جراح مصابي الحرب في لبنان لا تزال ساخنة
صدى وادي التيم – لبنانيات /
على رغم دخول وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل المعلن في الـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حيز التنفيذ منذ الـ18 من فبراير (شباط) الماضي لم تتوقف الحرب الإسرائيلية على المناطق اللبنانية المختلفة، من جنوب الليطاني المشمول بتنفيذ القرار الدولي 1701 إلى شماله والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، حيث تواصل الطائرات الحربية الإسرائيلية والمسيرات تنفيذ هجمات محدودة الأهداف أو واسعة النطاق موقعة مزيداً من القتلى والمصابين.
وفق إحصاءات أخيرة لوزارة الصحة اللبنانية والقوى الأمنية المتعددة، ومنها الجيش اللبناني، فإن الجهات العسكرية الإسرائيلية خرقت اتفاق وقف إطلاق النار 3100 مرة منذ الـ28 من نوفمبر 2024، منها 1529 خرقاً برياً، و1497 خرقاً جوياً، و74 خرقاً بحرياً، مما تسبب في سقوط 153 قتيلاً في الأقل و354 جريحاً، وتضاف هذه الأعداد إلى حصيلة كانت أعلنتها وزارة الصحة اللبنانية بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار بلغت 4047 قتيلاً و16638 جريحاً، لتصبح الحصيلة التقريبية 4200 قتيل ونحو 17 ألف جريح.
ملايين للجرحى
ووفق إحصاءات (غير نهائية) أعلنها وزير الصحة اللبنانية السابق الطبيب فراس الأبيض في مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2024 فإن علاج المصابين “على نفقة وزارة الصحة بلغت كلفته التقديرية للعمليات الجراحية الأولية وللعمليات الثانوية التي احتاج إليها عدد من المصابين (أكثر من 250 عملية) 20 مليون دولار أميركي”. ولفت إلى أن “اعتداء البيجر وحده الذي نتج منه ما يزيد على 3500 جريح وقتيل خلال فترة لا تتجاوز ساعة، بلغت كلفة العناية الصحية والطبية لجرحاه ما يزيد على 4 ملايين دولار”، مؤكداً أن هناك “كلفاً أخرى للعناية الطبية والصحية لم تقدر بصورة كاملة حتى الآن”، وموضحاً “أن الغالبية العظمى من هذه الكلف تتحملها الدولة اللبنانية عبر وزارة الصحة العامة والاعتمادات التي رصدت لهذا الموضوع”.
ولم تتوقف إصابات الحرب عند المراحل الأولى لكل إصابة، ولا انتهت مع انتهاء الحرب، فثمة ما لا يقل عن 2000 إصابة متقدمة بين فقدان أطراف أو عيون أو إصابات بالغة أدت إلى شلل جزئي أو ثنائي أو كلي، وتحتاج إلى متابعة صحية مستمرة أو دائمة، وربما إلى سنوات عديدة أو طوال الحياة، ومنها ما لا يقل عن 1500 إصابة شديدة في تفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية التي حصلت يومي الـ16 والـ17 من سبتمبر (أيلول) 2024 واستهدفت بصورة رئيسة عناصر من “حزب الله”، فمن يتحمل أعباء المتابعة الصحية لمصابي الحرب من مدنيين ومقاتلين ومناصرين؟
واجب الدولة
عن دور وزارة الصحة اللبنانية في متابعة علاج مصابي الحرب يقول مدير العناية الطبية الدكتور جوزيف الحلو لـ”اندبندنت عربية”، إن “الوزارة تستمر في استقبال مصابي الاعتداءات الإسرائيلية حتى اللحظة، فضلاً عن متابعة علاج المصابين السابقين وإجراء العمليات اللازمة لهم. إن متابعة جرحى الحرب عند الوزارة أهم بكثير من العمليات الجراحية والإسعافية الأولى. وهي في هذا النطاق تتحمل قدر الإمكان كلف وأعباء العلاج، ولا خيار لنا غير ذلك فهذا واجب الدولة اللبنانية”. ويضيف “لا إحصاءات دقيقة لدى الوزارة عن عدد المصابين ممن يستمر علاجهم على نفقتها، يمكن عند انتهاء الحرب، ونتمنى أن تنتهي اليوم قبل الغد، بعدها يمكن أن نعلن عن عدد المصابين ممن تستمر الوزارة في علاجهم على نفقتها”.
يؤكد الحلو أن كثراً من مصابي الحرب ما زالوا يخضعون للعلاج أو المتابعة، “منهم من فقد عينه فنتابعه ويمكن أن نزرع له قرنية إذا احتاج إلى ذلك ومن بتر أحد أطرافه أو أصابع يده أو غير ذلك، وهذا يدل على نتائج مأسوية لهذه الحرب. الوزارة ومعها الدولة اللبنانية أنى استطاعت أن تقدم ما يلزم للمصابين لا تتأخر عن ذلك”.
