هذا ما يطلبه صندوق النقد الدوّلي من لبنان

 

أمّا وقد استفحلت الأزمة على الصعد السياسية، الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية والبيئية، أخذ خيار طلب مساعدة صندوق النقد الدولي بالظهور في كواليس السياسيين كأحد الحلول التي يمتلكها لبنان.
وإذا كان مثل هذا الخيار يجد له مؤيدين كوزير العمل في حكومة تصريف الأعمال، إلا أن له معارضين كثر ينتمون بالدرجة الأولى إلى 8 أذار.
وفق الموقع الإلكتروني لصندوق النقد الدولي، “يُمكن لأي بلد عضو أن يطلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي إذا وجد حاجة لميزان المدفوعات (حقيقية أو محتملة)، أي في الحالات التي لا يستطيع فيها الحصول على تمويل كاف بشروط ميسورة وذلك لدفع إستحقاقاته الدولية (الإستيراد أو سداد الديون الخارجية) مع الاحتفاظ باحتياطيات كافية“.
لكن تلبية هذا الطلب مشروطة بـ “وضع إجراءات إصلاحية يجب على البلد صاحب الطلب أن يُنفّذها لتصحيح إختلالات ميزانيته واستعادة شروط النمو الاقتصادي المستدام“.
أنواع عدّة من القروض يضعها صندوق النقد الدولي أمام الدول الأعضاء التي تطلب المساعدة، منها ما هو بفائدة مُنخفضة جدًا كحال البلدان ذات الدخل المحدود، ومنها ما هو أكثر تعقيدًا أي يختلف وفق تطوّر الإصلاحات.
ومن المعروف أن صندوق النقد الدوّلي شارك في كل المؤتمرات الدوّلية التي انعقدت لمساعدة لبنان (باريس 1، 2، و3، مؤتمر ستوكهولم ومؤتمر سيدر). أيضًا يُتابع صندوق النقد الدوّلي (من منطلق مهامه المنصوص عليها) حالة لبنان المالية والإقتصادية والنقدية ويقوم بإصدار تقارير دوّرية عن الوضع في لبنان (https://www.imf.org/en/Countries/LBN
عبّر صندوق النقد الدولي عن قلقه على الوضع المالي والإقتصادي في لبنان في الكثير من تقاريره، وأوصى بعددٍ من الإصلاحات آخرها ما سُمّي بشروط مؤتمر سيدر التي لم يتم تنفيذ إلا قسم من الشق التشريعي المُتعلّق بها. وبالتالي أصبح وضع المالية العامة في حال يُرثى لها مع غياب الإصلاحات الفعلية وبروز ظاهرة الأوراق الإصلاحية التي أُقرّ الكثير منها من دون أي تطبيق.
الأن وقد وصلنا إلى وضع صعب جدًا خصوصًا على الصعيد المالي مع إيرادات شبع معدومة، كما أكد وزير المال علي حسن خليل، أخذ طرح طلب مساعدة صندوق النقد الدوّلي بالظهور مع طرح وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال ومع تعدّد التقارير المالية التي تتوقّع إعادة هيكلية الدين العام. إلا أن من مثل هذا الطرح الذي يُشكّل خيارًا مُمكنًا بالنسبة للدولة اللبنانية، يُقابله عدد من الشروط التي يتوجّب على الدولة اللبنانية تنفيذها.
وهنا يُطرح السؤال: ما هي هذه الشروط وهل لبنان قادر على تنفيذها؟
الإصلاحات التي ستُطلب من لبنان هي إصلاحات تطال تصحيح الخلل في ميزان المدفوعات والخلل في المالية العامة، وهذا يعني أن هذه الإصلاحات لها طابع مالي، إقتصادي، إداري وإجتماعي.
عجز الموازنة
مُعالجة عجز الموازنة هو من الشروط التي تمّ فرضها كشرط أساسي من شروط مؤتمر سيدر. ولم تستطع الحكومة إحترام إلتزاماتها في العام 2018 حيث إرتفع العجز إلى مستوى تاريخي مع عجز 11.5% من الناتج المحلّي الإجمالي. ومع ما شهده العام 2019 من أحداث (قبرشمون، والإنتفاضة الشعبية)، من المتوقّع أن يتخطّى العجز هذا العام الـ 10% من الناتج المحلّي الإجمالي.
