“صرّافو الشوارع”: “عصابات” متفلتة أم قطاع منظم بدعم خفيّ؟
صدى وادي التيم – لبنانيات /
في بلد يعاني أزمة اقتصادية مفتوحة على جميع الاحتمالات وانهيارا غير مسبوق في بنية الدولة والاقتصاد والاجتماع، ليس مستغربا أن يجد أهل الفوضى فرصة ثمينة لهم لاقتناصها وبناء منظومتهم الخاصة على حساب القانون والانتظام العام. هكذا نمت آلاف شركات “كهرباء المولدات” في الأحياء والازقّة خلافا للقانون، ونمت الى جانبها شبكات توزيع “الدش” غير الشرعي والانترنت غير الشرعي والقرصنة الاعلامية، ناهيك عن كارتيل صهاريج توزيع المياه، وحتى شركات لمّ النفايات من المنازل.
ولكنّ الفوضى لا تقف عند هذا الحد، إذ كما تحولت هذه القطاعات بحكم الامر الواقع وعدم المحاسبة والملاحقة الى قطاعات منافسة للقطاعات الشرعية، وفي زمن تفلت سعر صرف الدولار، برزت مهنة الصرافة غير المرخصة المتنقلة في الشوارع، في ما بات يُعرف بـ “صرّافي الشارع”.
فهؤلاء نزلوا الى ميدان البيع والشراء في الشوارع وبنوا بورصتهم الخاصة التي تنمو وتتمدد خارج النظام المالي القانوني بعيدا من رقابة مصرف لبنان، مؤسِّسين شبكة من العلاقات مع صغار التجار، بما شكّل تهديدا جديا للصرافين المرخصين. وتحولت مجموعات الصرافين الجوّالين الى ما يشبه العصابات المنظمة تتعاون بين بعضها البعض حينا وتتآمر على بعضها حينا آخر وتتصادم كما حصل أخيرا في صور، متى تضاربت مصالحها واختلف عرّابوها. مجموعات منظمة موزعة في بعض المناطق كصيدا وصور والضاحية الجنوبية وبرج حمود وبعلبك والهرمل حيث باتت كل مجموعة تعرف حدود نطاقها الجغرافي الذي تعمل به.
اللافت في هذا القطاع الجديد قدرته على تأمين سيولة دائمة بالليرة والدولار واستعداده للبيع والشراء في أي وقت وتأمين “ديليفري” خاص للشركات والمنازل. والسؤال هنا: من أين يأتي هؤلاء برساميلهم وممن يتزوّدون، ولمن يعملون، خصوصا أن معظمهم لا تبدو عليهم مظاهر المهنة وغير ملمّين بثقافة العمل الصيرفي والمحاسبة؟
اللافت ايضا جرأة حراكهم وتعاطيهم مع الزبائن، فهم يعقدون صفقات البيع والشراء في الشارع علانية وأمام المحال وعلى الارصفة. حتى ان بعضهم تمادى بجرأته فأخذ يبيع ويشتري امام شركات ومحال الصيرفة المرخصة مستقطبا زبائنها، متحديا دون خوف من الاجهزة الأمنية، بالرغم من ادعاء نقابة الصرافين سابقا على هؤلاء “الجوّالين” أمام النيابة العامة وطلبها توقيفهم ومنعهم من العمل خارج القانون، وتخوفها من استغلال بعضهم لفوضى السوق واقبال المواطنين بكثرة على تبديل العملات، بأن يعمدوا الى دس عملات مزورة في السوق لا يمكن للشاري المراجعة بشأنها كون الصفقة برمتها غير قانونية، وتاليا لا يمكن متابعة مصدرها.
باختصار، تؤكد مصادر نقابة الصرافين أن وضع الصرافة متفلت كغيره من القطاعات ولا حلول إلا بتولي السلطات مسؤولياتها في فرض القوانين المرعية.
ظاهرة تتوسع من دون حسيب أو رقيب!
تضم لائحة مؤسسات الصيرفة المرخصة، نحو 305 شركات صيرفة ما بين فئة “أ” و”ب”، وقد ناط قانون تنظيم مهنة الصرافة صلاحية تنظيم قطاع الصرافة ومراقبته وتوقيع العقوبات على المخالفين بمصرف لبنان، وتحديدا بلجنة الرقابة على المصارف. لكن الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود يؤكد لـ”النهار” أنه “عندما يكون هناك قطاع مصرفي سليم، تختفي هذه الظاهرة لوحدها”. في المقابل لا يستغرب هذه الظاهرة في ظل غياب النظام، بما يؤدي الى نموها في قطاع الصيرفة وغيرها من القطاعات. وإذ يؤكد انه ليس مع هذه الظاهرة، عزا بروزها الى “بطالة الشباب”، كما أنه لا يعوّل على قوة هؤلاء وتحكّمهم في السوق الموازية، فتعاملهم يقتصر على المواطنين الذين يلجأون اليهم لصرف 300 دولار على الاكثر، وتاليا لا يتعدى ربحهم أكثر من 300 ألف ليرة يوميا. بيد أن نقيب الصرافين السابق محمود مراد قدّر ربحهم بملايين الليرات يوميا، فهم يعملون 24/24 ساعة وطوال ايام الأسبوع، لافتا الى ان “الفارق في سعر الصرف بين الصراف الشرعي وغير الشرعي نحو 700 ليرة، بما يبرهن حجم الربح الذي يجنيه الصرافون غير الشرعيين. وهؤلاء يملكون الشارع ومظلة شمسية تقيهم المطر في الشتاء، فيما مؤسسات الصيرفة الشرعية تسدد ضرائب ويعمل لديها مئات الموظفين، كما تدفع فواتير الكهرباء والمولدات، وفواتيرها مصدرة وفق الاصول”.
