السيّدة المعلّقة …

صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم

“إلهي، ليس الآن، ولا بهذه الطّريقة!”

همست السيّدةُ المعلّقةُ بجذع الشّجرة. لم تسأل نفسَها إلى أين قد يقودها بحثُها عنه ومجيئُها إليه.

أين أنتَ يا أسعد؟ لمَ تركتني وحيدةً كلَّ تلك السّنوات؟ كيف لم تعرفْ طريقَ العودة إلى البيت يا حبيبي؟ أين أخذوك؟ هل تعلم أنّي زوّجتُ أولادَنا جميعهم، سعاد ويُمنى وعزيزة واعتدال وخليل ومروان؟ لم ترَ مروان يا أسعد. عصبيّ. مازال، وهو أبٌ لابنتيْن، طفلًا صغيرًا يريد اهتمامَ الجميع.

مازلتُ أذكر كيف كنتَ ترنو إلى عينيّ وتقول: “يسلمولي هالعيون!” أتعلم أنّ عينيّ ما نامتا منذ اختفيتَ؟ أعلمُ أنّ أربعين عامًا كانت كافيةً لأنسى أو أتأقلم، ولكنّي ما استطعت.

يمّا يا خليل، اهتمّ بإخوتك. مروان ليس مثلَك يمّا. حطّه تحت جناحك وعلّمْه. إنتَ، يمّا، صرت رجل البيت بعد والدك. قلبي راضٍ عنك. سامحْني، يمّا، كبرتَ قبل أوانك. ما كانت لحيتك طلعتْ لمّا طلعت لتشتغل. الله يبارك في عمرك مثلما بارك في قرشك؛ صحيح أنّه قليل لكنّه ستَرَنا. تعرف أنّي كنتُ أنتظرك كلَّ ليلة وأنا خائفة ألّا ترجع؟ وحين تفتح باب البيت، كنتُ أغمضُ عينيّ، وأبكي عليّ وعليك، ولا أعرف إنْ كان عليّ أن أقومَ فأحضنَك أمْ أصرخ أمْ أقتل نفسي؟ كان كلّ شي صعبًا. لا شيء لنا .

أبا محمّد، يا جارَ الرّضى وابنَ الكرَم، لن أنسى فضلَكَ عليّ وعلى أولادي. جئنا بابَك حفاة عراة، في ليل لئيم جعلني أترك بيتي مثلَ المجنونة. كانت ليلة أحزان لم تنتهِ. لم أكن قد وضعتُ مروان، لكنّ ألم المخاض جاء مبكّرًا. وكنتُ قد لملمت الأولاد بعد أن أخذوا والدَهم أمام عينيّ. مسكين أسعد، كان معلّم حلْويات، ولم يتدخّلْ في شؤون غيره. لكنّهم لم يفرِّقوا بين مخرّب أو مقاتلٍ أو عجوز. كانت تهمةُ الفلسطينيّ كافيةً لسحق كلّ شيء. كنتُ أنتظر عودتَه من المحلّ. وبمجرّد دخوله البيتَ، كسروا البابَ، وضربوه بالبواريد على رأسه، وسحبوه ككبش. لم أرَ طوال الطّريق، التي لا أعرف كيف أخذتْني إلى بيتكم، سوى دمائه تسيل فوق عينيه الزّرقاوين. ما إنْ وصلنا حتّى ولدتُ مروان في بيت البقر، في مزرعتك. ثمّ حوّلتَ لنا ذلك المكانَ إلى بيت. وبَنَتْ عزيزة واعتدال جدرانَه من بطّانيّاتٍ أعطتنا إيّاها زوجتُك. وعشنا، أجل عشنا، في بيت البقر أعوامًا طويلة. وحين كان جنوني يشدُّني وأخرجُ إلى الشّوارع لأبحثَ عن أسعد، كانت أمّ محمد تُرضع مروان وتنام مع الأولاد. كنت أخرج ولا أريد أن أعود. كنتُ أنسى سببَ خروجي، ولا أسأل كيف أعود. لم أكن أريد أن أعود.

تلك الليلة التي جاءني فيها أنّ أسعد موجود في الشّمال، خرجتُ من دون حجابي. لحقْتَني أنت حاملًا عباءةً من عباءات أمّ محمّد. لم أكن أملك المالَ كي أصلَ إلى المكان. مشيتُ طويلًا. ومن الفراغ والعتمة، لمعتْ أضواءُ سيّارة. أوقفتُها وقلت للسّائق: “إمّا أن تأخذني معك أو أرمي بنفسي أمام عجلاتك.” أعتقدُ أنّه رأى في عينيّ جنونًا فقال: “اركبي!” لم يكلّمْني ولم أكلّمْه. كانت رائحةُ العرق والدّخان تفوح منه، فأبقيتُ رأسي نحو الشبّاك. عند حاجزٍ للجيش، قال لي، وقد أدرك أنّي لا أحتفظ بهويّتي: “ما تخافي ما بيحكوا مع النِّسوان.” ثم أخرج بطاقةَ هويّته، فرأيتُ وجهًا أعرفُه. كيف أنسى ذلك الوجهَ ما حييت؟ “مين بتخبّي بالمحلّ؟ عندك سلاح يا كلب؟ شو هيدا؟ كمان كنافة؟ بتاكل كنافة يا وسخ؟ قول مين مخبّي جوّا. طلّعْ شو معك. اخرسْ. دير وجّك يا كلب. وإنتِ، فوتي لجوّا، وبديش اسمعلك صوت. فوتي وإلّا…”