من هذا المُنطلق، يطلب صندوق النقد الدوّلي من لبنان إصلاحات هيكلية، أي مداخيل إضافية مُستدامة تُصبح معها إيرادات الموازنة مُستدامة وأعلى من النفقات. هذا الأمر يعني أن على الحكومة اللبنانية فرض ضرائب ورسوم إضافية، وخفض الإنفاق بشكل مُستدام.
وهنا تبرز مُشكلتان: الأولى أن الوضع الإقتصادي لا يسمح بفرض أية ضرائب والثانية النفقات وصلت إلى مستوى لا يُمكن المسّ فيها (أجور ودين عام) إلا من باب محاربة الفساد.
الإصلاح الضريبي
أهمّ إصلاح ضريبي يتوجّب على الحكومة اللبنانية القيام به هو تحسين مستوى الجباية حيث أن نسبة التهرّب الضريبي تبلغ مستويات عالية جدًا!
فحجم الضرائب على النشاط الإقتصادي في لبنان لا يتعدّى الـ 15% (أرقام موازنة العام 2018) وهذا يعني أن التهرّب الضريبي يُشكّل مُشكلة أساسية بالنسبة لإيرادات الدوّلة. أيضًا يتوجّب على الحكومة زرع ثقافة “الخضوع للضريبة“ لدى المواطنين خصوصًا أن غياب الخدمات الإجتماعية يستخدمها المكلّف لتفادي دفع الضرائب. الجدير ذكره أن التهرّب الضريبي في لبنان يفوق الـ 4 مليار دولار أميركي وهو من أعلى النسب في العالم!
ويبقى الأهم إعادة هيكلة النظام الضريبي في لبنان الذي يفتقر إلى العدالة الإجتماعية. وبالتحديد يتوجّب إقرار قانون الضريبة التصاعدية، الضريبة على القيمة المُضافة، الضريبة على الأملاك… مع توسيع قاعدة المكلّفين.
الخصخصة
أحد أهم الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي هي الخصخصة بتفسيرها العميق أي بيع كامل لملكية المرفق العام إلى القطاع الخاص. على هذا الصعيد، هناك لائحة كبيرة من المرافق العامّة التي تمّ ترشيحها مثل شركة طيران الشرق الأوسط، شركتي الخليوي، أوجيرو، مرفأ بيروت، مرفأ طرابلس، مطار بيروت، مؤسسة كهرباء لبنان، شركة الريجي، كازينو لبنان، اليانصيب الوطني، أملاك بحرية ونهرية، بعض المباني العامة… ومن المتوقّع أن تدرّ هذه الخصخصة على الخزينة العامة، إذا ما تمّت، مليارات عدّة من الدولارات.
بالطبع هذا الخيار يبقى الأقسى في الخصخصة، ومن الأفضل إعتماد مبدأ الشراكة مع القطاع الخاص (بالملكية أو خصخصة الإدارة).
إصلاح سوق العمل
الإصلاحات في سوق العمل تشمل بالدرجة الأولى خفض كلفة العمالة لدرجة تسمح بخلق ديناميكية في سوق العمل. ووفق التجارب التي عاشتها دول أخرى (مثل اليونان)، يأتي خفض الحد الأدنى للأجور (خاص)، تمديد فترة التجربة عند بدء وظيفة، خفض فترة الإنذار في حال الصرف، خفض قيمة تعويضات الصرف، خفض الأعباء الإجتماعية (الضمان)، خفض قيمة الزيادة السنوية في القطاع الخاص، فرض ليونة في الإتفاقات الجماعية… ووفق الصندوق هذا الأمر يُشجّع الشركات على التوظيف وبالتالي يُقلّل من البطالة.
هذه الإجراءات خلقت، في بعض الدول التي تمّ تنفيذها فيها، رفضاً شعبيّاً كبيراً أدّى إلى إحتجاجات كبيرة وعنيفة في بعض الأحيان! ولعل الحلّ في لبنان في المرحلة الأولى يكمن في ضبط العمالة الأجنبية وزيادة الإستثمارات عبر الأداة الضريبية.
