كلمة رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسان دياب إلى اللبنانيين
صدى وادي التيم – لبنانيات
أيها اللبنانيات.. أيها اللبنانيون
عندما تم تكليفي بتشكيل هذه الحكومة، ثم عند تشكيل الحكومة، كانت ثقة اللبنانيين بقدرتنا على تحقيق إنجازات، ضعيفة. كان أمل اللبنانيين بنا هزيلاً.
نعترف بذلك.
كانت تلك فرصة لابتسامات صفراء بقيت مكتومة، تراهن على فشلنا في معالجة ارتكابات وتراكمات حفرت عميقاً في كيان الدولة وفي البنية الاقتصادية والمالية للبنان، والتي زينوها لسنوات طويلة على أنها إعجاز، في حين أنها كانت عبارة عن مجرّد ألوان تغطّي التشوّهات الهائلة التي تسببوا بها ولم يرف لهم جفن.
بعد أقل من شهر على انطلاق عمل الحكومة، بدأ اللبنانيون يلمسون الجدية، والمنهجية، والإصرار، والإرادة، والتصميم، والجرأة، لدى هذه الحكومة مجتمعة وعلى مستوى وزرائها منفردين.
تغيّر مزاج الناس، وأصبحت هذه الحكومة تحظى بنسبة عالية من ثقة المواطنين، وهو ما يبدو أنه أزعج كثيراً من الذين راهنوا على فشلها.
منذ ذاك الوقت، لم تتوقف الشائعات، وفبركة الأخبار، والأكاذيب، والاستهدافات الشخصية، والسياسية.
لكننا واجهنا كل ذلك بصمت وبمزيد من العمل، على الرغم من أن حملات التشويه والتحامل وصلت إلى مسائل سخيفة.
هناك نماذج كثيرة عن الحملة المبرمجة التي تنظّمها جهات معروفة بالإسم، والهوية، والصورة، والخلفية، وطريقة التفكير التي لا ترتدع عن استخدام أي وسيلة لتهشيم صورة الآخرين لأنهم لم يستطيعوا تحسين صورة أنفسهم.
نعم، هذه الحكومة حققت الكثير، لكنهم يريدون طمس الحقائق
.
ألا يكفي أننا نحاول إزالة الركام الذي تركوه خلفهم بعد أن دمّروا كل شيء وغادروا على عجل؟
ألا يكفي أننا نفتّش حتى اليوم عن ودائع اللبنانيين التي أهدروها في لا مسؤوليتهم، حتى لا نقول أكثر من ذلك؟
ألا يكفي أنهم أغرقوا البلد بالديون الهائلة، التي تسببت في هذا الانهيار المالي الكبير الذي نعيشه؟
لقد استمرت الصفقات وسياسة الهدر والفساد والتنفيعات، من أموال الناس الذين أودعوا جنى أعمارهم في المصارف، ولم يكونوا أمناء على الثقة التي منحهم إياها اللبنانيون.
لقد صمتنا كثيراً، واستمعنا كثيراً إلى اتهامات تحاول التهرّب من الكبائر التي ارتكبوها، لرميها على هذه الحكومة، التي لا يريد رئيسها، ولا أحد من وزرائها، منافسة السابقين، لا في السياسة ولا في الأداء والأسلوب، ولا في الذهنية، ولا في الانتخابات…
لا.. لست منهم.. ولن أكون…
لم نكن نريد الدخول في سجال مع الماضي الذي نعالج نتائجه، لكننا لن نسكت عن تحميلنا وزر سياساتهم التي أوصلت البلد إلى الكارثة التي نعيشها اليوم.
على كل حال. نحن هنا اليوم. وسط هذا الركام والدخان الأسود الذي أشعلوه في البلد. دخان كاد يطيح بالسلم الأهلي، بعد أن عمّم اليأس في نفوس اللبنانيين الذين كانوا يشاهدون التدمير الممنهج للممتلكات العامة والخاصة، ويراقبون بألم وحسرة حرائق الدواليب التي تقطع الطرقات وتحبس أنفاسهم وتزيد من الضغوط الاجتماعية والمعيشية عليهم، وتقطع أرزاقهم.
