الليرة اللبنانية… إلى أين ؟ بقلم سليم مهنا
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم
منذ خروج أميركا من اتفاقية “بريتون وودز” في العام 1971، أُلغِيَت عملياً آلية ثبات سعر صرف العملات، وحلّت مكانها سياسة “تعويم العملة” التي تعني تحرير سعر الصرف وتركه يتحدّد بحرية وفق آلية العرض والطلب في الأسواق، حيث أصبحت العملة مُرتبطة بكفاءة الإقتصاد ونمو الناتج المحلي ومكانة الدولة سياسياً وعسكرياً.
وفيما اعتمدت معظم الدول سياسة “التعويم”، إلّا أن دولًا عديدة، كالصين ودول الخليج العربي، تبنّت سياسة تثبيت سعر الصرف مُعتمدةً على فائض ميزان المدفوعات لديها وعلى احتياطها الضخم من العملات الأجنبية، الذي يسمح لمصارفها المركزية التدخل عند الحاجة لحماية ثبات سعر العملة.
كان هدف المسؤولين اللبنانيين مع انتهاء الحرب الأهلية استعادة الثقة بالليرة وضمان الإستقرار النقدي، فاستعانوا بالنموذج الخليجي في تثبيت سعر الصرف مُتجاهلين التفاوت الكبير بين قدرات لبنان واقتصاده المُتَذبذب المُرتكز على قطاع الخدمات والسياحة، وبين قدرات دول الخليج النفطية وعوامل الإستقرار السياسي والاقتصادي ومجالات الإستثمار المُتعدّدة لديها.
لا شك أن سياسة التثبيت أعطت نتائج إيجابية لجهة طمأنة المُتعاملين بالليرة إلى استقرار قوّتها الشرائية، لكن ذلك لم يَحُل دون استمرار تعامل اللبنانيين بالدولار الأميركي كعملةٍ شبه أساسية في التعاملات التجارية والعقارية والمصرفية، ولم يَحُل أيضاً دون استمرار “دولرة” الودائع المصرفية بنسبة تفوق 70% في مؤشر يعكس القلق الدائم حول قوة الليرة ومستقبلها.
أما الأمر الأكثر غَرابةً فهو قيام الدولة اللبنانية نفسها باستعمال الدولار في تعاملاتها وتلزيماتها الداخلية، وأيضاً في تسعير واستيفاء رسوم بعض خدمات القطاعات المملوكة منها كالخلوي وشركة الطيران الوطنية، مع ما يُمثّل ذلك من انتقاص من “هيبة” الليرة ودورها كعملة رئيسة وكعنوان من عناوين السيادة الوطنية.
وفيما كان من المُفترَض ان تكون سياسة تثبيت سعر الصرف مؤقتة ومُرتَبطة بعاملَي الإستقرار الأمني والسياسي، غير أنها تحوّلت مع الوقت إلى دائمة، مع نزعة إلى المُكابرة والمُجاهرة بقدرة المصرف المركزي على حماية استقرار الليرة إلى ما لا نهاية بفضل الإحتياطات التي كَوَّنها من العملات الأجنبية.
إستطاع مصرف لبنان المُحافظة على ثبات سعر الصرف طوال عقدين من الزمن، مُستَنداً إلى الفائض في ميزان المدفوعات والموجودات المهمة من الودائع في القطاع المصرفي، فيما كان العجز الخطير والدائم في الميزان التجاري مُستمرّاً في استنزاف العملات الأجنبية لتأمين تدفق السلع المستوردة.
ولكن مع انقلاب الفائض في ميزان المدفوعات إلى عجزٍ في السنوات الأخيرة، بات لزاماً على البنك المركزي أن يستمرّ برفع الفوائد والقيام بما عُرف بالهندسات المالية، وتحمّل أكلافها العالية لاستقطاب مزيد من الأموال، الى أن تكشّفت الأمور وظهرت الى العلن النتائج السلبية لسياسة التثبيت وكلفتها المالية الهائلة.
وإضافة إلى التكلفة المالية الكبيرة فقد تسبب تثبيت الليرة عند مستوى أعلى من قيمتها الحقيقية بخسائر اقتصادية فادحة. فعدا عن استنزاف احتياط العملات الأجنبية المُكوَّن بنسبة عالية من ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، لقد فاقم سعر الليرة “القوية” حجم الخلل في الميزان التجاري، وأسهم في ضرب القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية، وسمح بإغراق الأسواق بالمنتجات المُستَورَدة، وزيادة عديد اليد العاملة الأجنبية، وعزّز ثقافة الإستهلاك، وأدى الى ارتفاع نسبة البطالة وتراجُع السياحة، والى تحوّلٍ كبير نحو القطاعات الريعية على حساب قطاعات الإنتاج الأساسية.