يومَها، ركضتُ، ورجلاي ترتجفان، نحو غرفة النّوْم حيث كان الأولادُ ينامون. غطّيتُهم بصدري، وكتمتُ صراخي وبكائي وأنا أسمعهم يضربونه ويركلونه ويصفعونه، وأسمع وقوعَه وتأوّهاتِه ورفضَه أن يترجّاهم كما كانوا يأمرونه أن يفعل (“بوس صبّاطي يا حقير وترجّاني اتركك تعيش”). لم يترجّهم، وليته فعل. لو فعل، لعطبوا له يدًا، أو طمسوا له عينًا، أو كسروا رجله ثمّ تركوه، أو سرقوا البيتَ ولاذوا كالكلاب. لكنّه صرخ في هذا الوجه الذي يجلس إلى شمالي ويتظارف مع الضّابط مازحًا: “فشرت!” 

لم أره بعدها، لم أعرف إنْ كان ميتًا أم أنّه فقد ذاكرتَه فلم يعرف كيف يرجع إلينا، ولا أستطيع أن أعترفَ أنّه شبع موتًا من ليلتها.

ليتني لحقتُ بهم. ليتني ركضتُ ومزّقتُ قميصَه الكاكيّ بيديّ هاتيْن. لكنّي بقيتُ مغمضةَ العينين. لم أعد أسمع أو أرى. لم أدرِ كم يومًا بقيتُ أحتضن أولادي، أو أجثمُ فوقهم في الغرفة. لم أعرفْ أين ذهب الجيرانُ في الحيّ. حين خرجتُ، كان بابُ بيت أمّ علي مخلّعًا، والحيُّ أبيضَ كأنّ غمامةً سكنتْه. جررتُ أولادي نحو ذلك البياض. لم يكن لي أهل؛ فوالداي ماتا، وأخي الوحيد هاجر إلى أمريكا. مشيتُ طويلًا. حين بلغتُ بيتَ ذلك الرّجل الطّيّب أبي محمّد، كانت قد أظلمتْ. كانت زوجتُه تبكي وأنا سارحة، وتأتي بالطّعام وأنا سارحة، وتحمِّم الأولادَ وأنا سارحة، وتسرِّح لي شعري وأنا سارحة، تمامًا كما أسْرح في نصف وجه الرّجُل المسنّ الذي أوقف سيّارتَه في عتمة ليلي. هل يكون مَن أخذه منّي سيأخذني إليه؟

سألتُه بلهجةٍ تعمّدتُ أن تبدو جنوبيّةً:

– إلى أين أنت ذاهب؟

– أنتِ أين تقصدين؟

– أنا طريقي بعيدة شوي. أقصد الشّمال.

– طريقنا واحد. أنا أقصد الشّمال كذلك. لي قريب عزيز توفّي. لم أتمالكْ نفسي حين سمعت خبرَ وفاته. وها أنا عائد إلى بيتي. شعرتُ أنّكِ لستِ بخيرٍ حين أوقفتِ السّيارة بتلك الطريقة. لكنّك تجازفين بالخروج في هذا الليل.

– لم يعد يخيفني شيء.

قلتُ ذلك وصمتُّ تمامًا. فسمعتُه يهمس: “كلّنا مات خوفُنا.” بعد وقتٍ سألني: “هل لديكِ أولاد؟” هززتُ رأسي إيجابًا. سألني: “عايشين؟” هززتُ رأسي من جديدٍ إيجابًا. قال: “كان لي ابنٌ وحيد وابنة. ابني مات بالحرب، قتلوه، الله لا يسامحهم. حلفتُ بالله لأشرب من دمهم… إيه أيّام صعبة، أكيد راح لك حدا بالحرب.” هززتُ برأسي من جديد وبقيتْ عيناي تنظران إلى الوجه المعلّق فوق تابلو السّيارة. قال كمن يكلّم نفسه: “كسرتْ ضهري، تزوّجتْ آخر واحد يمكن أن أوافق عليه. يلعن أبو الحبّ! حبّ شو هيدا الّي بيعميها عن الحقيقة؟”

– من هي؟

– ابنتي تزوّجتْ فلسطينيًّا!

