“مجاز” أورنيلا عنتر.. أرشيف مشاعر الناس

صدى وادي التيم – ثقافة /
تخوض الشابة اللبنانية أورنيلا عنتر، تجربة ملهمة في تأسيس مشروعها الصحافي الخاص، عبر إطلاق مجلة “مجاز” الإلكترونية، وتختزل تعريفها بعنوان فرعيّ من ثلاث كلمات: “أرشيف مشاعر الناس”.
قبل نحو عامين، هاجرت عنتر (29 عاماً) من لبنان إلى فرنسا، حاملة معها خبرة نحو عشر سنوات من العمل في الصحافة المكتوبة في لبنان، ونشرت عشرات المقالات والتقارير الميدانية في قضايا سياسية واجتماعية وبيئية، في صحف عربية وفرانكوفونية أبرزها “لوريان لوجور” و”العربي الجديد” و”المدن” و”السفير”.
هذه الهجرة، وضعت عنتر أمام أسئلة جوهرية، وربما مؤجلة، عمّا تريده حقيقة من مهنة الصحافة التي مارستها بشغف كبير، إلى جانب تخصصها في الأدب الفرنسي المُعاصر. تقول: “أهتمّ بالأدب والصحافة، وأحاول الجمع بينهما، وأسعى بصورة مستمرة لاستكشاف هذين المجالَين. أهتمّ بالناس، بتجاربهم الشخصية، وحيواتهم اليوميّة، وأرى أنّ مشاعرهم هي أهم مكوّن في أيّ تجربة بشرية، مهما كبُرت”.
استغرق إطلاق “مجاز” مسار عامٍ كاملٍ من التفكير والتّمهل، إذ لم يكن سهلاً إطلاق مشروع بصفر موارد مالية. لكن إصرار عنتر وإيمانها بما تسعى إليه، حقق حلمها بأن تصبح “مجاز” مجلة منشورة إلكترونيًا. وهي اليوم أمام تحديات ما بعد تنفيذ المشروع، لأنها سلكت مسارًا بطيئًا متمهلًا ومعاكسًا لمتطلبات السرعة في العصر الرقمي الحديث.
في مانيفستو “مجاز”، تعبّر عنتر عن طموحها في “بناء أرشيف تُحفظ فيه مشاعر ورؤى وأسئلة تعيش أطول من الذين اختبروها، وتكون بمنزلة مرصد مجتمعيّ يمكن العودة إليه في أي وقت لفهم مشاعر الناس في حقبة معيّنة من حياة هذه البلاد”.

حتى الآن، أطلقت عنتر عددين من “مجاز”. العدد صفر، حمل عنوان “عن تجربة الاغتراب.. رأسي لا يزال في لبنان”. والعدد واحد، حمل عنوان “عن سحر الأماكن المألوفة.. تكرارٌ وخيالٌ وأجوبة“.

وفي كلّ من العدَدين، اعتمدت عنتر أسلوب المقابلات مع ثلاث شخصيات تتمايز بتجاربها الإنسانية والشعورية، وتُلامس كلّاً منّا بجوانب مختلفة، في القضيتين المطروحتين، الاغتراب والسفر. وربما هذا أول اختبار نجحت فيه عنتر مع المتلقين. كما مزجت عنتر في أسلوبها الأدبي – الصحافي، ما بين التقليد والحداثة، بإرفاق النصوص المطولة التي تسحر القارئ من أولها حتى آخرها، بصور التقطتها من آلة التصوير الفوري. وذلك في محاولة جادة تهدف إلى خلق هوية بصرية وأدبية وصحافية فريدة وخاصة بـ”مجاز”.

• بداية، كيف تعرّفين عن “مجاز”؟
“مَجاز” هي مجلّة إلكترونية تنتج محتوى يعتمد على الكتابة الصحافية السردية والتصوير الفوتوغرافي الفَوري. تروي “مَجاز” قصص الناس وتجاربهم بهدف طرح مسائل مجتمعية وتوثيق الحياة اليومية. عبر طرح مسألة تلو الأخرى، تهدف” مَجاز” إلى بناء أرشيف لمشاعر الناس.
تقدّم “مجاز” نموذجاً صحافياً تتطلّع من خلاله إلى فهم المجتمع بتعقيداته وعلاقاته المركّبة، وتفكيك المفاهيم السائدة، ونقض السرديّات المنتشرة عبر تقديم مفاهيم تهديميّة. كما تحاول فهم المساحات والظواهر العامّة من خلال المساحات الخاصة، بل الحميمة في بعض الأحيان.

