جنوب لبنان بعد انتهاء الحرب: استفاقة على خسائر كبرى

صدى وادي التيم-لبنانيات/

تتفاقم التهديدات المتبادلة بين “حزب الله” والإسرائيليين بمواصلة الحرب المستعرة منذ تسعة أشهر مخلفة وراءها مزيداً من القتلى والضحايا، ومئات البيوت المدمرة في عشرات البلدات والقرى الممتدة من أعالي جبل الشيخ وصولاً إلى الساحل اللبناني في الناقورة، على رغم ما يدور من حديث حول إمكانية التوصل إلى هدنة موقتة أو دائمة في غزة تنعكس مباشرة على الوضع اللبناني فتتوقف الحرب ويعود أكثر من 100 ألف نازح إلى قراهم التي غادروها قسراً، وتكبدوا جراء ذلك خسائر كبيرة في مواسمهم الزراعية ومؤسساتهم وحركة إنتاجهم.

وثمة أسئلة كثيرة تدور على ألسنة ألوف العائلات التي نزحت من القرى الجنوبية الحدودية وتركت خلفها كل ما تملكه من بيوت وحقول وبساتين ومزروعات، وخسرت تعب العمر وما جنته جراء الحرب التي دمرت آلاف البيوت وقوضت بنيان ما سلم من القصف المباشر وصدعته. وفي طليعة هذه الأسئلة من سيعيد بناء ما تهدم خصوصاً أن سجالاً لبنانياً – لبنانياً دار حول رفض عدد من الفرقاء السياسيين أن تتحمل الدولة اللبنانية تبعات هذه الحرب، مؤكدة أن هذه التبعات تقع على من دخل فيها، مشيرة إلى ما سمته “تورط”، “حزب الله” في هذه الحرب؟

ويبقى السؤال الأكبر، أي سيناريو ينتظر أبناء الجنوب في حال تحققت العودة غداً وسيكون قسم كبير منهم واقفاً على أطلال البلدات والأحياء والبيوت التي تهدمت بفعل الحرب؟ ومن سيؤمن البنى التحتية التي أصابها كثير من الدمار والخراب في الماء والكهرباء والمزروعات وغيرها؟

عودة النازحين

بعد حرب يوليو (تموز) 2006 وفور إعلان وقف إطلاق النار بموجب القرار 1701 لم ينتظر النازحون الجنوبيون انبلاج يوم آخر، بل سارعوا في يوم إعلان القرار إلى العودة بمواكب سيارة حملت مئات الألوف، وامتدت طوابير ضخمة من العاصمة بيروت ومختلف المناطق اللبنانية نحو قرى الجنوب التي نزحوا عنها مدة 33 يوماً، أي طوال مدة الحرب. وعادوا لتفقد بيوتهم وكان حجم الدمار كبيراً، ووجد كثر من النازحين العائدين أن بيوتهم باتت مجرد أطلال فأقاموا على أنقاضها وبعضهم في خيمات أمنتها لهم بعض الجهات العربية والدولية، بانتظار المباشرة في إعادة البناء التي استمرت بين عام وعامين وأكثر.

مجلس الجنوب جاهز ولكن؟

“ما أشبه اليوم بعام 2006″، لذلك لا بد من السؤال عن التوقعات في حال توقفت الحرب؟ ويؤكد رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر أنه “شيء طبيعي أن نشهد عودة سريعة لأبناء الجنوب إلى بلداتهم وقراهم فور وقف إطلاق النار، وهذه ليست المرة الأولى التي تحصل مع أبناء الجنوب إذ كثيراً ما هجرتهم إسرائيل تحت وابل قصفها واعتداءاتها وكانوا يعودون لحظة الإعلان عن وقف النار، حصل هذا الأمر المشابه عشرات المرات وكان الناس يعودون فوراً إلى بيوتهم. الدولة ستعوض بطريقتها ليس بالضرورة من مالها الخاص لكن الناس سيرجعون وسيعيدون البناء”.

