خمسة أوهام بشريّة في زمن الأبوكاليبس

كل يوم، يبدو العالم أكثر أبوكاليبتية. البجعة السوداء كانت على شكل فيروس غير مرئي. منذ بداية 2020، دخل سكان الأرض في رحلة جديدة نحو المجهول. لا أحد يعرف ماذا سيحصل لاحقاً، أو كيف ستكون عليه الأمور في المستقبل القريب.

أبناء كل الشعوب يلتقون على أنهم يجب أن يبقوا في منازلهم ليتفادوا الفيروس ولمنع انتقاله إليهم. استطاع كورونا، في وقت قصير، أن يكشف لنا عدة أوهام بشرية شائعة حول الحضارة التي نعيش في ظلها.

وهم صلابة الحضارة

العالم هش. فيروس غير مرئي لديه القدرة على الإطاحة بالعالم الذي بنيناه على امتداد أكثر من بضعة قرون. كل التكنولوجيا التي بحوزتنا غير قادرة على إيقاف انتشاره في كوكبنا. كشف الكورونا الوهم المتجذر عن أن العالم مبني على أسس صلبة.

الحضارة تشبه قصر الرمل الذي بنيناه في صغرنا على الشاطئ، والذي كانت تهدمه أول موجة قادمة من بعيد. الفيروس يهدم الحضارة على طريقته الخاصة. الذهاب إلى الدكان للحصول على رغيف خبز أصبح مهمة صعبة. ارتداء الكفوف والكمامة أصبح من البديهيات اليومية في حياتنا.

الحكومات في الدول المتقدمة لديها قدرة أفضل من حكومات الدول الفقيرة على التعامل مع الفيروس، وإمكاناتها تساعدها على احتواء آثاره وانتشاره، ولكن خلال فترة قصيرة من انتشاره، توقفت حركة العالم تقريباً. حالة الطوارىء أعلنت لمواجهته. المدارس والجامعات مقفلة. المكاتب مهجورة. الشركات أغلقت أبوابها. دور العبادة مغلقة. المدن المزدحمة تحولت إلى مدن أشباح. حركة الطيران شبه منقطعة بين أغلبية دول العالم.

فيروس غير مرئي استطاع القيام بكل ذلك، خلال فترة وجيزة. العالم أكثر هشاشة مما نعتقد. وهذه حقيقة علينا التعامل معها منذ الآن.

وهم السيطرة

كنّا نعتقد أننا، كبشر، نحدد اتجاه الأمور على كوكب الأرض. وكان لدينا وهم أننا لا نخضع لقوانين الطبيعة أو باستطاعتنا تغيير هذه القوانين. ولكن في الواقع، الاعتقاد بأننا نسيطر على العالم هو وهم آخر يسكن مخيلتنا.

يعتقد البعض أنّ هناك مَن يؤمن بوجود مجموعة صغيرة من الناس يحكمون العالم. الكورونا أزال هذا الوهم. أظهر أن الإنسان ليس سوى ساكن آخر من سكان الأرض، وليس هو مَن يحكمه. زال الاعتقاد بأنه يسيطر على كل شيء.

في الواقع، فيروس واحد استطاع الكشف عن أننا لسنا نحن في موقع السيطرة. اليوم، التحولات التي طرأت على حياتنا، وعودتنا إلى الكهف لنحافظ على حياتنا، ليست سوى دليل آخر على أننا في موقع ردة الفعل.

نحن نحصد نتيجة الأوهام التي حملناها لفترة طويلة من الحياة. نحن لا يُمكننا السيطرة سوى على الأفعال الصادرة عنا. غير ذلك، قوانين الطبيعة هي التي تحدد المسار.

وهم التقدم الأبدي

ترتكز الرأسمالية، ابنة هذه الحضارة، على الإيمان بأنّ الاقتصاد يمكنه الاستمرار في النمو إلى الأبد، وبأننا قادرين على التقدم إلى ما لا نهاية.

في القرن الأخير الذي شكل صعود واندثار الشيوعية وتقلّبات الرأسمالية، استنزفنا الكوكب وموارده. أصبح التغير المناخي والاحتباس الحراري واقعاً إيكولوجياً. كل التقديرات تُشير إلى أنّه إذا لم تقم الحضارة وناسها بتغيير نمط العيش السائد، لن يكون كوكبنا صالحاً للعيش على المدى البعيد. لذلك، ولأننا لا نريد التخلي عن نمط عيشنا، أصبحنا نبحث عن كواكب أخرى صالحة للعيش، بعد أن تسببنا بتصحّر كوكبنا.

من الأخبار الجيدة عندما أقرأ أن وكالات الفضاء العالمية فشلت في الوصول إلى كوكب آخر. ذهاب البشر إلى كوكب آخر للاستمرار بالعيش كما يعيشون على الأرض، لن يعني سوى امتداد لحضارة العبودية التي تريد استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية.

الفيروس يضع حداً لنا. أوقف حركة الإنتاج والدورة الاقتصادية، وأعادنا إلى منازلنا. الملايين من الناس في بيوتهم، والأسواق على حافة الانهيار.

العالم قد لا ينهار من الكورونا الآن. هذه البداية فقط لرحلة انهيار سنعيشها، بينما نكون في منازلنا مرتدين كمامات وأقنعة تحمينا من فيروس يعلمنا دروساً تتناقض مع كل المعتقدات التي ورثناها عن الحضارة.

