مقام النبيّ شعيب للموحّدين الدورز عابر للدول والأوطان
صدى وادي التيم – متفرقات /
في كلّ ربيع، وتحديدًا في الـ 25 من نيسان (أبريل)، يتحوّل مقام النبيّ شُعيب في حطّين قرب طبريّا إلى ما يشبه مهرجانًا روحيًّا، إذ يتوافد إليه ألوف الدروز– أو ”الموحّدين“ كما يفضّلون تسميتهم– من كلّ حدب وصوب، حاملين معهم نذورهم وصلواتهم وحنينهم إلى طقوس توارثوها منذ قرون. هو عيد النبيّ شُعيب، الشخصيّة التي لا تجمع قداسة الدين فحسب، بل تختصر في مسيرتها أيضًا روابط التاريخ، وسرديّة الطائفة، والمكانة العميقة في الضمير الجمعيّ للموحّدين.
يمتد الاحتفال على مدار ثلاثة أيّام، يبدأ اليوم الأوّل بطقوس دينيّة من صلوات ومناجاة وطلب الغفران، فيما يُخصّص اليوم الثاني للتهاني الرسميّة واستقبال الوفود من مختلف الطوائف. أمّا اليوم الثالث فيُكرّس للزيارات العائليّة والتواصل الاجتماعيّ. وتسبق المناسبة حملات توعية تنظّمها الطائفة في المدارس لتعريف الأجيال الجديدة على النبيّ شُعيب وتاريخ المقام، في حين يتبادل أبناء الطائفة التهاني بعبارة: ”زيارة مقبولة“.
من نبيّ إلى مرجعيّة جامعة
وفق المعتقد الدرزيّ، يُنظر إلى النبيّ شُعيب كرمز للصدق والنزاهة في البيع والشراء، ويُقال إنّه أرشد النبيّ موسى وعلّمه أصول الإدارة وتنظيم شؤون قومه، بل كان برفقته عند تسلّمه الوصايا العشر، بحسب الرواية المتداولة داخل الطائفة.
مقام النبي شعيب في حطّين
يُعتبر المقام نفسه معلمًا تاريخيًّا، بُني في عهد صلاح الدين الأيّوبيّ بعد معركة حطّين، وتمّ ترميمه في العام 1882 بمبادرة من الشيخ مهنّا طريف، الرئيس الروحيّ للطائفة الدرزيّة آنذاك، ليكتسب الموقع بعد ذلك أهمّيّة متزايدة ويُصبح مركزًا روحيًّا أساسيًّا في حياة الدروز، ليس فقط في فلسطين، بل في مختلف أماكن تواجدهم. وفي العام 1969، أصبح يوم الـ 25 من نيسان عيدًا رسميًّا للطائفة الدرزيّة في فلسطين.
هويّة درزيّة في قلب الجليل
يتوزّع أبناء الطائفة الدرزيّة في شمال فلسطين المحتلّة، حيث يعيشون في نحو 18 بلدةً وقريةً جبليّة، أبرزها: دالية الكرمل، عسفيّا، شفا عمرو، المغار، كسرا، الرامة، ساجور، يركا، دير الأسد، عين الأسد، جولس، أبو سنان، البقيعة، بيت جنّ، جتّ، حرفيش، كفر سميع، ويانوح. هذا ما يؤكّده الباحث سامي سوايد في كتابه ”القاموس التاريخيّ للدروز“، إذ يرصد انتشار الطائفة في هذه المناطق الجبليّة، التي تحوّلت إلى ملاذ تاريخيّ وحضاريّ لهم.