اليوم نحن هنا، وسط هذا الهمّ المالي والمعيشي، حاول البعض الاستثمار مجدداً، من دون أي رادع وطني. ضخوا الأكاذيب والشائعات وساهموا في تعميق أزمة الليرة اللبنانية، وتسببوا بأزمة كبرى، ودفعوا الناس إلى الشارع
.
كان المطلوب هو منع الحكومة من تنفيذ قرارها بإزالة الركام الذي يخفي تحته أسرار هيكل الفساد.
لقد علموا أننا بدأنا نكتشف غرفاً كثيرة من هذا الهيكل، وأننا عثرنا على مفاتيح غرف عديدة من ذلك البنيان الأسود الذي تخرج منه روائح الصفقات والسمسرات والسرقات المغطاة بقشرة السلطة.
هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه اليوم، وهناك أكثر بكثير يمكن كشفه قريباً، بالوثائق والوقائع.
فانتظروا حتى تنتهي عملية إزالة الركام من فوق هيكل الفساد، لأن هذا الهيكل سيسقط على رؤوس الذين يختبئون في زواياه التي كانوا يعتقدون أنها محصّنة، وأنها تستطيع حمايتهم من زلزال الإرادة الشعبية الذي لا بد أن تنتصر لحقّها في محاسبة الذين خطفوا الدولة، ورهنوا مصير الناس ببقائهم في مواقعهم التي ظنّوا أنها أملاك شخصية، وتصرّفوا بمقدراتها وسلطتها، ونسوا أنها مجد زائل، وأنها لو دامت لغيرهم لما اتصلت إليهم.
مجدداً، سقطت محاولة الإنقلاب.
لم تنجح كل الاجتماعات، السرية والعلنية، والاتفاقات فوق الطاولة وتحتها، وأوامر العمليات الداخلية والمشتركة، في إنجاح خطة الإطاحة بورشة اكتشاف الفساد. على العكس، كشف هؤلاء مجدداً أن حياة الناس لا تهمهم، وأن ممتلكات الناس هي عدوهم، وأن هدفهم حماية أنفسهم، لا التعبير عن وجع الناس الحقيقي الذي تسببوا به هم أنفسهم.
لدينا من التقارير عن الوقائع ما يكفي من المعطيات، وسنعلن ما نراه مناسباً منها في الوقت المناسب.
أيها اللبنانيون
نحن اليوم أمام تحدي العودة إلى ما قبل انتفاضة 17 تشرين الأول.. أو إكمال المهمة.
هناك من يريد العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول، لأنه يعتقد أنه آن الأوان للإنقضاض على تلك الانتفاضة الثورة، والانتقام منها، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
هناك من يريد استعادة مفاتيح هيكل الفساد لحماية ما في داخله، وإعادة تحصين جدرانه، وتجديد ألوانه، كي تنطلي على الناس مرّة جديدة حيلة التصرّف بأموالهم التي أودعوها بحماية خزائن المصارف، ثم انتقلت، بقرار، إلى خزينة الدولة، المفتوحة على مصراعيها للأيدي الطويلة.
هنا تكمن حقيقة خطة التلاعب بسعر صرف الدولار الأميركي أمام الليرة اللبنانية، وهنا تكمن أسرار ليلة الإنقلاب على انتفاضة 17 تشرين الأول.
لم يكن الإنقلاب على الحكومة. سيأتي يوم وترحل فيه هذه الحكومة، فهي لا يمكن أن تبقى إلى الأبد.
نحن أصلاً لا نريد أن نبقى من دون فاعلية، ومن دون تحقيق خطتنا لإخراج البلد من المأزق الذي أوصله إليه الفاسدون.
