نحو “انتفاضة” مسيحية قريباً؟
كتب أنطوان الأسمر في صحيفة اللواء : بات الانتفاخ الميليشيوي، الذي يفيض قوة وشراهة هذه الأيام، موضع هواجس بحجم الكيان وصيرورته، والقمة المارونية في بكركي أحد اكثر هذه الهواجس تجليا.
ثمة من يأخذ البلد بممارسات فظة غير دولتية، الى لا انتظام مقصود وممنهج سياسي واقتصادي – مالي واجتماعي، هو في الحقيقة نوع من الفوضى الخلاقة بغرض تكريس أعراف وفرض أمر واقع لا يتواءمان لا مع الدستور – الناظم، ولا مع وثيقة الوفاق الوطني (على عللها الكثيرة)، ولا مع الحد الأدنى من الحس الدولتي الذي كان ينظّم علاقة الطبقة السياسية مع بعضها البعض، زمن كانت لا تزال الأخلاق السياسية في صلب أي ممارسة.
بلغ النفور من هذا التآكل الممنهج للدولة بمفهومها المؤسسي – الراعي لمصلحة التدرج السريع في انحلالها، فكرة ومفهوما ودورا، مكانة لم يعد من المسموح التغاضي أو السكوت عنها. ثمة شبهة أقرب الى الحقيقة المطلقة، بأن فرقا لبنانية لم تخرج بعد من منطق الحرب ومن العقلية الميليشيوية التي تحكّمت بفصولها، كأنها في لحظة غضب أو نفور أو فزع أو بطش (وهو الغالب ها هنا) مخوّلة أن تهتك كل مفهوم الدولة التي منها أكلتْ وأثْرتْ طوال سنيّ السلم (المنقوص على ما يظهر ويتأكّد).
ما يعصف بلبنان راهنا هو أشبه بحكم الـkakistocracy. والكاكيستوقراطية في تعريفها العلمي، هي شكل من أشكال الحكم، حين تكون سلطة الدولة بيد الأسوأ، غير المؤهلين والمجردين من المبادئ. هي مشتقة من المصطلح الإغريقي: كاكيستوس (أسوأ) وكراتوس (حكم). ورغم الاصل اليوناني، إلا أن الاستخدام الأول للمصطلح كان في اللغة الإنكليزية.
يقول قاموس Merriam-Webster إنه في تعقّبه للكلمة هذه، توصّل الى أنها استُعملت أولا في فقرة من 159 كلمة، في خطبة لأحد مناصري الملك شارل أثناء الحرب الأهلية الإنكليزية عام 1644.
في بعض المصادر العلمية أن الروائي والشاعر الإنكليزي توماس لوف بيكوك كان أول من صاغ هذا المصطلح عام 1829، في سياقه السوسيولوجي – السياسي، لكن ظل استخدامه نادرا الى أن غرّد الرئيس السابق للمخابرات المركزية الأميركية جون برينان في 13 نيسان 2018 قاصدا الرئيس دونالد ترامب: Your kakistocracy is collapsing after its lamentable journey، أي إن «كاكيستوقراطيتك تنهار بعد مسيرتها البائسة».
الكاكيستوقراطية في لبنان هي خليط بين الحكم السيئ لمن لم يخرج من ماضيه بعد، وترهّل مفهوم الدولة المركزية القوية وانهيار مسيرتها البائسة لمصلحة دويلات على شاكلة فيتوات المجموعات المتناحرة، وهي في الغالب فيتوات مذهبية. يكفي أن تعارض (أو حتى تلوّح) مجموعة منها فكرة ما (أتفه الأفكار منها)، حتى يتحقق لها مرادها بذريعة التوافق تحت طائلة التهديد بعظائم الأمور، وصولا الى التلويح بمفردات الحروب الغابرة واستحضار محطات انقسامية أضّرت بالمستحضِر قبل كل خصومه.
في عز هذه الكاكيستوقراطية، وجد الموارنة على وجه التحديد (ما خلا قلة منهم لا تزال تبحث عن مركز فات)، أنفسهم أمام وجوب الجهر بتمايزهم عنها، مفهوما وممارسة شائنة. فالدولة – لبنان الكبير تحديدا – تتحلّل وتتهاوى وتتشرذم، فيما هي ملاذهم الأول والأخير، منذ أن وضع لبنتها الأولى بطريرك التأسيس إلياس الحويك. يومها نبّهه الفرنسيون تكرارا الى مغبة الذهاب الى دولة مختلطة يتزايد فيها المسلمون، فيما روبير دوكيه، أحد معاوني المفوّض السامي الجنرال هنري غورو حذّر بكركي خطيا، ناصحا باقتطاع مناطق إسلامية ومنح اخرى شكلا من أشكال الحكم الذاتي، بحيث يتأمن للمسيحيين أن يبقوا غالبية في لبنان الكبير، بما يسهّل على الموارنة الإحتفاظ بقبضتهم على السلطة المركزية. أمر ظل البطريرك يرفضه، وفي ذهنه أن الخيار الأفضل يكمن في سلطة مركزية بيد الموارنة على مساحة لبنان كبير متنوع طائفيا ومذهبيا.
يقف المسيحيون، على أبواب احتفائهم بمئوية لبنان الكبير، أمام تحدّ، بالمفهوم الكياني، مشابه لما واجهه البطريرك الحويك والموارنة عام 1919. والمطلوب منهم كثير، لكن الأولوية توجب عليهم الإنتفاضة على مفهوم الدويلة الكاكيستوقراطية التي تقودهم إليهم فرق الحرب الأهلية. من هنا البدء، يداً بيد مع الخلّص من الشركاء.
حزب الله كذلك وخصوصا، بما يرمز ويمثّل ويتمايز، يُنتظر منه القول والفعل.