لبنان والحرب الكبرى

صدى وادي التيم-امن وقضاء/

هل أنّ لبنان في حالة حرب أم لا؟ الجواب، ببساطة، إنّ لبنان هو في حالة حرب مُعلنة من إسرائيل ضدّنا منذ إنشاء الكيان في عام 1948. ليس هناك من هدنة في اعتبار إسرائيل. الهدن كانت مجال التقاط فرص لأنظمة مهزومة ورعاة استعماريّين لهم. هي ليست هدنة عندما تعتبر إسرائيل أنها تستطيع أن تخرق سيادة أيّ دولة محيطة بها رغم اتفاقيات الهدنة.

وتبدو حكومة لبنان، وكلّ الأطراف، مخبولين عندما يتحدّثون عن اتفاقيّات الهدنة. في ظلّ اتفاق الهدنة كانت إسرائيل تخرق الحدود مع سوريا وتُرسل جرّافات إلى داخل الأراضي السورية، كي تستفزّها لمنح نفسها العذر لتقصف في عمقها. وكانت تقصف المراكز المصريّة في غزة عندما اتهمتها في الخمسينيّات بدعم حركة مقاومة (فواجع غزة بدأت منذ إنشاء إسرائيل، وليس منذ إنشاء «حماس»، على قول الإعلام الإسرائيلي والإماراتي).

وكانت إسرائيل تقصف مضخّات المياه على الوزاني في عام 1964، وكانت تُطلق النار على الطائرات اللبنانيّة في الخمسينيات وكانت تخطف وتقتل رعاة وأهالي في الجنوب (كان ذلك عندما وافق فؤاد شهاب وفق عقيدته الشهيرة أن يلعب فريق كرة الجيش مباريات حبيّة في كرة القدم مع فريق الجيش الإسرائيلي. هذا التاريخ اللبناني الحقيقي، لماذا يبقى غائباً عن المنهج الدراسي؟).

الآن، لبنان في حالة غير واضحة. هناك فريق (ينتمي إلى طاعة الخليج) يقول إن لبنان ليس في حرب وإن عليه ألا يدخل في حرب، وإننا مع الشعب الفلسطيني من بعيد ومن دون أيّ تدخّل، وهناك من يقترح الاستعانة بلبنان للدفاع عن القضية الفلسطينيّة، لما للبنان من باعٍ طويل في خيانة الشعب الفلسطيني وارتكاب المجازر ضدّه. وهناك فريق (نفس الفريق المذكور أعلاه) يقول إن لبنان في حرب وإن الحق على لبنان لأنه تحرّش بإسرائيل الوديعة المسالمة، وإننا كمن يجلب الدبّ إلى داره.

وهناك رئيس الحكومة الذي بادر إلى القيام بجولة خليجيّة، لكن قطر هي الوحيدة التي استقبلته، فزاد عليها زيارة الأردن ومصر. والحكومة تريد من «المجتمع الدولي» (أي دول الغرب التي ترفض وقف النار والتي تمتثل للأوامر الأميركيّة كما كان رياض سلامة وأصحاب المصارف يمتثلون لأوامر وزارة الخزانة الأميركيّة) أن يتدخّل للجم إسرائيل. أي إنهم يتوقّعون من رعاة وحشيّة إسرائيل لجم وحشيّة إسرائيل. وهناك ظرفاء التغيير الذين يكرّرون طمأنة إسرائيل بأنهم لا يضمرون شرّاً لها، وأنهم لا يريدون الحرب معها، وليس هناك في العالم العربي من طالب بدولة إلى جانب إسرائيل أكثر من مارك ضو (وضو هذا كان العربي الوحيد الذي عبّر عن إعجاب شديد بأداء الجامعة العربيّة والأنظمة العربيّة، باستثناء النظام السوري لأنه مع الأنظمة العربيّة جمعاء باستثناء هذا النظام، في حرب غزة. قد تكون بيانات الجامعة الرديئة ألهمته ثوريّاً).

لبنان في حرب، لكن ما دام الجنوب هو هدف القصف الإسرائيلي، فإنّ لبنان ليس معنيّاً. فقط عندما يمتدّ القصف يشعر لبنان بأنه دخل الحرب. الجنوب لم يكن يوماً جزءاً من لبنان. الدولة منحته سراً لإسرائيل بمجرّد توقيع اتفاقيّة الهدنة في عام 1949. فقط من بلدة القليلة في الجنوب، سقط شهيدان (واحد منهما من آل أبو خليل). لكنّ الجنوب يدخل الحرب منتشياً بنصره على إسرائيل في عام 2000 وفي ملحمة النصر الكبرى في عام 2006.

وانتظر العالم بأسره خطاب نصرالله. الناطق باسم البيض الأبيض اعترف أنهم هم أيضاً ينتظرون الخطاب. الإعلام السعودي نفى أنّ محوره ينتظر الخطاب، وقالوا إنهم ينتظرون افتتاح واحدة من ليالي الرياض المُبهرة. العدوّ حبس أنفاسه بانتظار الخطاب. هل تتصوّر أنّ العدوّ كان يحبس أنفاسه مسبقاً بانتظار خطاب من خطابات عرفات المُكرَّرة؟ بث «مغريات» الفيديو القصيرة رفع سقف التوقّعات وأضرّ بالمضمون. جعل أصدقاء الحزب وأعداءه على حدٍّ سواء يتوقّعون إعلاناً دراماتيكياً كبيراً.