النبيّ شُعيب الذي يحظى بمقام مقدّس في قرية حطّين المهجّرة قرب طبريّا يُعد من أبرز الرموز الدينيّة لدى الدروز، ويُعرف عندهم بأسماء عديدة منها: ”المختار“ و“صفيّ البار“. وفي الأردن، يقع مقام النبيّ شعيب قرب مدينة السلط. ويُعتبر مقام وضريح النبيّ شعيب أحد المواقع الأثريّة والمقامات الدينيّة المهمّة عند مسلمي الأردن، وذلك للاعتقاد بأنّ النبيّ شعيب أحد الأنبياء المذكورين في القرآن، ويؤمنون بأنّه دُفن فيه. بينما في سوريا، يقع هذا المقام بجوار، قرية ”قيصما“ وهي إحدى قرى جبل الدروز في سوريّا وهي تقع على أطراف الصحراء.
يشير عديد من الباحثين إلى أنّ كثرة المقامات المنسوبة إلى النبيّ شعيب، من فلسطين إلى لبنان وسوريّا والأردن، تعكس طيفًا من الاعتقادات والذاكرة الجمعيّة التي تُعلي من شأن هذا النبيّ
أمّا في لبنان، فيقع المقام المقدّس في الجهة الشرقيّة من بلدة الفرديس (حاصبيّا – جنوب لبنان)، وهو مبنيّ حول كهف طبيعيّ صغير، توجد بجانبه أشجار باسقة عتيقة، تتمتّع بقدسيّة. ويتحدّث الأهالي عن أنّ كلّ من مسّ الأشجار بقصد اقتلاعها أو قطعها أصيب بمكروه، وتجري الزيارة إليه في مطلع أيلول (سبتمبر) من كلّ سنة، ويعتقد كذلك أنّ النبيّ شعيب مرّ بهذا المكان في أثناء تجواله في هذه المنطقة.
ويتوسّط مقام آخر للنبيّ شعيب منطقة وادي التيم، وتحديدًا في محلّة ”السفينة“ التابعة لبلدة الكفير في قضاء حاصبيّا، جنوب لبنان. وقد جرى شقّ طريق يربط المقام بالبلدة، ما سهّل على الزوّار الوصول إليه. وتزخر المنطقة المحيطة بآثار معماريّة قديمة ونواويس منحوتة في الصخر، ما يضيف بُعدًا حضاريًّا وتاريخيًّا يعكس تعاقب الحضارات على هذه الأرض.
ويشير عديد من الباحثين إلى أنّ كثرة المقامات المنسوبة إلى النبيّ شعيب، من فلسطين إلى لبنان وسوريّا والأردن، تعكس طيفًا من الاعتقادات والذاكرة الجمعيّة التي تُعلي من شأن هذا النبيّ، ليس فقط كرمز دينيّ، بل كجسر يربط بين المجتمعات الروحيّة عبر الحدود، في ظلّ محاولات تفتيت الهويّات وفرض التجزئة. لكن، على رغم تباين المواقع، يبقى مقام النبيّ شعيب في حطّين هو المعتمد دينيًّا لدى الموحّدين الدروز كموقع دفن فيه، والمركز الذي يشهد الحضور الطقوسيّ الأكبر.
مقامات وادي التيم وبليدا
يقول المؤرّخ الشيخ غالب سليقه في حديث لـ ”مناطق نت“، إنّ النبيّ شعيب ”ينتمي إلى قبيلة مدين في الجزيرة العربيّة، ويقال إنّ مدين هو أحد أبناء النبيّ إبراهيم الخليل، وقد عاش في زمن كانت فيه جماعة من الكفّار تغشّ في الميزان، فتشتري بالمكيال الكبير وتبيع بالمكيال الصغير، إلى أن تقدّم أحد التجّار بشكوى إلى النبيّ شعيب، وبعد تفاقم المشاكل، غضب النبيّ شعيب غضبًا شديدًا وخرج من القبيلة“.
مقام النبي شعيب في الكفير
ويشير الشيخ سليقه إلى أنّ ”النبيّ شعيب حضر إلى جنوب لبنان ووادي التيم، حيث توجد ثلاثة مقامات: الأوّل في السفينة (الكفير)، والثاني في الفرديس، والثالث في بليدا، بالإضافة إلى مقامات أخرى في الأردنّ واليمن“.
