لبنان نحو العتمة الشاملة و”الطاقة”: “همّي نفسي”!
كتبت خالد أبو شقرا في صحيفة “نداء الوطن”:
ما يعانيه لبنان اليوم من نقص فاضح في انتاج الكهرباء، سيكون بمثابة نزهة في الضوء أمام ما ينتظر البلد من عتمة كالحة في الاشهر القريبة القادمة. ملامح الغرق التدريجي في الظلام بدأت تظهر في غالبية المناطق مع تجاوز معدلات التقنين 14 ساعة يومياً. أما خطط الكهرباء “العرجاء” فلن تستطيع “التعكيز” بعد اليوم على المولدات الخاصة، التي ستمنى بدورها، مع فقدان المازوت وارتفاع سعره، بمقتل.
المشكلة في قطاع الطاقة لا تتوقف على اعتماد الحكومة خططاً كهربائية قديمة تخطاها الزمن فحسب، إنما على افتقار الخطط للحوكمة الرشيدة والقدرة على الاصلاح. فـ”لا يمكن لبلدنا، الذي ساهمت سياسة الطاقة الحالية في إفلاسه، أن تستمر في تجاهلها المستمر للأموال العامة، والبيئة، والاقتصاد وجودة الحياة ورفاهية مواطنينا. يجب أن تتبنى على الفور نموذجاً جديداً للتحول، والتفكير في الطاقة يعتمد على التنمية المستدامة بأقل تكلفة”، يقول البيان المشترك الصادر عن “المؤسسة اللبنانية للطاقة المتجددة” ومجموعة “كلنا ارادة”.
EDF والدراسة
في الوقت الذي يتعاظم فيه الاعتماد العالمي على الطاقة المتجددة، ما زالت طموحات الخطط الطاقوية محصورة بإنتاج 12 في المئة من الكهرباء لغاية 2020 و30 في المئة لغاية 2030. ومع هذا، لم يتعدّ الانتاج من الطاقة النظيفة لغاية العام الماضي الـ 56 ميغاواط بحسب مختلف التقارير، أي ما يشكل حوالى 2 في المئة فقط من الطاقة المنتجة وبأسعار مرتفعة جداً عن المعدلات العالمية. وفي حال استمرار النهج نفسه فان هذا الرقم لن يزيد بعد 10 سنوات، ولا حتى بعد مئة عام.
في شباط العام الحالي كلف البنك الدولي شركة كهرباء فرنسا إجراء دراسة مفصلة عن حاجة لبنان من الكهرباء لجهة الحاجة المستقبلية وطرق الانتاج الامثل، التي من الممكن ان تؤمن بأقل كلفة. فهذا القطاع الفاشل الذي استنزف الخزينة بأكثر من 45 مليار دولار يعتبر أساسياً في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وإذا لم يتم حل هذه المعضلة فان المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يعتمد بشكل كبير على التوصيات النهائية “للبنك”، سيكون مصيرها الفشل، وسيحرم لبنان من أي فرص تمويل مستقبلية.
قامت شركة كهرباء فرنسا التي تعمل على برنامج متطور جداً يعرف بـ PLEXOS بدورها كاملاً. وقد اجتمعت و”البنك الدولي” خلال الفترة الماضية بكل من ممثلي وزارة الطاقة و”المؤسسة اللبنانية للطاقة المتجددة”، التي كانت تطالب بتنفيذ مثل هذه الدراسة المحترفة. بعدما كانت “للجمعية” مساهمة بدراسة شبيهة مع الجامعة الاميركية في بيروت وStrategy &. وبعد نحو ثلاثة أشهر قدمت كهرباء فرنسا المسودة الاولية التي حملت عنوان “خطة توليد الطاقة بأقل تكلفة” LEAST COST GENERATION PLAN. المسودة التي جرى تسريبها إلى الرأي العام، لم تنل رضى وزارة الطاقة واستمرت باخفائها عن الحكومة والرأي العام أملاً في الضغط على شركة كهرباء فرنسا لتغييرها.
