منشغلون بالخنافس, الصراصير، الهزّات… و نسينا انّ الآتي أعظم.
نزحت الفراشات إلى لبنان وسرعان ما لحقت بها الخنافس السوداء ظنّاً منها أنّ في هذا البلد خيرات وملجأ. غزوات الحشرات أيقظت شعباً وشرذمته. ثمة من انسحب، كالعادة، إلى جدران افتراضية “يكشّ” عبرها الضيوف غير المرغوبين بتعليقات ونهفات، وثمة من سخّر نفسه حارساً لجدران منزله التي اقتحمتها مخلوقات طائرة تثير الاشمئزاز. قلقٌ هو، شعب بأكمله. لو كان بالإمكان، لاحتشد في الساحات مندداً أو أعلنها حرباً مفتوحة ضدّ تلك الفراشات والخنافس. همٌّ طغى على كل ما سبق وكلّ ما سيلي. قرفٌ بالجملة وخوفٌ من الآتي.
الأعظم هو ما سوف يزلزل حياة المواطنين يومياً، من الآن فصاعداً. موازنة تقشفية تبدو بالنسبة إلى معظم اللبنانيين، نازحة كالفراشات والخنافس، ليس معروفاً لم أتت، ولا معروفاً كم ستقيم في ربوع البلاد وما سوف ترتكب، ولا متى سترحل أو تباد بمبيد فجائي غير مبرر!
للأمانة، هذا ليس “الأعظم”. الأعظم أنّ اليوم، وفيما استفاق المسؤولون على حقيقة أنّ في البلد فساداً وهدراً وعجزاً لامس المئة مليار دولار فشهقوا وتفاجأوا وبدأوا يبتكرون الحلول من بوابة تخفيف النفقات لا رفع الإيرادات، لا يزال الشعب الموجوع والمرهق والمتوّعك يطارد الخنافس مصمماً على الإمساك بها وإخضاعها لأشدّ العقوبات. والأعظمّ أنّ لا الشعب ولا المسؤول يعي أنّ في قاموس الحياة الطبيعية ما يُسمى بالمحاسبة. أو أقلّه، الاعتذار.
في الوقائع الراهنة، ثمة شعبٌ مخدّر. يصحّ فيه القول إنه ميت في الحياة. متأقلمٌ سلبي، مصاب بمتلازمة استوكهولم. يرتضي بكلّ شيء. يبتدع البدائل مثل عبقري في عزّ عطائه. هذه مصيبة.
لا كهرباء، نأتي بالموتور.
لا مياه، أين السيترن؟ لا اتصالات رخيصة، نحيا على واتساب.
لا خطة للنفايات، نترك الزبالة تقتحم المنازل.
لا أقساط مدرسية رحومة، نحرق أنفسنا بالبنزين.
لا خطة سير وتخطيطاً، نشتم جسر جلّ الديب عندما نعلق كالسردين في الزحمة إلى جانبه. اعتدنا على جسر نهر الموت. وعلى الاكتظاظ القاتل يومياً.
تُفرض الضرائب، ولا نلبس سترات صفراء.
نشاهد الفضائح في نشرات الأخبار ونقرأ الغرائب في الجرائد، فنبدأ بنقاشات حامية حول “أرجيلة” تنتهي بـ “لايك” لتغريدة زعيم.
ثمة شعبٌ لا يطلب الاعتذار. ولا هنا من مسؤول واحد يقف معتذراً. أحدٌ لا يكترث لمشهد استثنائي يُظهر مسؤولاً واحداً يخاطب المواطنين معترفاً بأنه ارتكب تقصيراً أو إهمالاً أو حماقة أو فعلاً سببه الجهل.
عاش لبنان، على سبيل المثال لا الحصر، عقداً من الزمن من دون موازنة. تعاقب على وزارة الكهرباء مثلاً أكثر من وزير، من أحزاب سياسية مختلفة. أسقطت حكومات. شُلّت مؤسسات البلد ودخل في الفراغ أكثر من مرّة. استهلكت حكومات شهوراً لتتشكل واستُحدث وزارات، منها “وزارة مكافحة الفساد”. أفشى بعض أصحاب السلطة عن حقائق صادمة، وكشف النقاب عن فضائح. سال حبر الصحافة وغصّت الشاشات بسياسيين يناكفون ويتراشقون التهم….كلّ هذا حدث بتواقيع الأحزاب الحاكمة نفسها، والتيارات ذاتها، والزعماء أنفسهم. فهل من اعتذر عمّا اقترفت يداه وما ألحقه بهذا الشعب؟!
هل من يُخبر اللبنانيين اليوم عن الأسباب التي أوصلتهم إلى حدّ خفض الرواتب والتقشف وتفاقم الفقر؟ أليس من بيانات وزارية يا ناس؟! أليس من توثيقات للمواقف والخطابات الرنانة والوعود العظيمة؟ أليس من تسجيلات وأرشيف؟ فعلاً، اليس من ذاكرة تشي ببعض حياة؟!
الأعظم أنّ حكام هذا البلد نجحوا في ضرب اللبنانيين بالأزهايمر. لم يعد بوسع الشعب أن يطالب باعتذار ولا بمحاسبة. غداً، في الصفحات التي يفوق عددها الألف، قد تُخفض رواتب وتفرض ضرائب وتتمّ حماية مصالح…والله أعلم! ليس الشعب مؤمناً بالإصلاح من دون خطة واضحة وصريحة يسبقها اعتذار وتفسيرات لأنه يعاني من داء بل من “أمراض”، ولا على هذه الأرض من يرحم العباد فينطق ويحكم بالمنطق والوعي والمسؤولية بعيداً من ضغوطات “سيدر” وعقوبات الدول!
ماذا سيحصل غداً؟ بعض المتقاعدين يعودون إلى “الخدمة” تظاهراً. بعض التحركات التي لا تجمع شعباً ينزع عنه الطائفية والتحزّب الأعمى. بعض البكاء…والكثير من الهرولة خلف الخنافس وأشباح اليأس!