مهجّر… داخل الوطن

 

إن تطبيق القانون لهو أمر بنّاء للدولة ويدفع دائماً باتجاه الإستقرار… وعلى مر الزمن عانى لبنان ما عاناه من تسويف ومماطلة وتأخير بتطبيق القانون بفعل عوامل الحروب والتشنجات الإقليمية والداخلية، فتدهور الوضع المعيشي لمعظم اللبنانيين.
تفائل المواطن بالخير مع الطائف ومع توقف الحرب التي أنهكت البلد وشرذمت كل مرافق الدولة تقريباً،وعادت بالدولة وكيانها الى الوراء فما كان على الطاقم الجديد في الحكم آنذاك إلا أن يرسي الإستقرار بالطريقة التي رآها مناسبة.
تم تثبيت الإيجارات للملمة الجراح ودفع الناس الى التكتل تحت لواء العيش المشترك ومساعدتها على النهوض من جديد ريثما ينضج الجيل الجديد لكي يستلم زمام الأمور ويتدبر أمر معيشته…لكن لطالما كانت الهواجس تقض مضاجع الناس لخوفها على مصيرها ومأجورها، وكانت الدولة تحاول من وقت لآخر إيجاد الحلول ولكن ظروف الناس الإجتماعية لم تسمح بسبب انفلات الدولار خلال الحرب والتضخم المالي الذي لحق بالعملة اللبنانية.
فانتظر المواطنون، الذين تقدم بهم العمر، لكي يأتيهم الحل الناجع من إدارة جديدة قادرة على تفهّم الوضع الإنساني ولجم بعض من فتحوا أفواههم على ثروات ملتوية عقارياً… فالكثير ممن يملكون الأبنية إما إرثاً وإما ملكاً مباشراً قد استفاقوا، بعدما استحصلوا على أثمان بنائهم أضعاف أضعاف ثمنه، أنهم يستطيعون جني الثروات الجديدة عبر طرقٍ ملتويةٍ وملتفة حول الإنسانية البشرية لتخنقها… تعالت الأصوات من جديد… تشنجت الشوارع… ولا حل لمن ينادي…
عندها أتى العهد، وهل أتى لينقذ اللبنانيين أم ليهجرهم من جديد؟… داخل الوطن… وربما ليدفع من بقي منهم صامداً وصبوراً الى الشارع أو حتى خارج الوطن…
فالمقصود من تطبيق القانون هو الحفاظ على الإنسان وكرامته أي أن تطبيق القانون يعادل تطبيق الإنسانية قبل كل شيء… فالقانون وُجد ليحمي البشر وليس ليخدم الحجر…
مفاعيل الحروب اتت قاسية على الناس أجمعين مما دفع الدولة لتجميد الإيجارات السكنية عبر
طرقٍ معينةٍ… ومن كان في متوسط عمره اصبح كهلاً الآن لتأتي الدولة التي تمثل العهد، عهد الحق والإنقاذ، لتقول له عليك أن تخرج من مأجورك وربما لن يكون لك ملاذاً سوى الشارع لأن حقوقك سقطت بفعل ما يسمونه “عامل مرور الزمن”…
ففي بداية هذا العهد وبعد كل المغالطات التي طالت قضية الإيجارات “القديمة”، استبشر الناس بعهد الحق وإحقاقه، وإذ بوزير العدل يفجر الملف على مصراعيه بحركة فجائية وبتوقيت ربما مشبوه أو على الأقل… توقيت غير مناسب.
