التربية الجنسية والتحرش بالأطفال
(صورة تشبيهية )
حين يتعلّق الأمرُ بالتربية الجنسيّة، يقف الأهلُ حائرين: ماذا علينا أن نفعل؟ ومن أين نبدأ؟ بعضُهم يتجاهل الموضوع، أو يتناوله عرَضًا في حديثٍ لا يخلو من المزاح وابتداعِ الأساطير. لكنّ البعض الآخر يجهد في البحث عن الوسائل الأنسب لتثقيف الطفل جنسيًّا.
ونتيجةً لضعف التربية الجنسيّة في وطننا العربيّ، وازدياد حالات التحرّش، فإنّني أربط في مقالي هنا بين أهميّة إعطاء الطفل هذه التربية، وضرورتها في حمايته من التحرّش، ومن الاعتداء الجنسيّ عامّةً. ومع تسليمنا بأنّ التحرّش الجنسيّ الموجَّه ضدّ الإناث هو أكثرُ أنواع التحرّش شيوعًا، فإنّ هذه المقالة تنطلق من اعتبار التحرّش مشكلةً للجميع. وعليه، يقوم التثقيفُ الجنسيّ بتوعية الإناث إلى حقوقهنّ، وإلى كيفيّة التعامل مع هذه المواقف وكشفها والتبليغِ عنها؛ لكنّه يحفّز الذكورَ أيضًاعلى التدخّل لحمايتهنّ إنْ تعرّضن للمضايقة.
لكنْ قبل الشروع في معرفة أهمّيّة التربية الجنسيّة في الحماية من التحرّش، علينا أن نعرِّف التحرّش وكيفيّة حصوله.
مفهوم التحرّش
بحسب المؤتمر الرابع الذي نظّمته الأممُ المتحدة عن العنف ضدّ المرأة، فإنّ هذا العنف يعني”أيَّ فعلٍ قائمٍ على النوع الجنسيّ [الجندر]، يَنتج منه… أذًى أو معاناةٌ جسديّةٌ أو جنسيّةٌ أو نفسيّةٌ للمرأة، بما في ذلك التهديداتُ بمثل هذه الأعمال، أو الإكراهُ، أو الحرمانُ التعسّفيّ من الحريّة، سواءٌ في الحياة العامّة أو الخاصّة.”(1)
أمّا التحرّش فلا تعريفَ شاملًا له لأنّه قد يتغيّر بحسب ثقافة البلد وقيمِه وعاداتِه، بحيث تضاف بنودٌ في تعريفه هنا ولا تُضاف هناك. وأمّا التحرّش الجنسيّ بالأطفال تحديدًا، فقد عرّفته منظّمةُ الصحّة العالميّة بأنّه “توريطُ الطفل في نشاطٍ جنسيٍّ لا يكون قادرًا تمامًا على استيعابه، أو غيرَ قادرٍ على إعطاء الموافقة العليمة (informed consent) عليه، أو غيرَ مؤهَّلٍ بسبب [ضعف] نموّه على منح تلك الموافقة، أو ينتهك القوانينَ والمحظوراتِ الاجتماعيّةَ في المجتمع.”(2) ويُطلَق على المتحرّش بالأطفال لقبُ “بيدوفايْل،” ويُقصد به “مَن يمتلك توجُّهًا جنسيًّا مستديمًا [أو ثابتًا] تجاه الأطفال، الذين عادةً ما يكونون في الثالثة عشرة من عمرهم أو أقلّ.”(3)
في الولايات المتحدة الأميركيّة، تشكّل الطفلاتُ غالبيّةَ ضحايا التحرّش، ويكون الرجال هم المتحرِّشين في الغالب. ومن بين مجمل حالات التحرّش، تبلغ نسبةُ تحرّش الرجال بالفتيان 80%، ونسبةُ تحرّشهم بالفتيات 95%. ويشير بيرلينغر وإيليوت إلى أنّ الفتيات أكثرُ من الفتيان بكثيرٍ عرضةً للتحرّش الجنسيّ الصادر من أفراد الأسرة.(4) وفي المقابل يكون الفتيانُ أكبرَ سنًّا من الفتيات حين يتعرّضون للتحرّش الصادر من أشخاصٍ خارج أُسَرهم، ومن رجالٍ عُرفوا باستغلال الأطفال جنسيًّا في السابق.(5)
إيرلي برادلي، طبيب أطفال أمريكي، محكوم عليه
بـ 165 سنة إضافيّة في السجن لإغتصابه أكثر من مئة طفل
الخطاب النسويّ والنظام الأبويّ
يرتبط التحرّشُ الجنسيّ بديناميّات القوّة والبنية الاجتماعيّة. فغالبًا ما يحصل في اتجاهٍ عموديّ: من شخصٍ ذي نفوذٍ أو منصبٍ عالٍ، تجاه شخصٍ في مركزٍ أدنى. ويعود السببُ الأوّل في تزايد التحرّش الموجّه ضدّ الفتيات والنساء في وطننا العربيّ إلى الديناميّة الكامنة في تركيبة المجتمع الأبويّ، وهي تشير إلى أنّ التراتبيّة الموجودة في البنية الاجتماعيّة تصبّ غالبًا في مصلحة الذكور والرجال بحسب هشام شرابي.(6) ولذلك يَعتبر بعضُ الذكور العرب أنّ من “صلاحيّاتهم” التحرّشَ بمن هم أدنى منهم، بغضّ النظر عن العمر؛ والطفلاتُ ــــ وإنْ لم تبرزْ ملامحُ أنوثتهنّ بعد ــــ ينتمين إلى الجنس “الأضعف” الذي يجد أولئك الذكورُ كاملَ “الحقّ” في استباحتهنّ.
