من قتل مشغرة وأخواتها؟
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم:
كتب: نصري الصايغ
البداية ليست من قريتي. بداية، هناك موت منسي. موت طاعن ويابس. انحسرت الأجيال وغادرت سماءها وقمرها. الوطن كلمة مؤلمة وجارحة. الوطن يعيش موته مراراً. هناك بلدات وقرى تحثك على البكاء. تتلو في سرك “قفا نبك”. طعم الدمع ملحٌ. حطب لحرائق التشرد والغياب. تشلعت العائلات. تقلصت القرابة، لا أحد يحلم بمستقبل فيها. ماضيهم أضغاث آلام وحنين.
من فقد وطناً انشطر، بين “الهنا” الفارغ والصامت والساكن، وبين “الهناك” حيث يعتاد المهاجر- المهجر على حسرة الرجوع المستحيل وحسرة الإقامة في منفى جميل. نعم جميل، ولكنه منفى. يحتضن الحسرة ويُصمِت الأشواق. فالقرية مسقط أرواحنا. نحن لسنا جسداً فقط. الحنين إليها عن بعد، دليل على أن قرانا، جزءٌ من أرواحنا.
البداية ليست من مشغرة. أعرف أنها قتلت عمداً. تمت تصفيتها. كانت نموذجاً لأناس أصيبوا بحب لا يوصف لقريتهم، كما لقرى، أغلقت أبوابها، فاستحقت أن تصبح خرائب للبوم ينعق فيها ليل نهار.
إنه موت من نوع خاص. يقيم بين جدران ونوافذ القرى المصابة بالصمت وحفيف الفراغ. قرى هجرتها بيوتها. لا رائحة فيها للناس. بيوت تنوء إذ تفتقد ابناءها. بيوت أيقنت أن رائحة ناسها تشبه حنيناً مضاداً للغياب.
نعم، هناك في لبنان، قتلٌ للقرى والبلدات أمام أعين ناسها. أناس هربوا من يتمها ويباسها وسجود أسطحها على ركبتين وركام. البقاء في القرى البائسة واليائسة قتل بطيء. أشد إيلاماً من قطع الشجر والبشر.
هذه الكتابة، ليست كالوقوف على الأطلال. نحن أمام عدم منتصر على أحياء، بشراً وحجراً. إنها تهدف إلى معرفة الاسباب الواضحة، لقتل قريتي، وقرى بائسة ومحرومة، ما يدفعُ أبناءها إلى ركوب المراكب، نحو مجهول، يصلون إليه، كأحياء عند ربهم، قد لا يرزقون.
من قتل قرانا. من أفرغ ساحة الشهداء من سكانها وكيف صارت أبوابها مهجورة. هل هذه الساحة تعرف شهداءها المكتومين. أين هم من ولدوا وكبروا وأنتجوا. بيروت عاصمة ثقافية للعرب. تغير العنوان. كل بلد له ما يخصه. نحن، لم يعد عندنا إلا ذكريات جارحة. اختل كل اساس.
بيروت تنزف. اسألوا تمثال الشهداء. إنه شاهد على تحجر المدينة. لقد تم حذف الجميل والرائع وكل من عاش هناك. صارت خربة بعشر نجوم.. وبرغم هذا التعري والتوحش “العمراني” الفارغ، لا نقول لبيروت وداعاً. الوداع يليق بالقرى التي غيّبوها، وما زالوا. تحتاج بيروت إلى اليعازر، ليقوم من بين الأموات.
مشغرة ليست وحدها على مقصلة الهجرة. في طريقي إليها، أقف أمام أطلال بحمدون. حضنتني هذه المدينة أيام دراستي. فيها مني، شعر وكتابة ورفاق. لم يعد ذلك الزمن زمناً. عندما يتوقف الزمن، قُلْ أن الحياة موت. بحمدون كانت العروس التي يخطب ودها الآلاف. تعبر فيها، ولا تسمع حشرجة. الضوء أغمض عينيه. إنها اليوم رصيف بلا أقدام. أهلها في كل نسيان يتذكرون. يتذكرون عهداً ذهبياً. هي احتفاء دائم بالأبناء والأصدقاء. ها هي تعاقر غبار الطرقات صيفاً، وقسوة الريح شتاءً. أهلها في كل نسيان يتذكرون فيما شفاههم ترتج وترتجف متلعثمة بصور الماضي الجميل. من زمان بعيد، تم اعدام القطار. محطته في بحمدون يأكلها الصدأ والحسرة. حسرة الذكريات.