القطاع العام
ما طلبه مؤتمر سيدر من إصلاحات في القطاع العام شمل وقف التوظيف بشكل كامل مع إجراء إحصاء كامل للموظّفين والوصف الوظيفي لكل موظّف بهدف إعادة توزيع الموظّفين في كافة الإدارات والمؤسسات.
ولكن الأهم ما تمّ طلبه في بعض الدول التي نفّذت شروط صندوق النقد الدولي. فقد قامت هذه الدول بتجديد موظّفي القطاع العامة عبر توظيف أشخاص “كفوئين ومندفعين“. أيضًا قامت هذه الدوّل بصرف ما يزيد عن 20% من موظفي القطاع العام أو تبديلهم بأشخاص “كفوئين ومندفعين“! ومن أكثر الموظفين المُرجّح أن يطالهم مثل هذا الإجراء القطاع التربوي، الإعلام، وزارة الأشغال العامة ووزارة الزراعة…
أيضًا من المطالب الأخرى مكننة كل الوزارات والمؤسسات العامة وخلق الحكومة الإلكترونية وذلك بهدف تعظيم فعّالية القطاع العام ومحاربة الفساد والرشوة، كما وخفض الأجور وخفض قيمة الدرجة في القطاع العام.
مؤسسة كهرباء لبنان
من الشروط الأساسية في مؤتمر سيدر، خفض عجز مؤسسة كهرباء لبنان إلى الصفر بهدف خصخصتها. ولم تنجح الحكومة في خفض العجز بشكل سليم (أي تنفيذ الخطّة) بل قامت بخفض الإعتماد للمؤسسة مما يعني خفض ساعات التغذية.
في الواقع بإعتقادنا يبقى تحرير قطاع الكهرباء وفتح باب الشراكة بين القطاع العام والخاص هو الحلّ الأكثر فعّالية.
تحرير سعر صرف الليرة
بهدف خفض الضغط على احتياطات المصرف المركزي الناتجة عن عجز ميزان المدفوعات، يطلب صندوق النقد الدولي من الدول التي تطلب المُساعدة أن تقوم بتعويم سعر صرف عملتها. هذا الأمر يُريح بدون أدنى شك المصرف المركزي لكن التداعيات السلبية على القدرة الشرائية للمواطن كارثية خصوصًا أن الوضع المالي يُرجّح إنخفاض سعر صرف العملة بشكل عنيف خصوصًا في المرحلة الأولى. وهذا التعويم يرفع من نسبة الفقر بشكل ملحوظ قد يصل إلى أكثر من 50% في حالة لبنان.
الخدمات الإجتماعية
من بين الإصلاحات الأخرى هناك نظام التقاعد في القطاع العام والذي سيواجه مُشكلة تزايد أعداد المتقاعدين في الأعوام القادمة حيث أن هناك اليوم بحدود الـ 80 ألف متقاعد في القطاع العام و300 ألف موظّف في القطاع العام سيُصبحون كلهم متقاعدين مما يُشكّل عبئًا كبيرًا على خزينة الدولة.
من هذا المُنطلق، من المتوقّع أن يتمّ خفض تعويضات المُتقاعدين في الأعوام القادمة. أيضًا هناك إحتمال أن يتمّ رفع سنّ التقاعد إلى 68 سنة.
أيضًا من بين القطاعات التي سيتم فرض إصلاحات فيها قطاع الضمان الصحّي. وهنا أيضًا سيكون هناك خفض للتعويضات الصحية. كما أنه سيتم طلب إصلاحات في القطاع التربوي مثل خفض حجم هذا القطاع الذي تُعتبر موازنته من أكبر موازنات الدوّلة اللبنانية.
مما تقدّم يُمكن القول إن شروط صندوق النقد الدولي تحوي على إجراءات جيدة ولكن أيضًا على إجراءات قاسية من المتوقّع أن تخلق إحتجاجات شعبية في حال قامت الحكومة اللبنانية بطلب مساعدة صندوق النقد الدولي.
الجدير ذكره أنه في بعض الدول التي طبّقت إجراءات صندوق النقد الدولي، كانت التداعيات الإجتماعية كارثية مع ارتفاع نسبة الفقر إلى مستويات عالية قبل أن تعود وتنخفض بعد سنوات عدّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!