%40 طاقة نظيفة
مسودة الدراسة لا تقف عند حدود ضرورة وامكانية تأمين 40 في المئة من انتاج الكهرباء خلال الاعوام القادمة من الطاقة النظيفة، إنما ان يتم الوصول الى 37 في المئة في السنوات الخمس الاولى، وان تترك الـ3 في المئة المتبقية للسنوات اللاحقة، لا ان يتم تأجيل تنفيذ الخطط الى اللحظات الاخيرة كما جرت العادة. هذه التوصية البالغة الاهمية التي تعتمد على كمية انتاج كبيرة بكلفة قليلة تنسف تلقائياً خطة الوزارة بالتوسع بانشاء المعامل الكهربائية. رئيس المركزي اللبناني للطاقة المتجددة روني كرم يلفت إلى أن “أهمية هذه الدراسة هي اشارتها الى عدم صحة الاكثار من معامل الغاز على الشاطئ إذا كانت النية هي الاعتماد على الطاقة المتجددة الاوفر على كل المستويات الاقتصادية والصحية والبيئية. وذلك كي لا نقع بالمأزق الذي وقعت فيه الاردن”.
فالاردن بعد العام 2014 سار بخطتين لانتاج الكهرباء. الاولى اعتمدت فيها على تطوير وانشاء معامل الغاز بعقود TAKE OR PAY لمدة 25 عاماً وبكلفة تقدر بحوالى 10 سنتات للكيلوواط. والثانية بالتوسع بانشاء مشاريع الطاقة المتجددة على الطاقة الشمسية، أيضاً بكلفة 10 سنتات حينها للكيلوواط. انما بعد 5 سنوات ارتفعت الطاقة المنتجة من الشمس إلى 1400 ميغاواط وانخفض سعر الكيلوواط الى 2.5 سنت، مقابل ثبات سعر كيلوواط المعامل على الغاز عند 10 سنتات، واضطرار الدولة إلى دفع ثمن كامل الكمية المنتجة بسعر مرتفع لغاية نهاية العقد. الامر الذي حرم الاردن من التوسع في انتاج الطاقة النظيفة وحرمان المواطنين من الاسعار المنخفضة.
الطاقة المتجددة تلغي سلعاتا
دراسة كهرباء فرنسا التي لحظت امكانية وصول لبنان في غضون سنوات قليلة الى انتاج 40 في المئة من الطاقة من الشمس والهواء والمياه، أو ما يعرف بمزيج الطاقة الامثل، قللت تلقائياً الحاجة إلى معامل الكهرباء وأبعدت تلك المكلفة اكثر من غيرها. وبالتالي أوصت الدراسة، بحسب كرم، بـ “تحويل معمل دير عمار الموجود الى الغاز واضافة معمل آخر بطاقة تصل الى 1430 ميغاواط بدلاً من 459. ورفع الطاقة الانتاجية في معمل الزهراني إلى 935 ميغاواط بدلاً من 459 ميغاواط. والابتعاد عن انشاء معمل في سلعاتا لتعقّد وارتفاع اكلاف استملاك مكان المعمل وشبكة النقل، هذا عدا عن الاختلافات مع الاهالي والبلدية والانعكاس على البيئة البحرية، وعدم رغبة البنك الدولي في تمويل مثل هذه المشاريع الاشكالية. من هنا يعتبر كرم ان “منطق كهرباء فرنسا تقني بحت، ولا دخل له لا من قريب ولا من بعيد بالسياسة والامور الداخلية اللبنانية. وهو يرتكز على اولوية الاستفادة من المواقع الموجودة وتكبير قدراتها الانتاجية، بدلاً من صرف المزيد من الاموال على معامل جديدة. وهذا ما يظهر بوضوح باستئناف العمل بمعمل الجية بعد العام 2026. لان الهدف هو الاستثمار في المواقع الحالية بالطاقة القصوى والابتعاد قدر الامكان عن اضافة مواقع جديدة أينما كانت”.
6 من 7 احتمالات وضعتها دراسة كهرباء فرنسا أفضت إلى عدم ضرورة انشاء معمل في سلعاتا. أما الاحتمال الواحد المتبقي الذي يبقي المعمل، فيرتكز على عدم تخطي الطاقة المتجددة الـ 5 في المئة. وهذا ما يدفع للشك بأن وزير الطاقة، الذي يجاهر بعدم ايمانه بالطاقة المتجددة، يدفع باتجاه الضغط على كهرباء فرنسا لتخفيف الاعتماد على الطاقة النظيفة، من اجل استمرار السير بمعمل سلعاتا. وهو ما لن يحصل بحسب خبراء وناشطين يتابعون الملف عن كثب.
محاولات تشويه المسودة وتسويقها على انها غير دقيقة ومعدومة القيمة تعني لنا كمواطنين أمراً واحداً، وهو: لا كهرباء. وإن قدّر الله وأتت بعد زمن غير محدد، فستكون بخطط مشبوهة وبأسعار مرتفعة، وبكثير من الاموال المهدورة التي ستذهب بدل سمسرات وصفقات.