بعض أصدقاء الحزب أرادوا إعلان الحرب، وبعض أعداء الحزب تمنّوا إعلان الحرب كي يحمّلوا الحزب المسؤولية عمّا سيلحق المنطقة من دمار، وهم يعوِّلون على إسرائيل كي تقضي عليه. دراما الحدث اللبناني أصبحت عالميّة. كل حكومات الغرب تعلّق على الخطاب قبل أن يبدأ. كيف أصبح لبنان، هذه المرّة بالفعل، محور الاهتمام العالمي؟ السبب أنّ منعة لبنان وقوّته تجلبان الاهتمام. زعيم كوريا الشمالية (المخلص لفلسطين أكثر من حكامنا) عرف كيف يحمي بلاده من الغطرسة الأميركيّة بالنووي. لبنان لم يصل إلى هذه المرحلة لكنه بات، بسبب المقاومة، أقوى ممّا كان عليه في كل التاريخ.

لكن قوّة لبنان تُزعج نحو نصف سكانه: كان هناك اتفاق لبناني-إسرائيلي-غربي أن يبقى لبنان ضعيفاً ومُذَلاً ومهاناً، لأن ذلك كان الشرط الوحيد كي لا تحتلّه إسرائيل وتعتدي عليه (هي طبعاً اعتدت عليه لأن الضعف يجلب العدوان الإسرائيلي، والذي لم يتّعظ من هذا الدرس في تاريخ الصراع، لم يقرأ عنه).

 حديثنا عن احتمال توسّع الحرب نحو حرب إقليميّة أو عالميّة دليل على ورطة إسرائيل. أميركا تخشى على حليفتها من هزيمة شنيعة ولهذا أرسلت لها تُعينها

ولبنان منقسم: معظم لبنان لا يريد الحرب والبعض لأسباب وجيهة. عدوّنا شرس ومتوحّش أكثر من «داعش». نرى اليوم ما رأيناه منه على مرّ تاريخه. عدوّنا كان أول من ابتدع وسائل الإرهاب في منطقتنا منذ الثلاثينيّات: رمي القنابل في الأسواق، تفخيخ السيارات والحيوانات وسيّارات الإسعاف، الطرود المفخّخة، البراميل المتفجّرة (استعملها بكثرة في الحرب على يافا)، وتسميم آبار المياه والقتل الجماعي العشوائي. يعلم اللبنانيّون أنّ إسرائيل ستردّ على أي قصف يطالها بتدمير البنية التحتيّة، أو ما تبقّى منها. والبلاد والناس منهكان، لكن لا يعلم خصوم الحزب أنّ الحزب من الناس، ويشعر معهم، وهذا سبب من أسباب المشاركة المضبوطة في الحرب. قائد الحزب ليس انفعاليّاً، كما كان قادة العرب ومنظمة التحرير، والانفعاليّة هي ما تتمنّاه إسرائيل من أعدائها.

مارس الحزب ضبط نفس شديد، لكن من دون التفريط بالسيادة أو بحق التضامن مع فلسطين من المنظمات الفلسطينيّة في لبنان. والمقاومة في لبنان ليست عنصراً في المحور الإقليمي. هي، بشخص نصرالله، صانع القرار الأوّل أو الثاني (بعد مرشد الجمهوريّة في إيران). وقد تكون سلطة صنع القرار نحو إسرائيل تقع في يديه، أكثر من المُرشِد. أيّ خطوة غير محسوبة تعود بالضرر الكبير على فلسطين ولبنان والقضيّة. قد يكون عبد الناصر عاش السنوات الثلاث بعد الهزيمة في ندم يصحبه التصميم والعزيمة. أيّ عبء يحمله نصرالله على منكبيه؟ صحيح أنّ الحزب خسر الكثير من الشعبيّة في الرأي العام العربي نتيجة تحريض مذهبي فتنوي من قبل محور إسرائيل-الخليج (إضافة إلى أخطاء سياسية وإعلاميّة من قبله) لكنّ الأنظار تشخص نحو قائده في الملمّات. يعلم العرب والمسلمون أنّ إسرائيل لا تهاب إلا إيّاه. ولهذا، فإنّ إطلالته وخطبه تكون محسوبة بدقّة الساعاتي السويسري.