قلتُ بلهجتي الجنوبيّة المتعمّدة: “ممم يبدو أنّ لكَ رأيًا آخر.” ردّ بحدّة:

– ولك يا إختي، هول إجوا خرّبوا البلد. قتلوا ونهبوا وتسلبطوا وبدّن يتجوّزوا ولادنا كمان.

– الصّغار ما بفكروا هيك. الحبّ أعمى … ويمكن الحقيقة ضايعة.

ثمّ سكتُّ، وتعمدّتُ أن أشيحَ بوجهي نحو الجهة الآخرى، معلنةً الصّمتَ حتّى نهاية الرّحلة. شكرتُه حين وصلنا. كان النّهار قد بدأ يشعشع. انتظرتُ أن تفتحَ الأسواق. دخلتُ محلًّا لبيع الإشاربات. ألهيتُ البائعةَ وسرقتُ منديلًا أزرقَ بورودٍ كثيرة.

وقفتُ مقابلَ البيت الأرضيّ الضّخم الذي يسكنه. هناك حارسٌ وكلب، والبوّابةُ الحديديّة عاليةٌ لن أتمكّنَ من عبورها مهما فعلتُ وأنا في هذه السّن. خرج وركب سيّارتَه. يبدو أنّه يحبّ أن يقودَ بنفسه، رغم أنّ له يدًا مقطوعة. وقفتُ عند المفترق الذي أوقفني عنده الليلةَ الفائتة. لوّحتُ بيدي. عرفني فتوقّف مبتسمًا: “شو بدّك رجّعك معي؟” دلفتُ السّيّارة وجلستُ بهدوء ويداي في حجري. تحسّستُ حقيبتي. وجدتُه ينظر نحو يدي، فرفعتُها عن الحقيبة. قال: “شكلك مش غريب عليّ. هل التقينا من قبل؟ الآن، وأنتِ تضعين الحجابَ، أشعر أنّي أعرفك. أنت من وين بالأصل؟”

تجاهلتُ سؤاله وقلت: “هل أنجبتِ ابنتُكِ؟”

– أجل، بنتًا أسمتْها صابرين.

– ألا تسامحها من أجل ابنتها؟ إنّها حفيدتكَ في النّهاية. أين زوجتك؟

– كسرتلي ظهري بنت الكلب. من بعد موت زوجتي لم يبقَ لي أحد سواها. بس فشرتْ…

رنّت الكلمةُ في أذني كأنّها صاعقة. ظلّت السيّارةُ تمشي في طريق أبيض طويل. قال إنّه يحتاج أن يستنشقَ هواءً نقيًّا، فركن السّيّارةَ وترجّل منها. أشعل سيجارةً وعبّها دفعةً واحدة. تبعتُه ووقفتُ قرب الدّرَج الحجريّ الذي يفصل الطريقَ عن الوادي الأبيض. وجدتُني أرفع سكّيني في وجهه وأقول: “كذلك قال لكَ زوجي وأنت تضربُه.” نظر إليّ متسائلًا. فقلت: “سمعتُه يقول: ’فشرت!‘ أسعد طبعًا لن تذكرَه. لا بدّ أنّك قتلتَ مئاتٍ غيرَه بتهمة أنّهم فلسطينيّون. فكيف ستتذكّر وجهًا من وجوهٍ كثيرة أدميتْ قلوبًا لرحيلها؟”

– من أنتِ؟

– ليس مهمًّا. المهم أنّي وجدتُكَ.

– هل كنتِ تبحثين عنّي؟ لماذا؟

– كنتُ أبحث عن زوجي، فوجدتُكَ. منذ أربعين سنةً وأنا أبحث عنه. منذ تلك اللية التي جررتَه فيها وتركتَ دماءه فوق بلاط الصّالة.

– من أنتِ؟

لم أقل له شيئًا. تقدّمتُ منه، واستغللتُ أنّه يتّكئ برجلٍ واحدةٍ على الحجارة المصفوفة بعشوائيّة. دفعتُه، فهوى محاولًا أن يمسكَ برأسي، فاختلّ توازني وهويتُ. لكنّ حجابي انفلت. ظلّ صراخُه معلّقًا في الرّيح دقائقَ ثمّ اختفى.

***

لا تخافي، سيتوقّف هذا الحدادُ المزمن وستنتصرين. ستفردين جناحيْكِ، وستشعلين شموعَكِ، وستنسين المآسي التي ذرتكِ رمادًا. مشيتِ ذلك الطّريق وحيدةً خائفةً فقيرة. أعرفُ أنّ قلبَكِ سحقه الهمُّ، وأنّ دموعَكِ محفورةٌ فوق خدّيكِ، ولكن اطمئنّي. سينتهي كلُّ شيء. اتركي نفسَكِ للرّيح، وتعاليْ إلى ذراعيّ. الآن، وأنت

تسبحين في البياض، تتحرّرين، تمسكين بيد أسعد تنظرين في عينيه وتغمضين عينيكِ وتنامين

وداد طه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!