الموسيقى: وجهة نظر بيولوجية
طبعاً كل مقاربة وثائقية للموضوع تحاول البحث عن هذه اللحظة بطريقتها الخاصة، ومنها مثلاً فيلم ذهبت صاحبته إلى أحد بلدان غرب أفريقيا، لمقابلة أفراد قبيلة منعزلة عن العالم، ليس لديها مفهوم خاص في الموسيقى واللحن، وقد أرادت معرفة ردود أفعال هؤلاء على أنغام ترى مفرحة أو حزينة في العالم الغربي، من أجل الإجابة عن السؤال نفسه حول الغريزة الموسيقية وإن كان هناك موسيقى جميلة بطبيعتها. كما يمكننا الحديث عن فيلم آخر يعيد لحظة الصفر بالنسبة للأطفال إلى ما قبل ولادتهم بأشهر، أي في اللحظة التي يصبح بمقدورهم فيها سماع الأصوات المحيطة بالإضافة طبعاً إلى صوت الأم ونبض قلبها، ويحلل الفيلم بشكل مثير للإهتمام أصوات بكاء مجموعة من الأطفال بمساعدة موسيقيين، مستنتجاً أن صراخ الطفل يكون على نوتة معينة غالباً.
اضطرت جينيفر لي (أطلقت آخر ألبوماتها Wish I could قبل أشهر) تعلم الكلمات مجدداً والإستماع لأعمالها الموسيقية السابقة لتذكرها، ريثما يقوم الدماغ بتفعيل جزء جديد منه يعيد ربط المعلومات ببعضها ويحل مكان الجزء السابق. قبلها بسنوات كانت السيناتور الأميركية، غابريال غيفورد، قد أصيبت برصاصة في رأسها، ما أجبرها على المرور بتجربة شبيهة لكن لمدة أطول، حيث استعان الأطباء بأساليب العلاج بالموسيقى التي تضع الكلمات ضمن سياقات موسيقية، لأن ذلك من شأنه تسريع عملية التعلم بشكل ملحوظ، وكان بإمكان المريضة في إحدى المراحل غناء كلمات معينة بطلاقة، بينما لم تكن قادرة على نطقها نفسها في حوار طبيعي. وتعتبر هذه الطريقة العلاجية مثالية أيضاً لعلاج الأطفال الذين يعانون مشاكل في النطق أو المصابين بمرض الباركنسون، فالدماغ يصل إلى أقصى قدراته عندما يتعرض للموسيقى، وفي حال نظرنا إلى صور شعاعية للرأس يمكننا ملاحظة تضاعف النشاط الكهربائي فيه عندما يشارك في نشاط موسيقي بالمقارنة بنشاط لغوي فقط (يتركز النشاط في جزء واحد في حالة اللغة بينما يتوزع على جميع الأجزاء في حالة الموسيقى)، لذلك ينصح دائماً بالإستماع لأنماط معينة من الموسيقى خلال القيام بأفعال تحتاج للتركيز، كما خلال ممارسة وظائف جسدية كالرياضة أو الأعمال اليديوية.
يعطي الوثائقي مساحة كبيرة، للحديث عن الوظائف الجسدية للموسيقى، خصوصاً في ضوء استخداماتها في علاج الإضطرابات الحركية التي مرت بها السيناتور الأميركية لتعلم المشي مجدداً وأداء وظائفها الجسدية مثل السابق. ويعتبر الإيقاع، وفق الوثائقي، العنصر الأقرب من الإنسان والأكثر غريزية من العنصر اللحني (رغم استعادته للفكرة النمطية حول وجود مرادف لـ”الميلودي” في جميع الثقافات، مع أن تأثيرها المزاجي مختلف بين واحدة وأخرى)، بما أنه يرافق الإنسان أينما ذهب، وبشكلين مختلفين: الأول في دقات القلب (كلما تسارعت أدى الى استجابات جسدية أنشط وكلما تباطأت، ساهمت في الإسترخاء والراحة)، والثاني في القدمين عند المشي (الذي يظهر في مقاربة لهجة الإيقاع Accent أي الفارق في قوة الضربة بين القدم اليمنى واليسرى، الذي يفسر وهم التغير عندما يكون الإيقاع ثابتاً لفترة طويلة). وقد أثبتت التجارب أن الإنسان، وبشكل لا إرادي، يواكب الإيقاع بشكل متزامن، كما هو الحال بالنسبة إلى نوعين فقط من الحيوانات هما الببغاء وأسد البحر (أما إستجابات الحيوانات الأخرى فتحدث ضمن شروط خاصة ولا يمكن تعميمها). ويحاول الوثائقي إثبات قوة تأثيره في الدماغ الإنساني من خلال تصوير الإستجابات الدماغية التي تظهر كومضات كهربائية، متكافئة من ناحية التردد Frequency، وقد ترجمها إلكترونياً إلى أصوات حقيقية مأخوذة من الدماغ مباشرة.
لكن طبعاً، الموضوع لا يحتاج إلى إثبات علمي، مع الرواج الهائل للموسيقى الإلكترونية التجارية اليوم التي تعتمد على إيقاعات آلية في غاية البساطة (تطورت في الأصل من الموسيقى الأفريقية مع “الهاوس” في أندية ديترويت التي يرتادها الأميركيون من أصول أفريقية). كما الموسيقى الشعبية التي طورت لها شركات الأورغ إيقاعات مستوحاة من تلك التقليدية.