وحول تعويضات مجلس الجنوب يشير حيدر إلى أن المجلس مهيأ لأي شيء ميداني من مسح للأضرار وتخمينها “لكنه مالياً غير قادر على دفع أية مبالغ، وعندما يتوافر المال للتعويضات نقوم بالدفع الفوري كي يباشر الناس بإعادة بناء ما تهدم ضمن المبالغ المقررة، نحن سريعون جداً بهذا الأمر عندما تتوافر الموازنة اللازمة”.

ويضيف “أثبتت الحروب التي مرت على جنوب لبنان أن الجنوبيين متعلقون ومتمسكون بأرضهم وقراهم، يعودون إليها فور توافر الظروف حتى ولو سكنوا على أنقاض منازلهم المهدمة أو حتى في خيمات. ومن جهتنا نواصل القيام بإحصاء الأضرار والخسائر، لكن القيمة الأساس عندما تنتهي الحرب. ونحن نتوقع أن يتلقى لبنان مساعدات مالية تسهم في إعادة بناء ما هدمته الحرب الإسرائيلية على الجنوب”.

جبهة مزارع شبعا

نسأل رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة العميد الركن المتقاعد هشام جابر عن “السيناريو” الذي سيلي إعلان وقف إطلاق النار بين “حزب الله” والإسرائيليين على الحدود في جنوب لبنان، فيقول إن “الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله كان صريحاً، وهذا الأمر تكرر منذ فتح الجبهة على الإسرائيليين ’إذا وقفت الحرب على غزة نحن نوقف الحرب وملتزمون بذلك‘، ويعني أنهم لن يطلقوا أي صاروخ على الجهة الإسرائيلية”.

ويضيف “برأيي إن ’حزب الله‘ سيتابع من وقت إلى آخر قصف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لأنه يعدها أراضي لبنانية محتلة، والقرار الحكومي اللبناني والدستور يقران بأنه يحق للمقاومة أن تحرر الأرض اللبنانية المحتلة. هو ممكن وليس ضرورياً أن يتابع “حزب الله” من وقت إلى آخر إطلاق النار على مزارع شبعا، لماذا؟ حثاً على تقيد إسرائيل والضغط عليها من أجل تطبيق القرارات الدولية”.

وحول ما يحمله الوسطاء من شروط ترافق وقف إطلاق النار، يقول “الوسطاء يحملون رسائل من إسرائيل لأنها مأزومة في غزة ومأزومة في الشمال، منطقياً أقول إنه لا يحق لها أن تفرض أي شروط وما يحمله الوسطاء من مقترحات الإسرائيليين ومن تهديدات فقط مساهمة في الحرب النفسية والضغط على لبنان. أعتقد أن موقف لبنان الرسمي وموقف ’حزب الله‘ صريحان، فلتطبق إسرائيل القرار 1701. التقيت منذ نحو أسبوع أحد مسؤولي ’حزب الله‘ ووافقني الرأي بموضوع تطبيق القرار وإمكانية استمرار العمليات على الأراضي اللبنانية المحتلة في كفرشوبا ومزارع شبعا، وقال ’فلتتوقف الحرب في غزة وليطبقوا القرار 1701 كما هو وليس بالقطعة وعندها لكل حادثة حديث‘”.

وماذا يعني لكل حادثة حديث؟

يرد “عرفت منه أن القرار 1701 مستقل عن موضوع مزارع شبعا، وبنود القرار خمسة و10 هي لمصلحة لبنان، إذ إن القرار يحترم الحدود الدولية للبنان ولا لزوم لإعادة ترسيم الحدود. والقرار يمنع كذلك أي طرف القيام بعمليات عسكرية ويمنع إسرائيل أن تحلق طائراتها فوق لبنان، هذا القرار ومنذ صدوره خلال عام 2006 لم تلتزمه إسرائيل”.

لبنان مستعد للمواجهة

ويضيف “أما الرسائل بإبعاد ’حزب الله‘ مسافات محددة فلا طعم لها. القرار يقول لا وجود لأي مسلح في جنوب نهر الليطاني ومنذ 18 عاماً وحتى ما قبل أحداث غزة لم يستطع أحد أن يصور أي مواقع لـ’حزب الله‘ جنوب الليطاني”.