“كورونا يُفكك العالم القديم. ربما هي فرصة لنعيش خارج السيستيم الذي سحقنا. هي لحظة استثنائية لنبني عالماً آخر يقوم على أنقاض العالم القديم”

وهم عودة الحياة إلى طبيعتها

السلطات، من حكومات وشركات، تخبرنا بأنّ ما يحصل سيكون مؤقتاً، ولاحقاً ستعود الحياة إلى طبيعتها. وقد يكون أبرز ما يتناقله الناس من تعليقات حول الأبوكاليبس الذي نعيشه، هو “غداً، تعود الحياة إلى طبيعتها”. هذه العقيدة تجد جذورها في النقاط التي ذكرناها.

الاعتقاد بأنّ الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل اليوم ليس سوى وهم آثاره النفسية ستكون مكلفة على مَن لا يُريد الاعتراف بأن الواقع تغيّر، ويتغيّر مع كل ثانية تمضي.

الوضع الحالي سيستمر لفترة لا بأس بها من الزمن، والتغييرات التي تحصل تطال كل مناحي الحياة. حتى إذا أخذنا بفرضية انحسار الفيروس، قد تعود بعض من مظاهر الحياة القديمة إلى حاضرنا، ولكن الحياة لن تعود إلى طبيعتها. ربما التصالح مع هذه الفكرة، سيُخفف من وطأة المستقبل المجهول علينا.

وهم وقف انهيار العالم

كل التكنولوجيا والتقدم العلمي الذي وصلنا إليه لن يوقف القادم. كل الحضارات عاشت صعودها، ذروتها وانهيارها. اليوم، نحن ندخل مرحلة انهيار الحضارة التي نعيش في ظلها. انتشار فيروس كورونا هو فصل من هذه الفصول.

الانهيار الذي يحصل لا يُمكن تفاديه، ولا يُمكن وقفه. قد تستطيع بعض الحكومات الاستمرار في القيام بمهماتها لبعض الوقت، وأن تجعل شعوبها تعتقد بأن الأمور ستكون على ما يرام، ولكن على المدى البعيد، هذه الحكومات ستصل إلى مكان حيث لا يمكنها القيام بمهماتها. حتى الدول المتقدمة، تتحدث عن صعوبة احتواء الفيروس، وعدم قدرتها على معالجة جميع المصابين، وهي في صدد اتخاذ اجراءات تُعتبر غير شعبية و”مؤلمة”.

“الاعتقاد بأنّ الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل اليوم ليس سوى وهم آثاره النفسية ستكون مكلفة على مَن لا يُريد الاعتراف بأن الواقع تغيّر، ويتغيّر مع كل ثانية تمضي”

التخلي عن العالم القديم هو خطوة أولى في التعامل مع الأبوكاليبس الذي سيكون طويلاً، سريعاً، عنيفاً ومؤلماً. نحن في وسط المجهول، الرعب والخوف يحكمان العالم، ولا نعرف كيف سيكون شكل العالم لاحقاً. قد نكون قادرين على التعامل مع الفيروس الحالي، ولكن قد لا ننجو من فيروس قادم قد يكون أكثر فتكاً ويطال فئات عمرية أصغر، وقد يكون فيروساً ينتقل بالهواء وليس عبر الاتصال البشري.

هذا لا يهم حالياً. كل ما نملكه هو اللحظة التي نعيشها. المستقبل يبدو بعيداً. كل الخطط مؤجلة. الواقع يحدد كيف تسير الأمور، وكل يوم يمضي، يتجه العالم نحو انهياره الجميل.

كل مَن لا يُريد التعامل مع حقيقة أن العالم القديم ينهار سيكون من الصعب عليه تقبّل الواقع الجديد، العالم الجديد. ولكن، هل نحن مستعدون للقيام بذلك؟

الطبيعة في مواجهة التلوّث

منذ بدء انتشار الفيروس، انحسرت نسبة تلوث الهواء في مناطق عديدة في العالم بسبب توقف حركة الصناعة ونقص الانبعاثات الكربونية، خصوصاً في الصين التي تعتبر “مصنع العالم”.

وبدأت تظهر الآثار الإيجابية للفيروس على المناخ والطبيعة في أماكن أخرى من العالم بعد توقفنا عن الحركة.

الفيروس أعادنا إلى منازلنا، ليُعيد بعضاً من التوازن البيئي بعد أن فشلنا في القيام بذلك طوعاً. كل الاتفاقيات المناخية والبيئية على مدى عقود طويلة لم تستطع القيام بجزء مما قام به الفيروس خلال أشهر قليلة.

ليس بالضرورة أن يكون هذا الفيروس هو الضربة القاضية للحضارة. هو البداية. هذه المرحلة التجريبية. هذا “التريلر” لما هو قادم. هو فقط يخبرنا بأنّ هذا العالم الذي تفاخرنا به ومنحنا جنون العظمة ليس سوى عالم هش يُمكن لفيروس واحد أن يُعيد تشكيله.

كورونا يُفكك العالم القديم. ربما هي فرصة لنعيش خارج السيستيم الذي سحقنا. هي لحظة استثنائية لنبني عالماً آخر يقوم على أنقاض العالم القديم. هي لحظة لنتحرر من الأوهام التي زرعتها فينا الحضارة، ولنستعد للقادم.

هاني نعيم – رصيف 22

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!