ويضيف أنّ القرآن الكريم ذكر 25 نبيًّا، بينهم أربعة أنبياء عرب فقط، وهم: هود، صالح، شعيب، ومحمد. ”أمّا سبب الاحتفال بعيد النبيّ شعيب في الـ 25 من نيسان، فيُعزى إلى سببين رئيسيّين: الأوّل، وهو الأقرب إلى المنطق، يرتبط بمعركة ”أقحواني“ التي وقعت في الـ 12 آذار (مارس)، وكان بطلها الأمير رافعة بن الليل والأمير الدزبري حيث انتصرا على صالح بن مرداس. وكانت هذه المرّة الأولى التي خاض فيها الدروز معركة تحت رايتهم، فصاروا يحتفلون بها سنويًّا. أمّا السبب الثاني، فيعود إلى العام 1885، حين قام أحد مشايخ بني طريف بترميم مقام النبيّ شعيب، وأثناء إزالة حجر معيّن، انبعث منه نور ساطع، فاعتبروا ذلك إشارة إلهيّة، وكان ذلك في الـ 25 من نيسان، ومن هنا جاء الاحتفال بهذا اليوم“.
ويؤكّد الشيخ سليقه أنّ ”النبيّ شعيب كان من أنبياء بني إسرائيل، لكنّ الدروز يكرّمون جميع أنبياء الله، ومن بينهم النبيّ شعيب، تقديرًا لما قدّمه للبشريّة من دعوة إلى التوحيد ونشر الديانة الموسويّة“.
الشيخ سليقه: النبيّ شعيب حضر إلى جنوب لبنان ووادي التيم، حيث توجد ثلاثة مقامات: الأوّل في السفينة (الكفير)، والثاني في الفرديس، والثالث في بليدا، بالإضافة إلى مقامات أخرى في الأردنّ واليمن
من حطين إلى الكفير والفرديس
من حطين إلى الكفير والفرديس، تنتشر مقامات النبي شعيب كعلامات على خريطة روحية تمتدّ على امتداد المشرق، إنها ليست مجرّد نقاط عبادة متفرّقة، بل محطات شاهدة على وحدة شعورية وهوية جامعة تتخطى الانتماءات الجغرافية والسياسية.
ففي كل مقام، مهما اختلفت تفاصيله، تحضر سيرة النبي شعيب ويجتمع أبناء الطائفة الموحدّة على ذكره، كأنما يعيدون كتابة تاريخهم المشترك.
في هذا السياق، يقول أحد وجهاء بلدة الكفير لـ ”مناطق نت“: ”يُقال إن النبي شعيب مرّ في هذه المنطقة خلال تنقّله بين مدين وجبل حرمون، ووجد في كهف السفينة ملاذًا له، لهذا السبب بنى أجدادنا المقام حول هذا الكهف، ليبقى شاهدًا على مروره. المقام لم يكن يومًا مجرد حجر، بل رمز لوجودنا وإرث حملناه جيلاً بعد جيل“.
يضيف أن ”المقام خضع لعدة عمليات ترميم، خصوصًا بعد الحرب، بتبرعات أهل البلدة والمغتربين، لأن الحفاظ عليه واجب ديني وتاريخي، وفي كل عام يجتمع الناس هنا في زيارات دينية، تقرأ الأدعية وتُذبح الذبائح، ونُجدد عهدنا مع ما يُمثّله شعيب من صدق وعدل وصبر.“
من جهتها تعبّر إحدى نساء بلدة الكفير لـ ”مناطق نت“ عن الطقوس التي تمارسها فتقول ”الزيارة إلى المقام هي جزء من حياتنا، نعتبرها تجديدًا للعهد مع النبي شعيب، نحن نعلم أولادنا أهمية زيارة المقام في كل عام، لأن ذلك يعزز فيهم قيم العدالة والصدق التي كان ينادي بها النبي.“
انديرا الشوفي – مناطق نت