…”حكاياتٌ قروِيَّةٌ”… “البيدرُ”، المائدةُ الَّتي أطعمتنا خُبزاً وفرحاً”…
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم :
…كانَ مشْهّداً صافيّاً وذاتيّاً، حينَ كُنَّا نَعيشُ في حِمايةِ الرَّغيفِ وتموّز، ومهما تشظّتِ الأسطورةُ ، وتشعّبت أروقتُها، فإنَّها لم تُفكِّكْ أحاجي الحياة والأمل والفرح…
“نيَّال من كانَ عندَهُ بيدر في قريتنا”…والبيدرُ هو فسحةُ الأرضِ المنبسطةِ المستويةِ، الَّتي كانَ يجمعُ أهلُنا غِلالَهم من قمحٍ، وعدسٍ و”باقية”، لِتُدرسَ(يُطحن َالقشُّ )عليها، لتنفصلَ الحبوبُ عن القشِّ…وتخزينِ زادِهم ومؤونتهم وعلف حيواناتِهم، في فصلِ الشّتاء…
…كانَ المزارعونَ في بداياتِ شهرِ تموّز يحصدونَ نتاجَهم، ثّمَ ” يرجدونهُ،( أي ينقلونهُ إلى البيدر، حيثُ يُكدّس القشُّ اليابسُ إلى ما يُشبِهُ التَّل الكبير…وبعدها، يسوّى بعضاً من القشِّ حول التّل، لتبدأ عملِيّةُ ” الدِّراسةِ =سحق القشِّ)…
…استخدمَ أهلنا البغالَ أو الحميرَ، وعلى الأغلبِ الأبقارَ في عمليّةِ “الدِّراسةِ” هذه، حيثُ كانَ النّيرُ(إنظر الصّورة)، يُعلَّقُ في أعناقِ الحيواناتِ، ويربطُ إلى النَّورجِ( في قريتنا يقولون مورج،كلمةٌ فارسيةٌ ـ إنظر الصّورة)، ثُمَّ يقعدُ واحدٌ أو أكثر عليه، وتبدأ عمليّةُ الدِّراسة بالدورانِ فوقَ القشِّ على أطرافِ الكومةِ… وهكذا، إلى أن يُسحقَ القشُّ تماماً ، وينفصِلَ الحبُّ عنهُ، وقد يستغرِقُ الأمرُ يومينَ أو ثلاثةٍ بلياليها، ثُم يُذرُّ القشُ بواسطةِ المِذراة ( آلةٌ خشبيةٌ طوِيلةُ تشبهُ شوكة الطّعام)، فيطيرُ فُتاتُ القشِّ ليتكدّسَ في مكانِ آخرَ، ويبقى الحّبُّ في مكانِهِ…يُصبِحُ بعدها القَشُّ تِبناً( علفاً للحيواناتِ)، أمّا الحبُّ فيُعادُ غربلَتَه، لفصله عنِ التُّرابِ والحصى…
… حينَ تحتقِرُ بلادٌ ما الفجرَ، تأكلُ الأحجارُ بيادِرَهَا!!حبّذا لو أستطيعُ أن أقِفَ على مدخلِ بلدتنا، ويستمِعً أحدهم إليَّ لأقولَ لكم كيفَ كانت!!!
…لم يكنْ في قريتنا أرصفةٌ، كانت كلُّها رصيفٌ أهلِيٌّ عتيقُ العِشِقِ، حينَ كُنَّا ننامُ في حِمايةِ بيوتِها ذواتِ الأسطحِ التُّرابيّةِ…كنّا مُشاغبينَ غيرَ مُتمردينَ، مُحتاجينَ وفقراءَ بلا فوضى، نقنعُ بنصفِ الرّغيفِ المُشبِعِ بالمِلحِ…واليومَ ، لدينا أرصفَتُنا، وبيوتُنا الإسمنتيّةَ الوارفةُ الظِّلِّ، نأكلُ ولا نشبعُ، وتسحقُنا الفوضى..
…انقسمتِ البيادرُ في قريتنا من حيثُ جُغرافيا المكانِ إلى قسمين: البيادر الفوقا، والبيادر التَّحتا!!! لا عاد في لا فوقا ولا تحتا! إقتحمَ العمارُ بيادرنا، ذرَّاها كما كنّا نُذرّي القشِّ !!صُرنا عُبَّادَ الحجرِ، وصارُ قَمحُنا زؤاناً نستجديه من أستراليا وأمريكا…صارَ المزارعُ عتيقاً بالياً، أكلتِ الوظائِفُ والمتاجِرُ عرقَ عينيهِ…مزارِعُ قريتنا ماتَ في حادِثِ ثقةٍ مع هذا الزّمن…يلحسُ شاربيه من آثارِ “النسكافه)، وملأ ثيابَهُ فتاتُ” الكرواسون…وما عادَ في وسعِهِ أن يُحادثَ العنزةَ ب”واتسأب”!!
…البيادرُ كانت حكاياتنا الّتي تهذي معَ الوقتِ، حينَ كُنا نسهرُ اللّيلَ مع قمرَ تمّوز، على السّراجِ (الموقدِ بزيتِ الزَّيتونِ)، نحكي عن بساطتنا، فرحنا، وأحلامنا ، ويسهرُ اللّهُ قريباً من جبلِنا المشبعِ بالنَّدى…وبالرّغمِ من وجودِ الضِّباعِ والذَئابِ في ذلكَ الليلِ ـ الزّمن السَّحيقِ، فإنَّها ما كانت تُهاجِمنا، كانَ البيدرُ مِظلّةَ أمانٍ، يَجمعُنا على الحُبِّ!!
…أبقتنا القريةُ طويلاً بعيدينَ عنِ الظَّمأ، وكنّا نُحسُّ بأمّهاتنا، من مسافاتٍ بعيدةٍ… اليومَ ، ما عادت أمُّنا تعرِفُنا حينَ نُقبِّلُها…
(جهاد الشّوفي 19 ـ 8 ـ 2019)..