وإذا نظرنا الى الواقع الحالي فلا شك أن انهيار القوة الشرائية لليرة سيُفاقم المشاكل الإقتصادية والإجتماعية، وسيزيد من مُعاناة اللبنانيين، ولكن هل ستكون لهذا الإنخفاض آثار إيجابية في المدى المنظور؟
لقد أثبتت التجربة لا سيما في البلدان النامية، أن العلاقة بين انخفاض قيمة العملة وتحفيز الإقتصاد الوطني والحدّ من عجز الميزان التجاري ليست علاقة آلية، وإنما علاقة مشروطة بعوامل ومُحدّدات عديدة أبرزها:
- مدى قدرة الإنتاج المحلي – تكنولوجياً ومالياً وبشرياً – على إنتاج بدائل للسلع المُستَورَدة مثل الآلات والمعدّات والأجهزة الإلكترونية، فضلاً عن الحبوب والمواد الغذائية؛
- مدى نسبة المدخلات من المواد الأولية المُستورَدة بالعملات الأجنبية في عملية الإنتاج، وانعكاس ذلك بشكل آلي على أسعار المُنتجات النهائية التي ترتفع بدورها وتفقد تنافسيتها؛
- مدى تجاوب الطلب على الصادرات والواردات مع تغيّر الأسعار الناتج من انخفاض قيمة العملة، حيث تنخفض أهمية عامل السعر على حجم طلب بعض السلع بسبب ارتكازها على مقوّماتٍ تنافسية مُتجاوزة للسعر كالجودة والإبتكار والمضمون التكنولوجي.
يبدو أن الحكومة اللبنانية قد استجابت في خطتها الإنقاذية لتوصيات صندوق النقد الدولي بتخفيض قيمة العملة كأحد شروط الصندوق للمساعدة، لذا فمن غير المتوقع ان تطلب من البنك المركزي التدخّل بقوة، وإن جُلّ ما يُمكن أن نتوقّعه هو محاولات لضبط التقلبات الحادّة في سوق الصرف، والحدّ من تعرّض الناس والتجّار لجشع الصرّافين، من دون أن يكون لذلك تأثيرٌ مهم على الإتجاه التصاعدي لسعر الصرف.
بناء عليه، سوف تبقى الليرة عرضة للتقلّبات والإهتزازات ضمن المَدَيَين القصير والمتوسط، وسيكون علينا ان نُراقب العناصر التالية لمعرفة مسار سعر الصرف في الفترة المقبلة:
- مدى ارتفاع نسبة مساهمة قطاعات الإنتاج الحقيقي من زراعة وصناعة وتكنولوجيا في الناتج المحلي؛
- أثر برنامج دعم قطاعات الإنتاج للمشاريع الصغيرة والمُتوسّطة الذي تُخطّط الحكومة لتنفيذه؛
- مدى التوجّه لدعم فرص الإبداع والإبتكار لدى جيل الشباب؛
- مُستوى نجاح محاولات استعادة الثقة بالدولة بعامة، والقطاع المصرفي بخاصة، وعودة التحويلات الخارجية؛
- مدى ارتفاع حجم الصادرات وخفض الواردات للسيطرة على عجز الميزان التجاري؛
- فُرَص عودة قطاع السياحة الى سابق عهده؛
- نجاحُ فُرَص التنقيب عن الغاز والنفط؛
- مدى تطوّر عودة النشاط التجاري العربي البيني؛
- نجاح مساعي تفاوض الحكومة مع الدائنين؛
- نجاح مُحاولات الحصول على مساعدات عاجلة وهِباتٍ من الدول الشقيقة والصديقة؛
- السيطرة على المالية العامة وتوازن الموازنة؛
- مستوى التقيّد بالإصلاحات التي أقرّتها الحكومة لوقف عجز الموازنة وتراكم الدين العام؛
- فعاليّة مُحاسبة المُرتَكبين والفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة؛
- مدى استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في لبنان والمنطقة.
ما لم تحصل إنجازاتٌ نوعية ملموسة وفاعلة في بعض أو كل تلك النقاط، فلا شيء سيُوقف انهيار سعر العملة الوطنية ومعه زيادة معدلات الفقر وانهيار وافلاس عشرات القطاعات، وربما انهيار الدولة عاجلاً أم آجلاً. وعلى الحكومة والمجتمع المدني والأفراد، كلٌّ من موقعه، المبادرة الى إنقاذ ما ينبغي إنقاذه قبل فوات الأوان.
- سليم مهنّا هو مصرفي وباحث مالي واقتصادي لبناني.
- المصدر : اسواق العرب