تعيش المرأةُ العربيّة اليوم مرحلةً مفصليّةً في مسيرة إثبات الذات. فعلى الرغم من تبوُّئها مناصبَ قياديّةً، فإنّ ذلك يبقى متدنّيًا مقارنةً بالرجل (في مصر تلتزم الدولةُ بمنح المرأة 10 % من مقاعد البرلمان؛ وفي تونس والجزائر، جرى تبنّي الاقتراح القاضي بحصول المرأة على 50 % من المناصب داخل الحزب الواحد؛ كذلك فعلت السعوديّة حين خَصّت المرأة بـ20 % من المقاعد في مجلس الشورى الوطنيّ).(7)
هذه “المشاركة” المتدنّية لم تسهمْ في التخفيف من حالات التحرّش. فعلى سبيل المثال، سجّل بحثٌ لمركز تومسون رويترز أنّ النساء في مصر يتعرّضن للتحرّش يوميًّا.(8) وخلصتْ دراسةٌ أعدّتها الأممُ المتحدة في العام 2013 إلى أنّ تسعًا من كلّ عشر مصريّات تعرّضن لشكلٍ من أشكال الاعتداءات الجنسيّة يصل إلى الاغتصاب. وهذا الاستنتاج لا يمكن فهمُه في معزلٍ عن العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ففي مصر مثلًا ترتفع نسبُ البطالة، بما يشكّل حاجزًا دون حصول النساء على فرص عملٍ تسهم في تحرّرهن ولو قليلًا من سلطة الرجل. وفي لبنان ضمّت لوائحُ “المجتمع المدنيّ” نساءً بالفعل، لكنّ الغالبيّة فشلتْ في مواجهة نساءٍ حزبيّات يشكّلن جزءًا لا يتجزّأ من الإرث السياسيّ للأحزاب المسيطرة.(9)
من تظاهرة في القاهرة ضد التحرش
كيف تتحوّل إلى متحرّش؟
تختلف النظريّات التي تدرس أسبابَ تحوّل الشخص إلى متحرِّش. فالنظريّة البيولوجيّة ترى أنّ هناك جيناتٍ متوارثةً تؤدّي إلى الاختلال في سيطرة الشخص على نوازعه الجنسيّة، فيندفع إلى ممارساتٍ مضطربةٍ وغير اعتياديّة. وهناك نظرية نفسيّة ــــ اجتماعيّة تستند في تفسير التحرّش إلى عوامل ترتبط بالمدرسة والحيّ من جهة، وبالتربية والعائلة والتجارب الشخصيّة من جهةٍ ثانية. وفي هذا الصدد يقول داتشر كلتنر، أستاذُ علم النفس في جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، إنّ “القوّة تجعل الإنسانَ أكثرَ اندفاعًا في أفعاله، فيصير… أقلَّ اكتراثًا بتأثير أفعاله في الآخرين.”(10)
على أنّ بعض الدراسات ذهبت إلى أنّ “الخلل في التوظيف النفسيّ لدى المعتدي هو الذي يدفعه إلى ارتكاب الفعل الاعتدائيّ.”(11) وهناك ثلاثُ فرضيّات تفسّر هذا الفعل من هذا المنطلق.(12)
أولاها أنّ المعتدي الجنسيّ يواجه صعوبةً في تصوّر الرغبة الجنسيّة، فيفرِّغ استثارتَه بطريقةٍ عنيفةٍ لا يمكن تأجيلُها. هنا يفقد المعتدي القدرةَ على الربط بين تصوّراته وعاطفته، فيتدخّل الخيالُ عبر ما يحمله من مفاهيمَ متوارثةٍ عن الذكورة والأنوثة، وما علينا أن نفعله بالجنس الآخر أو الشخص الآخر، وما يحمله الجنسُ الآخر أو الشخصُ الآخر تجاه جنسنا.