نحن لسنا مثلهم، ولن نكون…
لكن، وبكل ثقة أقول، أننا لن نسمح بأن تضيع أموال الناس. الودائع في المصارف هي اليوم أرقام، لكن، وبكل ثقة، أؤكد للناس أننا لن نسمح أن تبقى مجرّد أرقام.
أفقروا الدولة؟ صحيح.
أفقروا المواطنين؟ صحيح.
تصرّفوا بأموال الناس؟ صحيح.
لكن الدولة غير مفلسة. هناك تعثّر مالي، لكن البلد غني بكم أولاً، وغني بطاقاته وإمكاناته وموارده وعقول أبنائه الخلاقة.
أنا أؤكد لكم أن حقوقكم محفوظة، عند المصارف، وعند المصرف المركزي… والدولة هي الضمانة. ولذلك، يجب أن نحمي الدولة، ونحصّنها، كي تكون ضمانة لجميع أبنائها، ولممتلكاتهم، وأموالهم، ومستقبلهم.
أيها اللبنانيون
نريد أن نصنع معكم التغيير الذي تريدون. نريد الانتقال إلى منطق الدولة. نريد أن نحقق معكم حلمنا بوطن لنا ولأولادنا وأحفادنا. نريد أن نثق بدولتنا.
ما نريده كثير جداً… نحقق أحياناً ما نريد، لكننا نواجه جدراناً مسلّحة تقف في طريق أحلامنا. نريد الانتقال نحو منطقة الأمان، لكن الحواجز السياسية تعترض طريقنا.
لكني أؤكد لكم، أن التغيير آتٍ لا محالة.. مهما حاولوا عرقلته. التغيير آتٍ حتماً، وأنا مؤمن بقدرتنا على صناعة التغيير الإيجابي في حياة الناس، وفي مسار البلد.
ما أردنا فعله في الأيام الأخيرة، لمواجهة مؤامرة التلاعب بسعر الليرة اللبنانية ولقمة عيش الناس، كان اتخاذ قرارات توقف مسلسل ابتزاز الدولة والناس.
كل اللبنانيين يعلمون ماذا نريد. لكن، وللأسف، نحن لا نستطيع صناعة التحول بسرعة من داخل آليات النظام. إدارة الدفّة من الداخل ثقيلة جداً. مع ذلك، لن نتوقّف عن فرض هذا التغيير في المسار، لأننا لا نملك إلا خيار إنقاذ البلد، واستعادة ثقة الناس بوطنهم، وتكريس مرجعية الدولة كخيار لنا جميعاً، يحمي مستقبلنا ومستقبل أولادنا.
للأسف، على مدى الأشهر الماضية، اكتشفت أن الدولة تظلم أبناءها. تظلم شبابها. تحرمهم من حقوقهم. تمتحن كفاءتهم للتوظيف، فيكتشفون أن امتحاناتهم مجرّد فولوكلور.
عشرات الامتحانات في مجلس الخدمة المدنية… والأمن الداخلي، والجمارك، وحرس الأحراج، والدفاع المدني… لكن، إما لا نتائج تعلن لأسباب مجهولة، أو تعلن النتائج على الورق ولا تأخذ طريقها إلى التنفيذ بحجة التوازنات الطائفية والمذهبية.
جداول الترقيات في الأجهزة العسكرية والأمنية يتم تجميدها، إما بسبب خلافات داخل الإدارة، أو بحجة الإمكانات المالية، أو بحجة التوازنات الطائفية والمذهبية.
هل هكذا تقوم الثقة بين الدولة وأبنائها؟
هل هكذا يكون منطق الدولة، أم منطق الفيدراليات المقنّعة بقشرة رقيقة من صورة الدولة؟
عشرات آلاف اللبنانيين يقفون على رصيف الانتظار منذ سنوات، لكن الدولة تدير ظهرها لهم.