تهديدات عالميّة وردت إلى الحزب وإيران، كما أن أساطيل وسفن وحاملات طائرات تزورنا. ذكّرها نصرالله بمواجهة الثمانينيّات، والتذكير رادع بحدّ ذاته. لكن المشاركة الأميركيّة المباشرة في الحرب وجموح بايدن في العدوان والعنصريّة يفتح الكثير من الاحتمالات. الحرب الكبرى، لو اندلعت ستلحق أذى كبيراً بإسرائيل. كيف نعلم ذلك؟ لأن إسرائيل لم تُشعل الحرب منذ عام 2006 . أذكر أنني دخلتُ في رهان قبل أعوام مع نورمان فنكلشتين في بيروت. كان مصرّاً أن إسرائيل ستشنّ الحرب على لبنان لتقتصّ من هزيمتها في حرب تمّوز. قلتُ له: الحزب أقوى من أيّ وقت مضى. أنا مطمئن للمرّة الأولى في حياتي أن إسرائيل لن تجرؤ على شنّ الحرب ضدّنا. لكن عقيدة العدوّ العسكريّة تفرض عليه الانتقام من الحزب.

لكن: إذا كان واجباً عليك أن تنتقم، كيف تنتقم وأنت لا تضمن النصر؟ هذا ما حصل في تمّوز. ذُهلت إسرائيل أنها واجهت على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً عدوّاً لا ينهزم، لا بل هو يطاردك وأنت هارب. عندما تفرّ قوّات النخبة الإسرائيليّة أمامك، تعلم أن المعادلة باتت مضادة لمعادلة 1967. هذا كرّسه «طوفان الأقصى». ليست هذه الوحشيّة الهائلة إلا تعبيراً عن اليأس والعجز. إسرائيل تهدّد لبنان يومياً على مدى سنوات (والتهديدات لا تلقى ردوداً في لبنان، على العكس هناك من يلوم الحزب على تهديدات إسرائيل، لأن بعض هؤلاء هم أعوان إسرائيل. لا ننسى أنّ حزب الكتائب تلقّى التمويل الانتخابي من إسرائيل منذ الخمسينيّات، ولم يكن هناك لا منظمّة التحرير ولا حزب الله ولا حزب البعث في سوريا. حزب الكتائب على مرّ تاريخه حزب عميل لإسرائيل).

إسرائيل تهدّد لبنان لأنها لا تريد المواجهة. هي مثل تهديدات الأنظمة العربيّة وقادة منظمة التحرير قبل النكسة. إذا كنت لا تملك السيف أو تحسن استعماله فلا بديل لك عن الصياح والزعيق. والحزب لا يريد الحرب لمجرّد الحرب (وخصوصاً أن أعباء القتال ملقاة عليه وحده، وليس له من عون من قبل الجيش أو القوى الأمنيّة كما رأينا في حرب تمّوز. صحيح هناك أحزاب لبنانيّة وفلسطينيّة تشارك في القتال الخلفيّ معه، وهذا ليس ببسيط). وعلى الحزب أن يوازن بين حساباته هو وبين حسابات كل عنصر في المحور، وخصوصاً إيران، لكن هذا لا يعني أنّ القرار إيراني صرف. حتى الإدارة الأميركيّة باتت تعترف (كما اعترف مسؤول للـ«سي.إن.إن») أن الحزب ليس أداة إيرانيّة (نعرف أنّ السعوديّة تنفق المال بالنيابة عنها وعن إسرائيل كي تقنع العرب أنّ الحزب مجرّد أداة إيرانيّة. لكن إذا كانت أجندة إيران تفرض هزيمة إسرائيل كما حصل في لبنان، فهلا ومرحبا).

حديثنا عن احتمال توسّع الحرب نحو حرب إقليميّة أو عالميّة دليل على ورطة إسرائيل. أميركا تخشى على حليفتها من هزيمة شنيعة، ولهذا أرسلت لها تعينها (وهي تستعين بقاعدة أميركيّة سريّة في النقب، والمسيّرات تطير فوق غزة. أحببت التفسير الأميركي لهذه المسيّرات: قالت إنها تبحث عن الرهائن).

الحزب لن يفتح الحرب عبثاً لكن التطوّرات في غزة ستملي ما سيجري. تدهور الوضع العسكري في غزة يؤذي ليس فقط محور المقاومة، وإنما القضيّة الفلسطينيّة نفسها، والتي تركها الحكام العرب وشأنها لسنوات. ورئيس السلطة (الرمز المقبول للقضيّة في إسرائيل والغرب) معروض هو وعائلته للبيع، ومستعدّ أن يرسل ابنه ياسر كي يقايض على المواقف مقابل المال. بقيت فلسطين في عهدة الذين يقاتلون إسرائيل، والمهادنون والمطبّعون في وادٍ آخر. صمود غزة وكسر شوكة جيش العدوّ يحافظان على التوازنات ويزيدان من حجم قوة محور المقاومة. وإسرائيل في أزمة تزداد صعوبة مع كل يوم إضافي من الحرب. تستطيع أن تنتصر ضد الأطفال لكن جيشها منهزم وخائف. الجيوش العربية لم تصمد كما تصمد المقاومات.

اندلاع الحرب في لبنان لن يؤدّي بالضرورة إلى تدخّل أميركا، إلا إذا وجدت أميركا إسرائيل في حالة ضعف شديد. وهي ستجدها في حالة ضعف شديد. لكن أميركا عجزت عن نجدة الشاه أو عن نجدة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

المصدر: أسعد أبو خليل-الأخبار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!