• ما الأسباب التي دفعت أورنيلا عنتر إلى إطلاق هذا المشروع الصحافي؟ 
في الحقيقة، أعرف اليوم أنّ مسار تأسيس “مجاز” الذي استمرّ عمليًّا سنة واحدة، بدأ فعليًا قبل ذلك بكثير. خلال العمل على تأسيسها، تذكّرت محادثة لي عبر الإيميل مع أحد الصحافيين. كنت أحدّثه فيها عن هواجسي المتعلّقة بالمهنة. كان ذلك في مطلع العام 2018؛ ففي السنوات الأخيرة من عملي صحافية، كنت قد بدأت أتململ من العمل، وأنظر إليه بعين ناقدة.
لذا، صرت أطرح على نفسي أسئلة كثيرة تتمحور حول جدوى العمل الذي أقوم به، والمتعة التي أجدها في ممارسة هذه المهنة، لأنني أؤمن بضرورة أن يكون العمل مُمتعًا، والمتعة الأدبية والفنيّة التي أقدّمها للقارئ من خلال مقالاتي.
أجابني حينها أنّه يقدّر بحثي الدائم عن معنى ما في عملي الصحافي. لم أنتبه لهذه الجملة وقتها. عدتُ إلى هذه المحادثة بعد نحو خمس سنوات، وانتبهت إلى جملته هذه في نهاية الرسالة، وإلى أنّني ربما كنت أبحث فعلًا عن معنى ما في عملي الصحافي طوال هذا الوقت، وأنّني أسّست “مجاز” كنتيجة أوليّة لبحثي المستمرّ عن هذا المعنى.
بعد هجرتي إلى فرنسا العام 2021، كنت أخطّط لمتابعة دراستي لنَيل شهادة الدكتوراه في الأدب الفرنسي، لكنّي قرّرت، بعد كتابتي مشروع البحث، أن أعيد النظر في قرار متابعة الدراسة، لأنّني لم أكن أريد أن أسلك هذا المسار كونه مساري الطبيعي فقط، وخصوصًا أنّ الأبحاث في مجال الآداب هي عمل وحدانيّ.
أردت أن ألتقي الناس، أن أطرح عليهم أسئلة كثيرة، وأستمع إلى قصصهم، وأن أعير اهتمامًا لشؤون حياتهم الصغيرة والكبيرة. تذكّرت كيف كان بعض الأشخاص في الساحات أو في الشارع يطلبون منّي وعدًا بنشر ما قالوه. طلبت مني سيّدة، في أول أيّام الثورة، أن أذكر في مقالي المصاعب التي تواجهها مؤسسات القطاع الخاص قبل أن تطلب منّي أن أعدها بذلك، وقالت لي سيّدة أخرى: “احكي عنّا”. أعتقد أنّنا نستحق جميعًا أن يُحكى عنّا، أن ندخل أرشيف الصحف، أو في حالة “مجاز”، أن ندخل أرشيف مشاعر الناس.
قرّرت العودة إلى الصحافة إنما بتجربة خاصّة تلائم رؤيتي لها، وتجمع العناصر التي أجد من خلالها معنى لعملي، ومتعة أيضًا: الأدب والسرد القصصي، لقاء الناس في مساحاتهم والاستماع إليهم، التصوير الفَوري…

