التضخم والدولار 46500: 10 تريليون ليرة لبنانية جديدة في الأسواق
صدى وادي التيم – من الصحف اللبنانية
قبل أيام، أثار ستيف إتش هانكي، أستاذ الاقتصاد الشهير في جامعة جونز هوبكنز، زوبعة من المخاوف حين صرّح بأنّ لبنان على بُعد أسابيع فقط من الوصول إلى مرحلة التضخّم المفرط، ليكون بذلك الدولة الأولى على الإطلاق في الشرق الأوسط التي تشهد هذه الظاهرة، وليكون هذا التضخّم المفرط الـ61 في تاريخ البشريّة.
حاليّاً، وبحسب هانكي، تُعدّ فنزويلا الدولة الوحيدة على مستوى العالم التي ما زالت عالقة في دوّامة هذه الظاهرة، فيما يُعدّ لبنان اليوم مرشّحاً جدّياً ليكون الدولة الثانية عالميّاً التي تدخل في أتون التضخّم المفرط. هانكي أنهى كلامه بكلمات لا تطمئن: “لبنان في دوّامة الموت”.
لا يمكن المرور بخفّة على ما قاله هانكي، فقيمة آراء الرجل لا تنبع من كونه أشهر اقتصاديي العصر الحديث فقط، بل في كونه مرجعاً متخصّصاً في تشخيص وقياس ظواهر التضخّم المفرط، وفي توصيف حالة البلدان التي تدخل في هذا النوع من الدوّامات الخطرة. مع العلم أن هانكي يُصدر مؤشّراً خاصاً لقياس مستويات التضخّم في بلدان العالم المختلفة، وقد حلّ لبنان مؤخّراً في المرتبة الثالثة عالميّاً بحسب أرقام هذا المؤشّر، بعد فينزويلا وزيمبابوي.
من ناحية التشخيص، تختلف ظاهرة التضخّم المفرط، كالذي تشهده فينزويلا اليوم، عن ظواهر الانهيار التقليدي في أسعار صرف العملات كالذي تشهده الكثير من الدول الأخرى. في حالة التضخّم المفرط، تدخل البلاد في دوّامة تضخّم جنوني مفرغة يصعب الخروج منها، تبدأ في العادة بارتفاع الأسعار بنسب تفوق الـ 50% شهريّاً، وتؤدّي في المحصّلة إلى تهاوي القيمة الفعليّة لعائدات الدولة الضريبيّة. ومع تهاوي قيمة العائدات الضريبيّة، تضطر الدولة إلى طباعة النقد لتمويل الإنفاق، وهو ما يؤدّي إلى المزيد التضخّم الجنوني، فتدخل البلاد في هذه الحلقة المفرغة والمخيفة. باختصار، التضخّم المفرط يمثّل “جهنّم” اقتصاديّة بالنسبة إلى أيّ مسؤول نقدي أو مالي في أيّ دولة، ولبنان على وشك الدخول في هذه الدوّامة، بحسب هانكي.
في الواقع، ثمّة دول عديدة شهدت مؤخّراً انهيارات كبيرة في أسعار الصرف، وهو ما أدّى إلى ضغوط معيشيّة وارتفاع في الأسعار، لكنّ هذه الظواهر لم تطوّر إلى حالة “تضخّم مفرط”، بالنظر إلى وجود قاعدة من الإنتاج المحلّي. أمّا في حالة البلدان المعتمدة على الاستيراد إلى حدّ كبير، كلبنان، فالباب يصبح مشرّعاً على كابوس التضخّم المفرط، الشبيه بالحالة الفنزويليّة.
