بد من كلمتين عن الصفقة نفسها: نص صفقة القرن مشروع وهمي غير قابل للتحقق، وهو غير موضوع ليتحقق. أسباب ذلك كثيرة أولها الرفض الفلسطيني، وثانيها أنه غير واقعي إطلاقاً. لكن ذلك لا يقلل من خطورته. فأهدافه الحقيقية ونتائجه بالغة الخطورة.
دفن فلسطين
فهو إعلان وقح عن مستوى نوعي جديد من الشراكة الأميركية – الإسرائيلية، متفلت من معايير الديبلوماسية والقانون الدولي. وهدفه شطب القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني كلياً. وهو بهذا يشبه وعد بلفور المؤسس للكيان ا ل ص ه ي و ن ي. وهو إعلان عن تغطية أميركية لسياسة الحكومة الإسرائيلية للتوغل في سياسة الاستيطان والضم وتكريس يهودية دولة الكيان ال ص ه ي و ن ي. ثم إنه يقترن بالطلب الى الفلسطينيين والعرب وكل مؤيدي حقوق الشعب الفلسطيني التسليم النهائي والكامل بمصالح إسرائيل، على حساب إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني، وإعلان الفلسطينيين والعرب قبول ذلك.
عدد غير قليل من الدول العربية ستقبل بهذا المشروع صراحة أو ضمناً، مع احتمال استجابتها للمطالب الأميركية – الإسرائيلية التفصيلية المتضمنة في الصفقة، لاسيما ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، وضمان أمن إسرائيل والاعتراف بها. لكن هناك معارضات مختلفة، بما فيها من أوساط سياسية وشعبية في المنطقة وأوروبا والعالم.
ليس الهدف تحقيق المشروع، بل إطلاق مساره السياسي. وهو سوف يؤجج الفوضى والنزاعات في دول المنطقة، ويغذي أوهام المواقف الشعبوية والخطابات الفارغة والدعوات إلى أشكال عمل ومواجهة فاشلة، بل سيضاعف الفشل والفوضى والتفكك في دول ومجتمعات المنطقة.
التوطين لم يعد وهمياً
في هذا السياق يتأثر لبنان: ستنتعش الخطابات الجوفاء، وتنشأ تصورات متباينة لكيفية التعامل مع آثار الصفقة، وكيفية تفاعل ثورة 17 تشرين معها.
منذ بداية ثورة 17 تشرين، كان التركيز على قضايا التغيير الداخلي في النظام السياسي وعلى الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية. وتجنبت الثورة والثوار إثارة أي مسألة أخرى تتصل بالصراع الإقليمي أو المحاور المرتبطة به. وكذلك التعامل مع قضايا داخلية حساسة ومهمة جداً: اللاجئين السوريين والفلسطينيين. علما ان الفلسطينيين في لبنان تجنبوا بدورهم التفاعل الصريح مع الثورة اللبنانية، انطلاقا من قناعة أن الشأن لبنانياً صرفاً، وتجنباً لإثارة أي خلاف داخل الصف اللبناني.
لكن صفقة القرن تفرض عدم تجاهل موضوع اللاجئين الفلسطينيين، لأن توطينهم لم يعد هاجساً وهمياً عند بعد الأطراف اللبنانية، بل صار خطراً فعلياً بسبب الصفقة. لذا يمكن بروز مواقف متعددة، مع احتمال توظيفها في الصراع السياسي الداخلي، وفي صراع السلطة وأطرافها ضد ثورة 17 تشرين، إضافة إلى تباينات موضوعية قد تحصل بين مكونات الثورة نفسها.
مواقف متوقعة
أول المواقف المتوقعة هو الخطابات الجوفاء الخشبية التي تندد وترفض الصفقة. وبعضها قد يصدر عن من لا يعرف عنها أي تأييد سابق للحقوق الفلسطينية (التيار الوطني الحر مثلاً). وهؤلاء أطراف في تركيبة السلطة والحكومة الحالية. وهم يريدون توظيف خطابهم ضد الصفقة ضد ثورة 17 تشرين، لتجاوزها تحت ستار أولويات المواجهة الكبرى ضد الصفقة، وعودة الصراع إلى أصله وقضيته المركزية: القضية الفلسطينية. وسوف يكون لذلك أثر على موقف أطراف قومية ويسارية، فتنخرط في مسار المزايدة في حب فلسطين، لتساهم – عن قصد أو دون قصد – في تغذية التوظيف اللبناني الداخلي ضد الثورة ومطالب التغيير وإعادة تشكيل مؤسسات السلطة.
وقد يندفع بعض اليسار والتيارات القومية المقتنعة بأحقية القضية الفلسطينية بقوة نحو ترجمة تأييدها هذا في تزخيم مشاركتها في ثورة 17 تشرين اللبنانية، ببعد قومي وأممي، على غرار التزخيم الطبقي في الحملة على المصارف. لكن، إذا كانت الحملة ضد المصارف مكوناً أساسيًا في التغيير الداخلي، فإن صفقة القرن تتجاوز البعد الداخلي، وتفتح المجال لتفاعل ومشاركة مباشرين للفلسطينيين في لبنان للمشاركة في الشارع مع اللبنانيين.
