العصبيّة المُحِبّة بقلم دلال القاضي
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /
إنّ أعظم ما في الإدراك هو امتشاق أخلص ما في المرء من شمائل، فتظهر على هيئة وعي مُبَلِسم للمسائل، متجذّر بالأصالة، متمترس على تماس مباشر مع العقل المجدِّد، يفتح آفاقًا من عصارة جهد وتعب وكفاح، يقدّمها للناس في مجتمعه كي يرتقوا، ويعلّموا أولادهم بها، وينتقلون من درك الفرديّة إلى رحاب ال “نحن” المنتجة.
تجد في سيرة حياة المفكّرين العظماء الكثير من الأزمات الشّخصيّة والعثرات الّتي من شأنها أن تُدخل اليأس إلى قلب أيّ إنسان مهما امتلك من رباطة جأش وصبر، لكنّهم رغم جراحهم المتخمة، يصنعون لغيرهم مبادئ تشكّل قضيّة قد تساوي وجودهم في أغلب الأحيان، ولعلّ السّرّ الكامن خلف العطاء الزّاخر هذا هو “المحبّة”.
فالمحبّة هي مفتاح كلّ خير، ومعموديّة كلّ جميل، وعماد كلّ حقّ، هذه المفاهيم المطلقة الّتي لا تقبل التّجزئة أو النّسبيّة، والّتي تخلق “عصبيّة” لما يؤمنون به ويريدون فلاحه وصلاحه.
ان العصبيّة ليست مفهومًا قبليًّا كما التّعصّب، بل هي انتماء للبلاد والمجتمع والشّعب، هي أن تنتمي لكلّ ما في بلادك من أنهر وجبال وأناسٍ وعمران ونتاج حضاريّ، فنّيّ، زراعيّ، عمرانيّ وصناعيّ، هي أن يشنف فؤادك لسماع زقزقة الطّيور المقيمة في بلادك، وأن تفضّل اقتناء ما يصنعه أبناء شعبك على أيّ صناعة أخرى ولو لم يكن بنفس الجودة، هي أن تعتمد في غذائك على ما تحصده سواعد فلّاحي بلادك، وأن تُقاخر باللّغة الّتي يتكلّمها شعبك، وتتلمّس صورة شعريّة لشاعر شعبيّ قرويّ يقطن مرتفعات نائيّة في وطنك، وتستمتع بالرّقصة الشًعبيّة الّتي يتقنها شعبك، فالعصبيّة هي أن تضع مصلحة بلادك وشعبك فوق كلّ مصلحة حتّى مصلحته الشّخصيّة، وأن تنتمي لكلّ ما يمتاز به شعبك من مهن وحرف وصناعات، وكلّ ما ينتجه من مأكل وزراعات.
من هنا، ومن هذه “العصبيّة” المتجذّرة تُنحَت أعتى التّعاقدات الاجتماعيّة، وتُرسَى أقيم أعراف الحياة في أيّ بيئة اجتماعيّة أو مجتمع، فتمسي نهج ودورة حياة شعب بأكمله في شتّي الميادين، ولا سيّما الاقتصاد والاجتماع البشريّ، وبها تُوضع الأمم بفعل إيمان شعبها على خارطة الأمم الحيّة.
Time magazine