الفرضيّة الثانية أنّ النقصَ في “الحبّ الأوّليّ” (primary love) يعرِّض المتحرِّشَ لتهديد الاضطراب ما إنْ يواجه علاقاتِه الحاليّة، فيسلك “سيرورةَ التدمير” سبيلًا لإبعاد الحبّ خارج ذاته.(13)
الفرضيّة الثالثة أنّ المعتدي يعاني تصدّعاتٍ في نرجسيّته، فيحاول من خلال فعله الاعتدائيّ “ترميمَ ثغرةٍ جنسيّةٍ غير معروفةٍ، ومحميّةٍ، وملغاةٍ بفعل الدفاع النرجسيّ.” (14)
وفي محصّلة هذه الفرضيّات، فإنّ الاعتداء الجنسيّ يأتي لردم هشاشة المعتدي على مستوياتٍ مختلفة: تصوّر الذات، الهويّة الاجتماعيّة، النرجسيّة.(15)
من “ثقافة العيب” إلى التربية الجنسيّة
ليس ارتفاعُ نِسب التحرّش مقصورًا على بلادنا العربيّة. فبحسب أرقام الشبكة الوطنيّة لمكافحة الاغتصاب في الولايات المتحدة، فإنّ 321.500 شخص هناك، تزيد أعمارُهم عن 12 سنةً، يقعون ضحايا للاغتصاب أو الاعتداء الجنسيّ سنويًّا.(16) لكنّ في مقدور التثقيف الجنسيّ أن يخفّف من حدّة العنف الجنسيّ، أيًّا كان موطنُه.
يجد معظمُ الأهل أنّ الحديث إلى أطفالهم عن الجنس موضوعٌ حسّاس. وكثيرًا ما يحاولون التهرّبَ منه، مع أنّ الأطفال يشْرعون في اختبار المشاعر الجنسيّة في عمرٍ مبكّر.
يُعتبر المنزل المكانَ الأفضلَ لاستقاء الطفل معلوماتٍ جنسيّةً. صحيح أنّ أيّ شخص يمكن أن يلقّنَه حقائقَ الإنجاب الأساسيّة في ساعتين مثلًا، لكنْ تبقى للأهل قدرةٌ أكبر على تقديم المعلومات في منظورٍ أكثرَ ملاءمةً، نظرًا إلى ثقة الطفل بهم. هنا لا بدّ من دحض فكرةٍ شائعة، وهي أنّ تزويدَ الطفل بحقائقَ عن الإنجاب “يسيء إلى أخلاقه”؛ فالعكس هو الصحيح، خصوصًا إذا فَهم الإنجابَ في سياقٍ يعبِّر عن الحبّ والتكاملِ العائليّ وديمومةِ الحياة.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ على الأهل أن يكونوا دائمًا متيقّظين إلى توعية أطفالهم بخصوصيّة أعضائهم، وحمايةِ أجسادهم. وفي هذا الصدد نذكر أنّ برنامج الأونيسكو المختصّ بالتوجيه الفنّيّ الدوليّ بشأن الجنسانيّة لم يكتفِ بالتوعية إلى طريق الإنجاب والحماية، وإنّما تطرّق أيضًا إلى مواضيع أساسيّة أخرى في عملية التربية الجنسيّة، مثل: العلاقات السليمة، والسلوك الجنسيّ، والقيم،… (17)
الأهمّ في هذا المجال أن يستقي الأهلُ من أبنائهم ما “يعرفونه” عن الجنس قبل أن يشْرعوا في تثقيفهم جنسيًّا. ذلك لأنّ الطفل يتعرّض يوميًّا لقنوات اتصالٍ متنوّعة (من الحيّ إلى المدرسة والتلفاز والإنترنت…)، وتقوم هذه القنواتُ بمدّه بمجموعةٍ من المعارف التي قد تكون غيرَ دقيقة، أو خاليةً من الأسلوب العلميّ. وهنا تقع على الأهل مسؤوليّةُ دحض هذه المعارف، أو توضيحِها، أو تأكيدِها.