• تقولين إن خط “مجاز” التحريري يعتمد على الكتابة الصحافية الأدبية المتأنية والبطيئة. ما القيمة المضافة برأيك لهذا النوع من العمل الصحافي في ظل التوجه العالمي في قطاع الإعلام الرقمي إلى الاختصار والتدفق المعلوماتي السريع؟ 
أعتقد أنّ أشياء كثيرة تحدث في الأيّام العادية؛ الأيّام التي لا تدخل أرشيف الصحف من باب العناوين العريضة. صحيح أنّه لا شيء جديدًا أو كبيرًا أو مفاجئًا يحدث في هذه الأيّام، لكنْ أشياء أخرى تحدث تستأهل التوقّف عندها: بماذا يفكّر الناس؟ كيف يختبرون هذا الجانب أو غيره من الحياة؟ كيف يعايشون حدثًا ما أو تجربة أو حقبة؟ إذا كنّا متفقين على أنّ التغييرات الكبرى في حياة البلاد لا تحدث فجأة، وإن بدا لنا ذلك للوهلة الأولى، فهذا يعني أنّها كانت تتحضّر على مهل خلال هذه الأيام العادية التي لم نعرها اهتمامًا كبيرًا؟
أجد قيمة كبيرة لمراقبة ما يحدث في هذه الأيام العادية وفي حياة الناس العاديّين: كيف تؤثر الأحداث الكبيرة والصغيرة في الناس؟ وكيف تبدّل وجه المكان الذي تتشكّل فيه؟ وأجد أنّ التمهّل في تقديم العمل الصحافي يتيح لكاتبه تقديم متعة أدبيّة وفنيّة للقارئ يتم من خلالها تحقيق كل الغايات الأخرى: إيصال معلومة، توثيق حدث ما، شرح لسياق أكبر…
في ظل التوجّه العام في عالم الإعلام للسرعة والاختصار، وفي العالم بشكل أوسع، أجد أنَّ التمهّل هو أحد السبل لخلاص العالم، لإنقاذه من السرعة ومن الاستهلاك والتخمة. ينطبق هذا الأمر على البيئة والكوكب وجودة الحياة فيه، ونظرتنا إلى العمل كقيمة عالية، وينطبق بالتالي على الإعلام أيضًا.
لا شكّ في أنّ الأخبار العاجلة ومواكبة الأحداث أمران ضروريان، وأنهما عمل متعب ومجهد. أعرف ذلك لأنني قمت به لسنوات طويلة، لكنّه يجب أن يترافق مع صحافة بطيئة تتيح للقارئ فهمًا أكبر للعالم الذي يحيط به.
بصراحة، اخترت أن أعيش حياة بطيئة في كل جوانب حياتي الشخصية. بما أنّ هذا الخيار لا ينفصل عن نظرتي إلى العمل، كان لا بدّ من أن تكون “مجاز” أيضًا نموذجًا للصحافة البطيئة والمتمهّلة.
• نعلم أنّ “مجاز” انطلقت بصفر موارد مالية. كيف تعملين على ضمان الاستمرارية والاستدامة؟ وما التحديات التي تواجه مشروعك؟ 
لو جاء من يقول لي، منذ سنتين أو ثلاث، أنّني أستطيع أن أطلق مشروعًا صحافيًا بصفر موارد مالية، لما صدّقته، لكنّي أعرف اليوم أنّ الانطلاقة بصفر موارد مالية ممكنة. في فترة تأسيس “مجاز”، اطّلعتُ للمرّة الأولى على كيفية تأسيس الشركات الإعلامية الناشئة، والصعوبات التي تواجهها، لا سيما على صعيد تحقيق الاستدامة المالية. تمكّنت من إطلاق “مجاز” بصفر موارد مالية، لأني حاولت – ولا أزال لغاية اليوم – تشغيل المؤسسة بأقلّ كلفة ممكنة.
قبل الانطلاق، استعنت بمصمّمة بصريّة ومطوّر ويب لتصميم الهويّة البصرية والموقع. في الوقت الحاضر، أستعين بمدقّقة لغوية فقط، وأقوم بنفسي بكلّ المهام الأخرى، الأمر الذي يقلّل الأعباء المالية للمشروع: إجراء المقابلات، والتفريغ والكتابة، والتصوير، وتصميم المحتوى البصري للموقع ولوسائل التواصل الاجتماعي، والتفاعل مع القرّاء. قلّة الموارد وغياب فريق العمل يطيلان مدّة العمل لإصدار عدد واحد.
أواجه تحديًا آخر لا يقلّ أهمية عن غيره من التحديات، هو التسويق في مواقع التواصل الاجتماعي، لأن هذه المواقع قائمة على السرعة والغزارة، الأمر الذي يجعل الحضور فيها تحديًّا كبيرًا للإعلام المتمهّل، لأنه لا ينتج محتوى يوميًّا.
لغاية هذه اللحظة، أعمل في الترجمة والكتابة، وأموّل المشروع في المقابل. قرّرت منذ الإطلاق أن يكون محتوى “مجاز” الرقمي مجانيًّا بالكامل. لذا، ستعتمد “مجاز” في المستقبل على مصادر دخل أخرى، كالحصول على منح أو تمويل من جهات معنيّة، وعرض نسخ من الصور الفَورية التي ترافق أعداد “مجاز” للبيع كلوحات فنّية، وتقديم خدمات الكتابة الإبداعية، والترجمة والسرد القصصي لجهات أخرى.

• أخيراً، ما هي طموحات “مجاز” في المستقبل؟
في الدرجة الأولى، أطمح فعلًا إلى بناء أرشيف لمشاعر الناس. أعرف أنّ العبارة تبدو مجازية، لكنّي أفكّر في المشاعر والتجارب التي تمّ توثيقها لغاية اليوم من خلال العددين صفر وواحد: مشاعر من الشوق والحنين والدهشة والمفاجأة والحزن والندم والحيرة والسعادة. كلّ مرّة، عندما أرتّب الصور الفَورية في العلبة المخصصة لها، أفكّر في أنها تكبر شيئاً فشيئاً.
أطمح إلى تحقيق استدامة مالية لـ”مجاز” بالسبل التي أعرفها، والسبل التي قد أكتشفها مع الوقت، وبالتجربة والتفكير، كما أطمح إلى تحقيق هذه الاستدامة بشكل مستقلّ عن الدعم الخارجي، لئلا يرتبط مصير “مجاز” بقرار خارج عنها.
لديَّ مشاريع وخطط كثيرة لها، لكنّ تحقيقها يأخذ وقتًا أطول وجهدًا أكبر لغياب فريق عمل وقلّة الموارد في الوقت الحالي. أطمح إلى أن تصبح “مجاز” تجربة فريدة تؤسّس لتجارب أخرى تتفرّع منها في المستقبل.
جنى الدهيني – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!