وقد حدد القانون مراكز مخصصة لأعمال الصرافة بعد الحصول على ترخيص من مصرف لبنان. لذلك، فإن كل من يزاول مهنة الصيرفة في الشوارع يخالف قانون تنظيم مهنة الصرافة رقم 347. ويعاقب بحسب المادة 20 منه بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، وبغرامة حدها الأقصى 10 أمثال الحد الأدنى السنوي للأجر أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أقدم على مزاولة مهنة الصيرفة من دون رخصة. ومع ذلك، ينتشر الصرافون في الشوارع والأزقة من دون رقيب أو حسيب، ويقومون بآلاف العمليات خلافا للقانون. ويؤكد مراد في السياق لـ”النهار” أن ظاهرة الصيرفة غير القانونية لم تعد تحتمل وهي في ازدياد، وخصوصا أن الدولة لا تلاحقهم أو توقفهم عن العمل، حتى أنها لم تعد تقتصر فقط على صرافي الشوارع، إذ يمكن ان نجد صاحب الدكان وبائعي الخضر وسائقي الأجرة وغيرهم يعملون في هذه المهنة. وفي حين كان مراد قد تقدم بإخبارات ضد صرافي الشوارع، وكانت تؤخذ في الاعتبار، ولكن حاليا اصبح الوضع متفلتا وانتشرت الظاهرة بشكل كبير، وتاليا بات من الصعب ضبطها. وإذ لفت الى أن “مهنة الصيرفة غير القانونية باتت تشكل منافسة حقيقية للصرافين الشرعيين الملتزمين بقانون الصيرفة وكل قوانين مصارف لبنان”، قال: “في ظل هذا التفلت وصل الامر بهؤلاء الى الوقوف أمام أبواب محال الصيرفة الشرعية”.
الى ذلك، فإن غياب الرقابة على صرافي الشوارع، قد يؤدي إلى تداول العملات المزورة، وتاليا وقوع كثيرين ضحية هذه الجريمة، مع صعوبة التعرف إلى مرتكب الجرم لعدم اتخاذه مكان عمل محددا وثابتا. ويؤكد مراد أنه “حتى الصراف نفسه، قد يقع ضحية العملات المزورة، إذ ليس لديهم ماكينات لكشف العملات المزورة كالتي لدى الصرافين الشرعيين”.
وفي حين أوضح مراد أن حجم العمل اليومي للصرافين الشرعيين يراوح ما بين 5 ملايين الى 10 ملايين دولار يوميا، لفت الى أن حجم اعمال الصيرفة غير الشرعية غير معروف ولكنه بالتأكيد يتجاوز ارقام الصيرفة الشرعية بكثير.
والسؤال: هل من جهة معيّنة تقف خلف هؤلاء، ومن يدعمهم؟ تؤكد مصادر متابعة أن “غالبية الصرافين المتجولين يعملون لدى الصرافين الشرعيين والمرخص لهم، إذ يوكلون اليهم مهمة لمّ ما تيسر لهم من دولارات السوق خصوصا خارج دوام عمل شركات الصيرفة”، في حين ينفي مراد هذه المعلومات، مؤكدا أن “قوة صرافي الطرقات لافتة، حتى انهم أصبحوا أقوى من الصرافين الشرعيين وخصوصا حيال كمية الأموال التي بحوزتهم. وهذه القوة خوّلتهم ان يتحكموا بالسوق “السوداء” وأن يؤثروا بشكل كبير على سعر الصرف، بما يؤكد أن ثمة من يدعمهم ويشغّلهم”، مشيرا الى أن بعض التجار يتعاملون مع هؤلاء ويشجعونهم، لذا يفترض بالسلطات المعنية أن تفرض على التجار فاتورة تثبت أن دولاراتهم تم تصريفها من مصدر شرعي.
ولا تقتصر تداعيات أعمال الصيرفة غير الشرعية على مخالفة قانون تنظيم المهنة، إذ ثمة تجاوزات أمنية ومخالفات عدة، عدا عن الخلافات التي تقع بين أولاد المهنة الواحدة على خلفية التنافس الشديد بين بعضهم البعض، وهو ما حصل أخيرا في منطقة صور. لكن اللافت أن هؤلاء موجودون ببعض المناطق دون غيرها، وهذا امر مستغرب، برأي مراد، إذ يلاحظ وجودهم بكثرة في مناطق محددة بحيث يمكن أن يتجاوز عددهم في الشارع الواحد أو المنطقة الواحدة المئات، فيما يقتصر وجودهم في مناطق أخرى على مجموعات صغيرة، والاخطر أنهم باتوا أشبه بعصابات متفلتة قد تلجأ الى العنف إذا اقتضى الامر، مشيرا الى محاولة قتل احد الصرافين في مدينة صور.
المصدر: سلوى بعلبكي – النهار