بين 14 حزيران 1999 و14 شباط 2019… هكذا ودّعت جريدة المستقبل قراءها
تصدر اليوم النسخة الورقية الأخيرة من صحيفة المستقبل، بعد عشرين عاماً من العمل المستمر. وقد ودعت أسرة الصحيفة جميع متابعيها بهذه العبارات:
تطوي جريدة المستقبل 6585 عدداً في أدراج النسخة الورقية مؤرخة عقدين من عمر البلد الذي تأرجح بين الأفراح والأتراح، السلم والحرب، النضالات والخيانات، التسويات والتحالفات، الغزوات وجلسات الحوار التي امتدت على منوال ألف ليلة وليلة، فكان بعضها مثمراً أو مسكناً في الساحات التي احتدمت بالمطالب المعيشية والوطنية وبغايات الأحزاب والأطراف والطوابير.
وعلى مدى عشرين عاماً من مواكبة الهم الإنساني والوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي والبيئي والرياضي وغيره، فإنها اختارت الانحياز الى تزكية الحوار والنقاش بين اللبنانيين، بعيداً عن سياسة “فرق تسد”، فكانت الصوت الذي لا يعلو فوق صوت البلد، والقلم الذي سطر بالدم يوميات أليمة، وقبلها سطر بالأمل العدد الأول في 14 حزيران من العام 1999، يوم احتضنت العاصمة بيروت نحو 18 ألف مستمع من لبنان والدول العربية والأجنبية ممن حضروا ليطربوا على صوت مغني التينور الإيطالي لوتشيانو بافاروتي. فكان الموعد مع العدد الأول، إنما تأكيداً في مهمة عودة الإنماء والإعمار على وجه البلد الحقيقي الذي ينشد الحياة ويداري الجراح وآلام الفقدان والتهجير والخسائر الكبرى، وهو الهدف الذي سعى إليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال مجموعته الإعلامية التي استمرت على النهج المعتدل وفق ثبات الرئيس الشهيد في أن: “ما حدا أكبر من بلدو”» ومقولته الشهيرة: “لا تصدق كل ما تسمعه أذناك وصدق نصف ما تراه عيناك وأترك النصف الثاني للعقل فاستعمالكم للعقل سيكون هو المصفاة التي تؤدي بالنتيجة الى معرفة الحقيقة التي يحاول كثير من الناس في هذه الأيام طمسها عنكم”.
ولم تكن مهمة “المستقبل” معبّدة في الطرقات التي انتهجتها منحازة الى الرئيس الشهيد بفكره، بقوميته، بمرونته، باجتراحه الرؤى في أحلك الظروف، بإصراره على الولادة من قلب الشهادة، بإيمانه في جدوى الإعلام في زمن الانقلابات الكبرى، فكانت الداعم لمشروع الدولة والمؤسسات وإعادة البناء والسلم الأهلي والإنماء المتوازن والإصلاح المالي والقانوني والاجتماعي ومحطات قيمة من مؤتمر باريس (1) الى باريس (2) وصولاً الى “سيدر”..
وكانت في المقابل المشروع المناوئ لمشاريع التمديد والتهديد والوصاية وضرب السيادة والفوضى ومحاولات تفريغ البلد وكتم أصوات الأحرار بدءاً من محاولة اغتيال الوزير مروان حماده الى الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وإلياس المر ومي شدياق وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم وفرانسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح وعشرات الضحايا من المدنيين.
ولحصة جريدة “المستقبل” من حصار بيروت في السابع من أيار من العام 2008 دمار أصاب المبنى في الرملة البيضاء وأذى لحق بالعاملين والإداريين الذين حرصوا على الصدور من دار الصياد إنما لتبقى الكلمة بالمرصاد في مواجهة الحركات الانقلابية وفوضى الشارع والانتصارات الوهمية ومحاولات الاستفزاز والتهويل والتشبيح، ولتشهد “المستقبل” من بعد اتفاق الدوحة على مرحلة جديدة فيها «مانشيت» ثورة الأرز والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ووصايا الشهداء وحكومات العهود وبناء دولة المؤسسات والانسحاب السوري ونبض أهالي العسكريين الذين استشهدوا في مقاومة ودحر الإرهاب، وفيها العين الراصدة لآلام النازحين واللاجئين وأفول أنظمة عربية وارتقاء أخرى، وفيها المسيرة الاستقلالية وتثبيت تاريخ جديد للعدالة والسعي الى التوافق وإعادة بناء المؤسسات وتحصين القطاع المصرفي والاحتفاء بافتتاح المدارس الحكومية ومشاريع الإنماء المتوازن وغيرها من المحطات التي دمغت تاريخ الجريدة بتاريخ الوطن الذي فيه محطات حلوة ومرة وما بين بين.
وإذ يوجز العدد الورقي الأخير حكاية وطن وجريدة بمختارات من أبرز “المانشيت” السياسي والأحداث التي عصفت بالبلد على مر العقدين الأخيرين، يبقى العزاء في أن “الحكاية ما خلصت”، وتستمر المهمة بأشكال أكثر حرفية وأنماط إعلامية باتت تفرض نفسها على الساحة الإعلامية، تماماً كما يحدث في العالم ومن حولنا.
“المستقبل” تطوي آخر صفحاتها اليوم، 14 حزيران 1999 كانت الانطلاقة ورقياً.. 14 شباط 2019 الانطلاقة تتجدّد رقمياً. إلى اللقاء.