حديث إبل السقي في مونتريال … بقلم هنري زغيب
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /
عند دخولي مطعم فندق “بِسْت وِستِرن” (على شارع شيربروك الرئيسي) لفتتْني ثلاث لوحات لمناظر من لبنان. سألتُ عنها مُضيفي ابن إبل السقي سعد طعمة (صاحب الفندق) فأجابني باعتزاز: “هذه اللوحة لمرفأ جبيل، رمز تاريخنا العريق، وهذه اللوحة لـ”مقهى الحاج داود” و”مطعم البحري” على عين المريسة صورة ملتقى الرواد من كل لبنان، رمز الانصهار الوطني، وهذه الثالثة لوحة سهرة لبنانية حديثة، رمز الأناقة في الملبس والعادات اللبنانية الراقية”.
وإلى المائدة راح سعد طعمة (في مونتريال منذ 21 سنة) يُحدّثني عن شغفه بـ”الساغا” اللبنانية: معظم اللبنانيين في أُوتَوَى من كفرمشكي، في مونتريال من راشيا الوادي، في البرازيل من إبل السقي. كان “المنادي”، قال، في أواخر القرن التاسع عشر، يصل الى ساحة إبل السقي، وينادي على مَن معه ليرتان ذهب فيصحبه الى المرفأ ويسافر على ظهر باخرةٍ، أياً يكن اتّجاهها كان قبطانُها يقول للمسافرين إنهم ذاهبون الى أميركا (حلم اللبنانيين فترتئِذٍ بعدما تفاقمت موجة الهجرة).
وروى لي أنْ كان في إبل السقي مع مطلع القرن العشرين نحو 80 بيتاً لها قرميد أحمر (ماركة “النحلة”- قرميد إيطالي أصلي) كان المهاجرون العائدون الى إبل السقي يباهون به في بناء بيوتهم من ثمار هجرتهم الى البرازيل.
وروى لي عن أول مهاجر من إبل السقي: حنا مرقص الراسي، هاجر الى شيكاغو سنة 1852 (يعني قبل ابن صليما أنطونيوس البشعلاني المعتَبَر أول مهاجر لبناني الى بروكلن نيويورك سنة 1858). وكان حنا يعود الى إبل السقي ويسمى “جوّال الآفاق”. وعاد ذات مرة (1880) ومعه آلة “فونوغراف” وأُسطوانتان، حين يديرهُما عليه فتنبعث منه الأغاني الأميركية كان أهل إبل السقي الذاهبون الى القداس نهار الأحد يُحوّلون طريقهم عن بيته ظناً منهم أن في بيته عفاريت وجنّيّات حملها معه من “أنـيركا”. وحين مات بذبحة قلبية قالوا إنّ أرواح عفاريته وجنِّيَّاته خنقتْه في الليل لأنه يزرُبُهم في ذلك “الصندوق”.
وروى لي سعد طعمة عن رحلة له الى باهيا (البرازيل-1987) حيث التقى زوجة ابن إبل السقي كرم الراسي الذي جمع ليرتين ذهباً وركب السفينة حتى إذا ترجّل في مرفأ ظنه “أنيركا” ساح في البلاد فإذا هو في البرازيل، ونجح تدريجاً في تجارة الورق فجمع ثروة لا تُحصى، أورثَها ابنتَه هيلدا التي تزوجت لاحقاً من السياسي اللبناني بيار إده (فهي والدة كارلوس إده).
وروى لي مضيفي عن رحلة له الى مدينة مانكيتو (ولاية مينيسوتا الأميركية) حيث التقى سيدة من الفرزل مولودة هناك أخبرتْه أنّ والديها جاءا مانكيتو لأن مقاولاً في المدينة (أواخر القرن التاسع عشر) طلب من موظف لديه أن يذهب الى إيليس آيلند (بوابة انتظار المهاجرين المتكدِّسين هناك لدخول نيويورك) وأن يأتي برجال “ذوي عضلات” للعمل لديه في المناجم. وفحص الموظف عضلات الرجال، فاختار عدداً كان بينهم والداها الفرزليان.
وروى لي سعد طعمه عن رحلة له الى مدينة بورتو فالارتا (المكسيك) حيث التقى موظفاً في الفندق حين عرف أنه لبناني أجابه: “أنا لبناني الأصل ولا أحبّ لبنان”. استفسر سعد وعرف أن اسمه بول ابن يوسف الريحاني من الفريكة، فأخبره عن العظيم أمين الريحاني، ودعاه الى مونتريال فلبّى وأعطاه أسماء أشخاص في لبنان يزورهم ففعل. وحين عاد بول الريحاني من لبنان اتصل بسعد معترفاً له: “شكراً لكَ لأنكَ غيَّرت لي حياتي بعدما عرفتُ جذوري في لبنان”.
وختم سعد طعمه حديثه إليّ بغصّة: “كم بول ريحاني في العالم ينتظرون من يُضيءُ انتماءَهم الى جذورهم في لبنان”!