لكن هل تتحمل موازنة وزارة الصحة هذه الأعباء؟ يرد مدير العناية الطبية “من المؤكد لا، لكن هذه المهمة ليست مسؤولية وزارة، بل الحكومة اللبنانية مجتمعة”، متمنياً أن “يعم السلام وتنتهي الحرب ويتوقف هذا الحمام الدموي المفتوح”.
فئات عمرية مختلفة
من جهتها تواصل “مؤسسة الجرحى” التابعة لـ”حزب الله” (بتعريفها: هي جمعية خيرية لمساعدة ورعاية جرحى ومعوقي “حزب الله” أنشئت عام 1982) معالجة مصابي الحرب من عناصر الحزب أو عائلاتهم أو المحسوبين عليه. ويشير مدير المؤسسة في الجنوب نضال برجاوي إلى أنها “نتيجة تزاحم الأولويات توزع الجهد على الإصابات الشديدة والمتوسطة الذين تبلغ أعدادهم مئات، وهم من ذوي الإعاقات والإصابات الشديدة من الجنسين، ومن مختلف الفئات العمرية”.
ويوضح برجاوي أن “المصابين نوعان: من خضعوا لعمليات جراحية وانتهى علاج غالبيتهم في الأشهر الأولى وتعتبر إصاباتهم متوسطة نوعاً ما، وبالنسبة إلى الإصابات الشديدة تبقى احتمالات العمليات عندهم مفتوحة بين ترميم ومعالجة التهابات ومراجعات طبية وصور شعاعية وما ينجم من مضاعفات”.
أما النوع الثاني، بحسب برجاوي “فهم أصحاب الإعاقات الشديدة ممن يحتاجون إلى عناية تأهيلية، كالعلاج الفيزيائي ومتابعة الأطراف الاصطناعية أو تركيب قرنيات وأعين اصطناعية أو علاج نطق أو انشغالي، وربما بعضهم سيحتاج إلى المتابعة طوال حياته أو إلى فترة طويلة وممتدة، خصوصاً المصابين بشلل جزئي أو دائم، بغية الحفاظ على المستوى الصحي الذي تلقوه وعدم تراجع حالاتهم أو تدهورها، فالشق التأهيلي يشمل معظم مصابي الإعاقات الشديدة لفترات طويلة، وربما لسنوات، ولا ينتهي في كثير من الأحيان”.
1500 إصابة دائمة
يؤكد برجاوي أن “مؤسسة الجرحى تمتلك مصنعاً للأطراف الاصطناعية تحت مسمى (مركز العباس لتركيب الأطراف الاصطناعية) في بيروت، وتشمل تغطيته جميع الجرحى في أنحاء لبنان، وثمة مراكز أخرى رديفة يتم تحويل عدد من المصابين إليها”، نافياً أن يكون “قد توافر رقم محدد لمصابي الحرب، وبخاصة أصحاب الإصابات البالغة، وهذا مرده إلى كثافة الإصابات، ومنها ما جرت معالجته خارج البلاد لأشهر عدة وهم من شريحة معينة (محازبين). وبين مصابين من المقاتلين أو عناصر الحزب أو عائلاتهم والمصابين المدنيين الذين نستقبلهم للعلاج على نفقة مؤسسة الجرحى لم نستطع إجراء إحصاء كلي، لا سيما أن الاعتداءات الإسرائيلية لم تتوقف حتى اليوم، وثمة إصابات تقع يومياً”.
ويتابع برجاوي “في إصابات ‘البيجر’ كان هناك عدد من المصابين بقيت لديهم نسب ضئيلة من البصر فقدوها نهائياً خلال فترة العلاج، والعكس صحيح، فثمة حالات كان متوقعاً ألا تستعيد نعمة البصر، لكنها تقدمت، وبات أصحابها يبصرون من جديد بعد تركيب قرنية أو إجراء عمليات معينة، لذلك من المبكر أن نحكم على أعداد الإصابات البالغة بصورة دقيقة، لكن نقول إن الإعاقات الكبيرة التي ستلازم أصحابها تتجاوز الـ1500 معاق بصورة دائمة، أو مدى العمر، وهي تتوزع ما بين بتر أطراف، قدم أو يد أو أصابع، أو فقدان عين أو اثنتين، وبين شلل جزئي أو سفلي أو جانبي أو شلل رباعي أو كامل”.
ويلفت إلى أن “وزارة الصحة اللبنانية تستقبل الجرحى في البدايات، لا سيما إبان الحرب الكبيرة التي استمرت نحو 66 يوماً متواصلة، فتتم معالجتهم على نفقتها، لكن بعدها لا تبقى جميع المتابعات الطبية على نفقة الوزارة، خصوصاً بعد انتهاء مرحلة العلاج الأولى وخروجهم من المستشفيات، فأمور المتابعة والصور والتحاليل الطبية والمخبرية تصبح على نفقتهم الخاصة أو على نفقة الجهات الضامنة مثل الضمان الصحي أو التعاونيات أو شركات التأمين، ويمكن أن يعود المصاب إلى المستشفى مرة ثانية على نفقة الوزارة إذا احتاج إلى جراحة جديدة ضمن متابعة العلاج”.