بيروت خلفنا. العاصمة التي كنا نعرفها تصحّرت من ناسها. كل ناسها، وكل روادها ومريديها. إنها قاع صفصف. بيروت وضواحيها باتت مكباً للناس. من يستعيد مسارها الرائد على امتداد قرن، يفرك يداً بيد ويتمتم: “راحوا، مثل الحلم راحوا”. مدينة صوفر تشبهها. حالة يتمٍ وغربة وذكريات بهية: “ما في حدا، لا تندهي، ما في حدا”.
مشغرة، من قتلها؟ هل كان قتلها بالتقسيط، وعمداً؟
مشغرة كغيرها من قرى لبنان نزفت ناسها. كانت بلدة نامية، مزدهرة، حظها من الطبيعة ماء وفير وغزير، وأرض معطاء، ونقطة لقاء قرى كثيرة. سوق مشغرة مقصد الفلاحين والعمال والمزارعين. في ذلك الزمن، كانت مشغرة بلدة نشيطة جداً. صناعية بامتياز، حاضنة لناسها. إلى أن أتى فيلسوف الكيان اللبناني، ميشال شيحا، للبوح بأن دور لبنان ان يكون ممراً للتجارة الحرة. لبنان، ليس للصناعة ولا للزراعة. لبنان مصرف تجاري. رفعوا القيود عن الإستيراد. عقيدة ذلك الزمن كانت “تاجروا واربحوا”. انفتحوا على الغرب. تعاملوا معاملة الاسواق. مال ينجب مالاً. رأسمال تحكمه طغمة من المصارف والتجار.
كانت مشغرة بلدة نشيطة. ناجحة في تأمين حياة كريمة، بتعب الجبين. لم تشهد البلدة هجرة. كانت مشغرة، تستقبل كثيراً، وتودع قليلاً. باختصار كانت بلدة واعية وحاضنة لأبنائها. طبعاً فيها فقراء وأغنياء. ولكن على العموم، هذه الفجوة تردمها أياد سخية.
تاريخ نموذجي تاريخ مشغرة. من يصدق، أن بلدة صغيرة في الطرف الجنوبي للبقاع وبوابة مفتوحة على الجنوب، تقدم على تأسيس صناعة منافسة. الدبّاغات في مشغرة، استحوذت على اهتمام الصحافة الفرنسية، فكتبت عنها شهادة حسن سلوك، وانتاج وفير، وزراعة ناجحة، وصناعة مترامية الاطراف. من يعرف، أن الدبّاغات في مشغرة، صار لها فروع في دمشق، في فلسطين (قبل الاحتلال)، في العراق، وفي الأردن. كانت بلدة عابرة للحدود.
أفرزت الصناعة الدبّاغية طبقة عمالية (بروليتاريا) تطمح إلى زيادة الأجور. هذا طموح فذ لابناء مشغرة الذين ينتمون إلى مشغرة إنتماءً يفوق وفاقهم الديني. وهذا ما أعطى فرصة لنمو حزبين علمانيين وعقائديين. وكانت الانتخابات البلدية صراعاً بين شيوعيين وقوميين، وكان المسيحيون والمسلمون، موزعين بين الحزبين.
ليس هذا كل شيء. مشغرة عرفت الكهرباء قبل غيرها. كانت تنتج كهرباءها من شلالات الماء، التي تلزم “موتيرات” الكهرباء، بالدوران، ستة ايام على سبعة. وتقدمت البلديات على غيرها، لأنها لم تكن طائفية ابداً. الحزبان القومي والشيوعي، فرضا وجودهما على العائلات. وحصل أن فاز الشيوعي مرة، وفاز القومي طوراً. إنه صراع عقائدي بكر. أين نحن منه الآن؟ لا أحد يستطيع أن يكتشف معركة بين الأبناء. يُروى لنا، أن هناك قتيلاً واحداً، هو والد المطران سليم غزال، سقط بسبب رصاصة طائشة.
ولأنها نجحت صناعياً وكهربائياً وتجارياً وزراعياً، صارت عاصمة البقاع الجنوبي، ليس بالسياسة، بل بالانتاج والانفتاح، وكون الخلافات تعالج بالحوار والود والمسؤولية. هذه العاصمة الصغيرة، صارت ممراً ومستقراً، لكل انتاج المنطقة، من الحبوب والحليب والعرق و… و… و… إنها خزانات العافية. غير أن هناك كميناً بليغاً أصيبت به البلدة. التعليم يأتي في آخر القائمة. الشغل افضل من الكتاب. الذين تعلموا في ما بعد، ما عادوا إلى مشغرة. فضلوا العاصمة بيروت أو الهجرة إلى المنافي “السعيدة”. لم يُعلن الحداد عليها إنما هي حزينة.
