تفاهاتٌ على بوّاباتِ جهنّم: أزمة في لبنان
كان هناك رجلاً يعشق التسكع، عاش حياة صاخبة، اكل حتى تكرّش، شرب كل يوم حتى الثمالة، نسى بيته وعائلته وركض خلف ملذاته واكتفاءه الشخصي بما لذ وطاب، كثرت عثراته مع العمر وباتت اختبارات دمه من سئ إلى أسوأ مع كل اختبار جديد. ضربه داء السكري بعنف وبات متثاقلاً، فساورته نفسه بقطعة من الشوكولاته فالتهمها فساءت صحته كثيراً فصاح هو واهل البيت يلعنون حبة الشكولاته ويدعون لوقف الشكولاته وتحريمها.
تلك حكاية الدولة مع سلسلة الرتب والرواتب!
يحتاج عقل اللبنانيين للقليل من الذاكرة، فمرض الذاكرة لعنة ابتلي بها العامة لكثرة ما مر على بلدنا من تكثيف للأحداث ومن حجم معضلات تدفع الناس للرغبة بالنسيان: خلص بقا بدنا نعيش.
تلك الرغبة بالعيش هي التي سمحت بالمساومة الخبيثة بعد الحرب الاهلية: وظائف، مستوى دخل معقول، لا تفكروا كثيراً نحن في منطقة عواصف، اتركولنا تدّبر شأنكم.
لم يكن لدى الناس رغبة ان تسمع حتى، كانوا يريدون النوم على وسادة اسيادهم، ووعد اسيادهم، وثقتهم بأسيادهم. حتى الذين اعتبروا انهم ظلموا طويلاً عادوا إلى النوم على الوسادة الناعمة بعد طول غياب.
حين اكتمل عقد الطوائف شاءت سخرية الاقدار ان اكتمل عقد الأزمات: النفايات، تلوث الأنهار، ازمة القطاع العقاري، توقف قروض الاسكان، تفاقم عجز الميزان التجاري وعجوزات الموازنة وعجز ميزان المدفوعات، ارتفاع جنوني للفوائد، إقفال متزايد للمؤسسات الاقتصادية، تأخر في دفع الأجور وتسديد الديون في القطاع الخاص، بطالة متصاعدة بين الشباب، خريجون بلا عمل، إقفال أسواق العمل الخليجية،
انها أزمة بحجم كارثة وطنية كبرى ويكفي لكي لا يقال ان في الكلام تهويل ان نقرأ جيداً: مرجع كبير قال ان البلد في حالة إفلاس، مرجع روحي كبير قال ان البلد مفلس، مرجع حكومي يقول انه لن يكون شاهدا” على انهيار البلد، زعيم سياسي-ديني يقول اننا امام مفصل وجودي يهدد مصير البلد لان الانهيار المالي والافلاس يعني ذهاب الدولة والبلد، زعيم سياسي مخضرم يتخوف دائما” من انهيار الليرة ، رئيس حزب مشارك في السلطة قال ان الانهيار قد حصل فعلا”. ممثل سيدر يقول ان الحكومة اللبنانية تستطيع أن تضحك على نفسها ولكنها لن تكون قادرة ان تضحك علينا.رئيس البنك الدولي يقول ان لبنان قد ادمن الفساد.
وبعد كل ذلك تسمع التيه من حولك، وتتألم من التفاهة.
يريدون لمن ضحىّ بدمائه وحياته ان يضحي ببعض دخله (ما هذه المقاربة المفزعة).
من حملوا لواء السلسلة سنوات يطالبون بتخفيض الأجور (ماذا حصل في سنة؟).
بعض من نهبوا البلد لعشرات السنين يستشيطون غضباً ويهددون من تسوّل له نفسه المس بالاجور والرواتب (كذا)، والحل عندهم بضرب الفساد (وهم في اساس هذا الفساد)..
ينتفضون على الأجور المرتفعة التي تعلو فوق اجر رئيس الجمهورية والتعويضات المضافة لموظفي الإدارة وينسون ان الوزارات ممتلئة بمستشارين بعضهم تخرج للتو من الجامعة وبأختصاص لا تحتاجه الوزارة ويقبض مبالغ يصل بعضها إلى خمسة آلاف دولار! (بالله عليكم بماذا تستشيروهم يا سادة؟).
من هدد وتوعد بمحاربة الفساد وقطع دابره رفض نوابه فتح سجلات الماضي (ربما في ذلك حكمة الهية).
“اذا كان لا بد من تخفيض اجور وتعويضات النواب والنواب السابقين فليكن” (يا للعدالة ويا للتضحية!)
ومسك الختام ذلك الذي له رأي في كل شيء إلا كيف يكون التقشف أمن الأجور ام من الفوائد وهو ينتظر ما سيعرض عليه بل ما سيستقر الرأي عليه علما انه يفضل الفوائد ( يا للبراءة).
ان من يعتقد ان إنقاذ البلد يقوم على تخفيض مستوى الدخل او تخفيض الطلب الكلي في الاقتصاد واهم، لأن من يعتقد ان مستوى الدخل هو سبب المشكلة أو أن تخفيضه يمكن أن يحل المشكلة، هو كؤلئك الذين لعنوا حبة الشوكولاته.
هل هذا تغافل ام تفاهة؟ انه التيه!
دعونا نفترض ان مستويات الدخل هي المشكلة، و لنفترض أيضاً انكم ستجمعون من تشذيبها ما يكفي لرضى المانحين في مؤتمر سيدر، فالبلد لن يقلع. هل تعلمون لماذا؟ لأن الناس ستتحول إلى السلبية وإلى الاضطرابات وإلى التخريب المتعمد، ليس لأن الناس سيئة بل لأنهم لن يقبلوا استهبالكم لهم. الناس تعرف بالسليقة أين مشكلة البلد واين مشكلة الاقتصاد. الناس ترى انكم تهددون ارزاقها وانتم تحمون المصالح الكبرى في القطاعين العام والخاص. فأذا كان رب البيت بالطبل ضاربٌ فما على اهل البيت إلاّ… رقص الشوارع. (ويومها ستضعون أولئك الذين تريدونهم ان يضحوا بأجورهم كما ضحوا بدمائهم في الواجهة مرة أخرى خوفاً من الفوضى، ترى ماذا يصنع الفوضى؟)
اقرأوا كلام من ذهب لرجل دولة لا يشك احد بوطنيته ونظافة كفه:
“سرقني وبكى سبقني واشتكى”…
“المواطن يئن ويحتضر تحت خط الفقر والعوز والبطالة، ومازالوا حتى الساعة يتحججون بألف سبب وسبب إلا بالسبب الحقيقي، ألا وهو “أعطني هنا وخذ هناك”… الجميع يتحدث بملائكية عن مكافحة التهرب من الضريبة، علما أن كل المسؤولين يعلمون أن ليس العسكري والموظف المدني من يتهرب من الضريبة إنما هم أصحاب الرساميل والشركات والمؤسسات الكبيرة والعملاقة التي يملك الكثير من السياسيين أسهماً فيها، ناهيك عن وجود شركات ومؤسسات وجمعيات لا تعمل ولا دور لها”. (الوزير مروان شربل).
ومع تقديري لما قاله الرئيس في بكركي، فالمسألة ليست فقط حماية الفقراء. انها الخوف من اعادة توزيع الدخل في مصلحة الاقوى، وهذا هو الخطر الحقيقي اليوم.