“بنك أوف أميركا”، كان في طليعة الذين اهتموا بمراجعة النموذج اللبناني المتجه نحو التضخّم المفرط، من خلال تقرير بعنوان “شبح التضخّم المفرط”، الذي يشرّح الأسباب التي تدفع لبنان اليوم باتجاه هذه الظاهرة. عمليّاً، أدّت التطوّرات الاقتصاديّة الأخيرة إلى تنامي العجز في ماليّة الدولة. وبما أن لبنان أعلن امتناعه رسميّاً عن سداد ديونه، لم يعد لديه قدرة على الاقتراض من أيّ طرف باستثناء المصرف المركزي. والاعتماد على المصرف المركزي للاقتراض والاكتتاب في سندات الخزينة، يعني اليوم حكماً طباعة المزيد من النقد بالليرة اللبنانيّة لتمويل هذا الإقراض. وهو ما يعني تضخيم الكتلة النقديّة بالليرة التي سرعان ما تتحوّل إلى طلب على الدولار في السوق لتمويل الاستيراد. مع العلم أنّ رئيس الحكومة نفسه لطالما وجّه سهامه إلى السياسات الماليّة السابقة، التي أفرطت في الاعتماد على المصرف المركزي للاقتراض، بينما يبدو أنّ لبنان اليوم يعتمد على المصرف أكثر من أيّ وقت للاقتراض وتمويل الإنفاق، وخصوصاً بعد أن أعلنت الدولة تعثّرها في سداد ديونها.
في الوقت نفسه، تتوسّع الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانية كنتيجة لبعض المعالجات النقديّة والماليّة التي لجأ إليها مصرف لبنان خلال الفترة الماضية للتعامل مع تداعيات الأزمة. فلتمويل استيراد السلع الأساسيّة، عمد المصرف المركزي إلى الطلب من شركات تحويل الأموال سداد قيمة التحويلات الواردة من الخارج بالليرة، مقابل بيع الدولارات لمصرف لبنان. وبينما أصبحت المصارف عاجزة عن توفير الدولار النقدي لتمويل السحوبات النقديّة لأصحاب الودائع بالعملات الأجنبيّة، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 151 الذي يسمح للمصارف بسداد قيمة هذه الودائع بالليرة، ووفق سعر صرف خاص يبلغ اليوم حدود الـ 3850 ليرة للدولار. بالتأكيد، انطلق مصرف لبنان عند هذه القرارات من خطط استهدفت التعامل مع بعض الجوانب الملحّة من الأزمة، لكنّ النتيجة الطبيعيّة كانت ضخّ المزيد من السيولة بالليرة اللبنانيّة في الأسواق، التي تحوّلت تلقائيّاً إلى ضغط على سعر الصرف.
في مقابل توسّع عمليّات ضخّ السيولة بالليرة اللبنانيّة في السوق، تشحّ تدريجيّاً كلّ مصادر الدولار النقدي، بعد أن توقّفت نهائيّاً التحويلات من الخارج إلى النظام المالي اللبناني، كما تراجعت التحويلات عبر شركات تحويل الأموال نتيجة الفارق بين سعر الصرف المعتمد لسداد قيمتها بالليرة وسعر الصرف الفعلي. ومن ناحية أخرى، وبعد تعثّر مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، لا يبدو أنّ البلاد في طريقها للحصول على أيّ دعم خارجي يمكن أن يوفّر لها السيولة بالعملة الصعبة التي تحتاجها.
لكلّ هذه الأسباب، وبحسب تقرير “بنك أوف أميركا”، توسّع حجم الكتلة النقديّة بالليرة مقابل العملات الأجنبيّة بنحو 429%، وهو ما يعني أنّ حجم السيولة المتوفّرة بالليرة في الأسواق والتي ستتحوّل إلى طلب العملة الأجنبيّة ارتفعت بهذه النسبة. والنتيجة الطبيعيّة لهذا التطوّر، ستكون بحسب التقرير، ارتفاع سعر الصرف إلى 13,551 ليرة مقابل الدولار الأميركي. أمّا إذا استمرّ مسار سعر الصرف بالهبوط على هذا النحو، فمن المتوقّع أن يصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى نحو 46,500 ليرة في نهاية العام. هذا في حين كان عدد الليرات في السوق اللبناني هو 7 تريليونات في تشرين الأوّل 2019، ووصل اليوم إلى 17 تريليوناً، بما يعنين 10 تريليونات إضافية، طبعت على الأرجح خلال الأشهر الماضية.
لا تبشّر هذه الأرقام بالخير طبعاً، لكنّ الخروج من هذا المسار الكارثي ممكن في حالة واحدة، وهي حصول تحوّل في مقاربات الحكومة للتعامل مع الأزمة، وخصوصاً من جهة الشروع بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها، والانطلاق بالمعالجات الضروريّة للتعامل مع مكامن الخلل في بنية الاقتصاد اللبناني. عندها فقط، يمكن الرهان على شيء ما لوقف مسار الانحدار الكارثي.
علي نور – أساس ميديا