من قتل مشغرة وشقيقاتها؟
يذكر ابن مشغرة وقمرها، فواز طرابلسي، أن خراب لبنان في الريف والضواحي، هو ميشال شيحا. أفتى هذا الرأسمالي المصرفي بأن لبنان ليس بلداً صناعياً، ولا هو بلد زراعي. البديل هو التجارة. لبنان ممر. جسر عبور البضائع وتوريدها إلى البطن العربي الرخو.
كانت هذه السياسة، الطلقة الأولى، في رأس الصناعات والمصانع المحلية. كنا نشتري بضائعنا وحوائجنا من السوق المشغراني. العجز الذي أصيبت به الدبّاغات، بسبب عدم قدرتها على منافسة الأسواق والمنتوجات الغربية، أدى بها إلى الإفلاس أو الإقفال. خلص. لم تعد مشغرة تحمل أعباء جيل بلا عمل ولا أمل. فتحت أبواب الهجرة. رجالنا، لم يحلموا يوماً بكابوس الهجرة. مع ذلك، بدأ تفريغ مشغرة من الصناعة والزراعة.
مشغرة اليوم حزينة. تقزّمت. نفد معينها. اقتلع الاغتراب عائلات من سن الرضاعة إلى مرحلة الرجولة. تراجعت الخدمات كثيراً.
ليس هذا كل شيء. لقد عاقبت السياسة اللبنانية مشغرة. نظرت السلطة إلى مشغرة، نظرة العداء والعدوى. بلدة، الكلمة فيها لأحزاب عقائدية. وحدها، بين كل القرى حولنا، لم تقبل الدولة تجنيد شبابها. عوقبت في الوظائف. ولا عسكري من عندنا ولا ضابط صف ولا.. هذا العقاب، كان أداة تفريغ مشغرة من أبنائها. بل تدمير مشغرة وجوارها. الخلاص، يكون بالهجرة والحسرة.
كان لمشغرة أيضاً كهرباؤها. منذ ثلاثينيات القرن الماضي أنتجت مشغرة كهرباءها. وصلت إلينا الكهرباء، بقرار أبناء مشغرة. الماء وفير، ويلتقي عند فم المولد الكهربائي. هذا غير مسموح. عطلوا كهرباءنا، ثم الحقونا بشبكة. كانت تدر فساداً أكثر مما تعطف علينا بـ5 “أمبيرات”.
في ما بعد، حدث أن اندلعت الحرب اللبنانية. تغيرت طبيعة الاصطفافات بمشغرة. ما افسح المجال لمماحكات ومنازلات ذات بعد طائفي. مشغرة اللا طائفية، قاربت على قلب صفحة المواطنة. بسرعة مذهلة، احتلت الطائفية الساحة المشغرانية. دخلتها عناصر “قواتية”، ومارست خطفاً وترهيباً وتعذيباً. اعتقالات خلف اعتقالات. طبيعي أن يثأر المظلومون، بعد انسحاب “القوات اللبنانية”، سيثأر ويرتوي. بدأت التصفيات. المناوشات. الجيش السوري أغمض عينيه. بدا أنه مع الكل وضد الكل معاً. عبقرية سورية لا نظير لها. وكانت الايام تستعجل الثأر. ووقعت الواقعة، بين “حزب الله” و”الحزب القومي”. سال دم كثير. هرب المسيحيون. وأفرغت مشغرة من خيرة أبنائها.
عدد سكان مشغرة، على الورق، حوالى 25 الفاً. مناصفة بين المسيحيين والمسلمين الشيعة. القوميون والشيوعيون، صاروا على الرف. هم من وزن الريشة. عدد السكان الفعلي هو ما بين 6 و7 آلاف. نصفهم مسافر. عدد المسيحيين المقيمين، وفق إحصاء سهل، هو دون المئة نسمة.
نحرت مشغرة، بالرأسمالية المتوحشة. العامل الأول هو رفيق الحريري الذي استنسخ فلسفة ميشال شيحا. العامل الثاني هو في انتزاع الكهرباء المحلية. العامل الثالث هو قصاص الدولة لأن مشغرة شيوعية وقومية. العامل الرابع، انفجار الطائفية وتفجير ناسها. كل المناسبات في مشغرة مرثية. الثقافة، الفكر، الابداع.. هاجروا ولن يعودوا.