العقوبات تحجم المساعدات
يتحدث برجاوي عن “مساعدات مالية تلقتها المؤسسة، لا سيما في إصابات البيجر التي حفرت عميقاً في وجدان الناس، فتبرعوا للمؤسسة بغية تغطية نفقات العلاج هذه، أو لجرحى بعينهم، لكن هذه الحال من التبرعات تراجعت نوعاً ما بعد توقف الحرب الكبيرة. ومع الأسف فإن الشريحة الكبرى التي كان يمكن لها أن تحدث فرقاً نوعياً هي تبرعات المغتربين، لكن الضغوط الدولية والحصار المالي والعقوبات التي تفرض من هنا وهناك، جعلت هؤلاء المساهمين يترددون في إرسال الأموال أو تحويلها، ولو حتى لأفراد من عائلاتهم أو إخوتهم أو أقربائهم، فهذه الشريحة التي يمكنها تقديم المساعدة أحجمت نتيجة المحاذير السياسية والدولية”.
ويثني على “مبادرات فردية تسهم في تقديم العلاج للمصابين، من عدد من المستشفيات أو الأطباء ممن يتبرعون بأجورهم أو أتعابهم لمصلحة المصاب”.
وكان وزير الصحة اللبناني السابق فراس الأبيض، أعلن في مؤتمر صحافي عقده في اليوم التالي لوقوع انفجارات أجهزة البيجر في الـ16 من سبتمبر 2024، أن “عدد القتلى جراء انفجار أجهزة البيجر وصل إلى 12 شخصاً بينهم طفلان. ووصل عدد الجرحى إلى 2800 (بلغ نحو 3500) جريح من بينهم أطفال وكبار في السن”. وأشار في حينه إلى “أن هناك مئات الحالات الخطرة، وإلى تعددها بين إصابات في الوجه واليد ومنطقة البطن والأعين”، مضيفاً أن “أكثر من 100 مستشفى في لبنان في حال استنفار، وتقوم باستقبال حالات الإصابات بـ’البيجر'”.
حرب على الصحة
لم تنعكس أضرار الحرب وتبعاتها على القطاعات المدنية أو المقاتلين في صفوف “حزب الله” وحسب، بل إن القطاع الصحي في لبنان بحد ذاته تعرض لخسائر كبيرة جراء هذه الحرب التي أدت إلى تدمير عدد من المستشفيات أو المراكز الصحية أو الجمعيات الإسعافية أو مراكز الرعاية الصحية الأولية، وإلى سقوط عدد كبير من الأطباء والمسعفين وعناصر فرق الإنقاذ أو الإطفاء بين قتلى وجرحى.
وكانت وزارة الصحة اللبنانية نشرت تقريراً مفصلاً حول هذه الخسائر أشار إلى أن “عدد الاعتداءات على المستشفيات بلغ خلال الحرب 67 اعتداءً طاولت 40 مستشفى، مما اضطر عدد منها إلى الإقفال قسراً، وهي مستشفى بنت جبيل الحكومي في الجنوب، ومستشفى صلاح غندور في بنت جبيل، ومستشفى مرجعيون الحكومي، ومستشفى ميس الجبل الحكومي (قضاء مرجعيون)، ومستشفى المرتضى في دورس (بعلبك)، ومستشفى بهمن في بيروت، ومستشفى البرج (برج البراجنة- بيروت). أما عدد المستشفيات التي بقيت تعمل بصورة جزئية فهي ثلاثة: مستشفى قانا الحكومي (صور) ومستشفى صور الحكومي ومستشفى خروبي في الصرفند (الزهراني – صيدا).
وأشار التقرير إلى سقوط 16 قتيلاً من طواقم هذه المستشفيات ونحو 73 جريحاً وتضرر 25 آلية. وتحدث عن الجمعيات الإسعافية “التي تحملت العبء الأكبر من الاعتداءات على القطاع الصحي، وسقط 50 في المئة من المستهدفين ضحايا، مما يظهر ما تعرض له المسعفون من استهداف مباشر، إذ بلغ عدد الاعتداءات على الجمعيات الإسعافية 238 اعتداءً سقط خلالها 206 ضحية وأصيب ما لا يقل عن 257. أما عدد المراكز الإسعافية المستهدفة فبلغ 66 مركزاً، وسيارات الإطفاء 60، وسيارات الإسعاف 177، وعدد معدات الإنقاذ المستهدفة 19”.
وأحصى التقرير إقفال 56 مركزاً من مراكز الرعاية الصحية الأولية بسبب الاعتداءات الإسرائيلية، من بينها 33 مركزاً تضرر بصورة كاملة في مناطق كانت تتعرض للاستهداف، مما شكل جزءاً من عملية التهجير، لأن هذه المراكز كانت تقدم الخدمات للأهالي الصامدين في بلداتهم وقُراهم”.
كامل جابر – اندبندنت عربية