من منظور حقوقي وواقعي، لا يمكن وضع حظر على مشاركة المقيمين في لبنان في حراك شعبي واسع كـ17 تشرين. فالأزمة السياسية والمالية والاقتصادية اللبنانية تشمل المقيمين في لبنان جميعاً. وعدم مشاركتهم الصريحة لم تكن لنقص في مشروعية المشاركة، بل عن قناعة بأن عدم المشاركة المباشرة أفضل للثورة. لكن يجب التنبه إلى عدم تحويل إدراج رفض صفقة القرن في التحركات الشعبية إلى عملية نقل لمحور الاهتمام، أو إضافة محور اهتمام جديد إلى مسائل الثورة الأصلية. يجب البحث بعناية في حدود ذلك وفائدته واستباق أي احتمال لتأثر سلبي محتمل على تنوع المشاركة في الثورة.
قد تسعى بعض الأطراف الأخرى إلى حصر اهتمام اللبنانيين – ومنهم بعض أطراف السلطة – بموضوع التوطين من منظور الهواجس السابقة إياها. وقد يروج هؤلاء لفكرة أن لبنان غير معني بالصفقة، ما عدا رفض التوطين. وقد لا يرى بعضهم مانعاً من التخلص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لإعادة توطينهم في بلدان أخرى. وهؤلاء يوافقون فعلياً على صفقة القرن، ولا يمانعون الحصول على المليارات الستة (وهي وهمية)، وقبول صفقة القرن لانهاء حق العودة والاستعاضة عنه بالترحيل أو التهجير أو التوطين في بلد آخر. هذا الموقف متعارض مع مواقف شرائح واسعة من اللبنانيين والفلسطينيين الذين يرفضون التوطين مع التمسك بحق العودة. أي رفض صفقة القرن التي تقوم في جوهرها على مرتكزات أساسية، أحدها إلغاء حق العودة. هذا النوع من المواقف يضعف الموقف اللبناني، ويؤثر سلبياً على مسار الثورة، ويلاقي الأثر السلبي لوجهات النظر الأخرى.
لذا يجب أن يتحقق الأن التغيير الجذري في التعامل مع مسألة التوطين. عليه تتوقف القدرة على تحصين الموقف الداخلي والديبلوماسي الخارجي للبنان. فالتوطين ليس هاجساً متخيلاً بل هو احتمال واقعي في خطة تقف خلفها أكبر قوة عالمية، وتلقى دعما صريحاً أو ضمنيا من عدد غير قليل من الدول، ورفضا كلامياً أجوف من بعضها الاخر. وأظهرت الصفقة أن خطر التوطين ناجم عن مشاريع خارجية أميركية – إسرائيلية أولاً، وأن اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم ضحية التوطين لا المطالبين به. وهم بذلك في الموقع نفسه – مبدئياً – مع اللبنانيين الرافضين لصفقة القرن. لذا يجب عدم التعامل مع التوطين باعتباره مبرراً لانتهاك حقوق اللاجئين والتمييز ضدهم، أثناء لجوئهم، بل يجب توحيد الموقف معهم. وهذا يخفف المخاطر ويعزز فرص النجاح.
الثورة ومسارها
ما هو السلوك الأمثل للثوار والثورة، ولتوفير عناصر القوة في مواجهة صفقة القرن التي ستتحول في الأيام القادمة شعاراً أولاً ولازمة متكررة في الخطاب السياسي؟ تتمثل المواجهة الفعلية للثوار في عدم الحياد عن خارطة طريق التغيير الداخلي المطلوب: حكومة مستقلة بصلاحيات تشريعية تعالج الأزمة المالية – الاقتصادية – الاجتماعية، وتتخذ إجراءات لوقف الهدر واسترداد الأموال المنهوبة محصناً باستقلالية القضاء. تشكل لجنة خبراء مستقلين لوضع قانون جديد للانتخابات، وهيئة وطنية مستقلة كاملة الصلاحية لتنظيم الانتخابات المبكرة، وحماية نتائجها بإعادة تشكيل المجلس الدستوري. وإجراء الانتخابات يتيح إعادة تشكيل مجلس نواب يمثل الشعب، ويعالج الفراغ الواقعي في موقع رئاسة الجمهورية وسياسته المنحازة.
التركيز على هذه الخطوات هو الأساس الذي يمكّن من بناء موقف وطني سليم للبنان من صفقة القرن وتداعياتها. أما التشتت وبعثرة القوى في مسارات كثيرة، من دون تحديد واضح للمدخل إلى كل إصلاح آخر، بما في ذلك معالجة القضايا المسكوت عنها في ثورة 17 تشرين، فيشكل وصفة للفشل، سواء تحت عنوان أن الثورة أصبحت وراءنا، واللعب انتهى، وحان أوان الجد في مواجهة أميركا وإسرائيل. أو تحت عنوان أن تجذير الثورة يتطلب تقليص قاعدة المشاركة الشعبية المتنوعة والواسعة في الحراك السلمي. والنجاح في انجاز تقدم في تحقيق أهداف الثورة يكون في العمل الممنهج لاستعادة المشاركة المليونية للمواطنين اللبنانيين في الشارع، من أجل المطالب المتكاملة والمترابطة، والتي رسمتها خريطة الطريق في الأسبوع الأول من ثورة 17 تشرين. ومعيار الثورية هو النجاح في استعادة هذا الزخم السلمي الجماهيري الواسع في الشارع. وهذا ما أدى إلى تفكيك السلطة وإضعافها، وسيؤدي إلى سقوطها وإعادة تشكيلها على أسس جديدة، إذا نجحت في استعادة زخم الشارع مرة ثانية.
هذه هي المهمة ضد السلطة وضد الخواء الحكومي والسقوط البرلماني الحاليين، وضد صفقة القرن وتداعياتها.
المصدر: المدن