ونحن لسنا في موضع نقاش القانون أو تطبيقه أو مخالفته ولسنا على الأكيد في موضع الغريم لوزارة العدل مع أن هنالك الكثير من التحفظات على قوانين هذا الملف وطريقة تطبيقها مع الإشارة الى الآراء والإجتهادات الكثيرة التي غالطت الوزير ودعته حتى الى الإستقالة…
نحن هنا لمناقشة أساس المشكلة وهواجس الناس ومدى تأثيرها على انتظام الحياة في الوطن… أي نحن نناقش المشكلة من شقها الإنساني خصوصاً وشقها المادي عموماً…
في البدء علينا أن ننتبه جيداً إلى وضع معظم هذه الأبنية التي لم تنال قسطها من الصيانة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً بل اتكل اصحاب هذه الأبنية على المستأجرين لكي يهتموا بتلك الأمور…
معظم مالكي الأبنية مدينون للدولة بالكثير من الضرائب المتوجبة عليهم…
معظم المستأجرين يدفعون ضرائب للدولة بتضخماتها أي ضريبة البلدية والكهرباء والمياه وغيرها… ومنهم من شاخ كثيراً ولا يستطيع السداد ولم يعد له من معين…
معظم هذه الأبنية قد أكل الدهر عليها وشرب، أي أن مالكها قد أعاد الى جيبه ثمن العقار وثمن البناء أكثر من مئة مرة والذي أفاقه من سباته وخلع عنه انسانيته إنما فرصة لاحت له بالأفق تتيح له بيع العقار من جديد بعد إفراغه من سكانه وهذا بدافع من الشركات العقارية الكبيرة التي لا تترك شبراً عقارياً إلا وتتكالب عليه.
كل هذا وذاك وذلك من الأسباب ويقف على القمة عجز الدولة وانعدام السياسية الإسكانية لديها… وبدل أن تُنصف الناس… تقطع عليهم الطريق “بفعل مرور الزمن” وتمر بثقل قراراتها فوق اجساد الكادحين والمتعبين… وبالتالي فلتحيا الشركات العقارية واصحاب العقارات العفنة وليذهب المواطن الكادح والمتعب والذي لا سقف لديه ليحمي رأسه إلى جحيم التشتت والتشرد.
لا يمكن وصف المشهد إلا بالتهجير الممنهج داخل الوطن… وبالتغيير الديموغرافي والإجتماعي المبطن… لم تعد الدولة تريد غير أبنية ضخمة متلاصقة وكراجات ومواقف تحت الأرض ظناً منها أنها تحل مشكلة ما ولكنها في الحقيقة تكون قد خلقت مشكلة أكبر عبر تهجير وتشريد شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني لا حول لها ولم يكن لها قوة إلا في أمل ضئيل بهذا العهد، ما لبث أن نفخه وزير العدل في الهواء… فضاع الأمل بشيخوخة دافئة وبمساعدة الأولاد على أن يكونوا بوضع سكني أفضل من ذويهم… فالذي تجاوز عمره الخمسين عاماً وله ولد أو ولدين في الجامعة لن يكون قادراً على تأمين المسكن والمشرب والمأكل والتعليم إن طُرِد من مأجوره وسيضطر أولاده على الأغلب لأن يتقاسموا إيجاراً جديداً معه وبالتالي ذهب الحلم بتأمين مسكنٍ أفضل لأولاده وتكسر كموجة على صخرة قساوة القانون الأشبه بالمقصلة…
لا يمكن التنكر للأضرار الإجتماعية التي ستنتج عن هكذا قوانين لا تراعي الإنسانية ولا تنظر للمستقبل ولا ترقى الى مستوى السياسة الإسكانية العليا التي هي أصلاً مفقودة…
كم من جدٍ وجدةٍ، كم من أبٍ وأمٍ من الجيل القديم سيموتوا من الحسرة والقهر ميتة “مع مرور الزمن”…
هل هذا ما يصبو إليه العهد؟ ، ضرب الطبقة الفقيرة والمتوسطة لإرضاء بعض الورثة المتخانقين والشركات العقارية الطامعة؟
هل المطلوب أن نكمل الحرب في نفوس الناس فنقتل من لم يقتله القصف؟ هل المراد هو إفقار الجيل الجديد بتحميله تبعات ما فعله “مرور الزمن” بالجيل القديم…
فلتنظر الدولة والمعنيون كلهم الى مشهد “الختايرة” وهم مقهورون على هامش ما تبقى من حياة… ولتشرح الدولة والمعنيون لكل شاب وصبية سبب عدم قدرته على شراء منزل لتكوين عائلة ووضعه امام خيار المرّ أو الأمرّ…
وبما تبقّى من “عامل مرور الزمن” ستشعر أيها اللبناني أنك… مهجّر داخل الوطن.
ميشال جبور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!