لا… لا يمكن أن يستمر هذا النهج. نحن نتابع هذه الملفات جميعاً، وسننصف شباب لبنان. هذا حقهم وليس منّة من الدولة عليهم.
يجب أن تكون الدولة لجميع أبنائها، لا فرق بينهم، لا مناطقياً ولا طائفياً ولا مذهبياً. نريد أن نبني دولة تحمي اللبنانيين. نريد أن يكون الانتماء الوطني هو المعيار الوحيد. نريد أن نحمل هوية وطنية موحدة، ونردّد نشيداً واحداً، ونرفع علماً واحداً، وندافع عن وطن واحد، ونحمي الشعب الواحد، ونهتف للوطن، لا لشخص أو حزب أو طائفة.
عندما تضعف الدولة، تقوى العصبيات.. وعندما تتراجع الدولة، تظهر الدويلات.
عندما تتراخى قبضة الأمن، تتفلّت الفوضى.. وعندما يهتز الاستقرار، يتهاوى السلم الأهلي.
عندما تتوقف المحاسبة، يسود الفساد.. وعندما يرتهن القضاء بيد السياسة، تسود شريعة الغاب.
لا يحتاج القضاء إلى إذن أو إشارة أو إيعاز للتحرّك. نحن مصرّون على أن يكون القضاء مستقلاً ونزيهاً.
لذلك، إذا كنا نريد دولة، علينا أن نبدأ من هذه المداميك.. وهذا ما تعمل الحكومة عليه، وهي تراكم زرع المداميك التي يمكنها أن تحمي بنية الدولة من العواصف التي تهب عليها.
نحن اليوم، نؤسّس لمفاهيم الدولة الواحدة الآمنة العادلة.
من هنا، أدعو اللبنانيين، إلى مزيد من الصبر، لأن المعركة مع الفساد شرسة جداً، فالفاسدون لن يسلّموا طوعاً ولن يستسلموا بسهولة.
أيها اللبنانيون
المواجهة صعبة، لكنني أستطيع القول براحة ضمير، اننا وضعنا أرضية صلبة لمعركة انتصاركم على الفساد، وسنكون وإياكم في مسيرة مشتركة لاستعادة الأمان الاجتماعي الذي يهدّد فقدانه لقمة عيشكم التي سلبها الفاسدون ليراكموا ثرواتهم وإرضاء جشعهم.
أيها اللبنانيون
فليتوقف التدمير الذاتي الذي يحرّض عليه من لا يملك الضمير الوطني، ويمارس حقده الدفين.
لبنان لنا جميعاً، وكل حجر في بنيان، كلّف صاحبه عرق جبين، فلا يستخف أحد بما يملك الآخر. هذه ليست ساحة مزايدات. نحن بحاجة لوقف هذا الهدر الهائل الذي لا تقل جريمته شأناً عن هدر المال العام.
أيها اللبنانيون
نحن نستعد لفتح المطار أول الشهر المقبل، وهذا سيمنحنا فرصة استعادة بعض دورتنا الاقتصادية التي نحن بأمس الحاجة إليها. لكن ما يحصل اليوم سيؤدي إلى استمرار المعاناة، وزيادة النزف في الاقتصاد الوطني، ومزيد من إقفال المؤسسات وفقدان فرص العمل.
أدعو اللبنانيين أن يمتنعوا عن تشويه الاحتجاجات، وأن يساهموا في ورشة التحوّل نحو نحو منطق الدولة الذي يجب أن يسود وحده، كي نعبر هذه المحنة، ونحمي لبنان، ومستقبل أبنائنا.
أنا واثق أننا سنتجاوز الأزمة، وأننا أقوى من كل التحديات، لأن لبنان وجد ليبقى، حراً، سيداً، مستقلاً، وعنفوان أبنائه أصلب من أن ينكسر أمام الرياح، مهما كانت عاتية. عشتم وعاش لبنان