من يعيد الإعمار؟

وحول الجهة التي ستعيد إعمار ما هدمته الحرب يلفت العميد جابر “استناداً إلى ما لمسته من خطاب حسن نصرالله هناك خسائر والحزب سيغطيها، لكن من أين سيأتي بالمال؟ هل إيران ستمنح هذا المال؟ من المؤكد ألا إمكانات للحزب في إعادة بناء ما تهدم وهي عملية مكلفة جداً، ولا يبدو حتى الآن أن أحداً من الدول العربية مستعد للبناء كما حصل سابقاً وخلال حرب 2006، وليس في الواجهة إلا إيران”.

ويضيف “الدولة اللبنانية لن تستطيع البناء وهي تكاد تدفع رواتب الموظفين، لذلك السؤال المطروح اليوم هو من سيعمر القرى والبلدات الحدودية التي دمرت؟ أرجح أن تقوم مؤسسة جهاد البناء بذلك إذا ما إيران دفعت لها وعندها سيبدأ التعمير فور توقف الحرب، لكن يفترض على الدولة اللبنانية وليس على الحزب أن تشتغل وتستحضر تبرعات ومساعدات كي توزعها على الناس. وأنا لو كنت مسؤولاً وفي مكان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لكنت فعلتها، وسعيت بعلاقاتي مع الدول الصديقة والشقيقة كي تساعد لبنان على إعادة بناء ما هدمته الحرب والأمل ليس مقطوعاً”.

“الخيام” نموذجاً

تعرضت بلدة الخيام التي أضحت بحجم مدينة للقصف الإسرائيلي المدمر أكثر من مرة منذ عامي 1968 و1978 والتي دمرت عن بكرة أبيها، ثم في الحروب المتتالية وصولاً إلى حرب عام 2006 إذ دكت أكثر من 50 في المئة من بيوتها وأحيائها، وانتهاءً بالحرب الأخيرة التي انطلقت في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 واستمرت إلى اليوم، وكانت “الخيام” من المناطق الأولى التي استهدفها القصف الإسرائيلي والغارات، وأدى بعد تسعة أشهر إلى دمار كبير في مختلف أحيائها السكنية وفي متاجرها ومؤسساتها ومدارسها.

وبعد حرب عام 2006 كان حجم الدمار في بلدة الخيام كبيراً جداً إذ أعيد بناء أكثر من 3150 وحدة سكنية ومتجراً، بين هدم كلي أو جزئي أو أضرار مختلفة. وفي حينه أصدرت بلدية الخيام بعد الحرب ما يزيد على 1200 إذن بالبناء بالتنسيق مع التنظيم المدني، مما شجع المتضررين على استثمار مبالغ التعويض في بناء بيوت بديلة من تلك التي هدمها العدوان، مثلما شجع المغتربين من أبناء البلدة على تشييد أبنية لهم وقصور وفيلات، بلغت ما نسبته 50 في المئة من الأبنية الجديدة.

دمار كبير

وتصف الإعلامية ليلى رحيل من بلدة “الخيام” الوضع بـ”الكارثي فحجم الدمار كبير جداً، إذ ركز الإسرائيليون قصفهم في الفترة الأولى من الحرب على حي وادي العصافير في “الخيام” وهو حي شيد بعد حرب 2006، إذ إن عدداً كبيراً من المغتربين ممن لم يجدوا أراضي قريبة من وسط البلدة لجأوا إلى هذه المنطقة وجعلوها حياً سكنياً وبنوا فيه بيوتاً جمالها لا يوصف، ولأن هذا الحي يطل نحو فلسطين دمروه”.

وتضيف “مع ذلك بقي كثر من الناس في ’الخيام‘ نحن خرجنا باكراً لأن والدتي كانت مريضة، وبعدها بدأ قصفهم على الخط الرئيس بين مبنى البلدية والساحة العامة وهو بمثابة وسط تجاري. ثلاث غارات ضخمة أسهمت في نزوح فريق آخر من الأهالي ثم أتت الغارات والقصف على حارة البركة وكان حجم الدمار لا يمكن تخيله، ثمانية بيوت نسفت بأكملها، ثم كانت أعنف الغارات على الحارة الشمالية الغربية وصلت شظاياها إلى أماكن بعيدة وكأن زلزالاً أصاب المنطقة، لم يبق بيت كما كان عليه قبل الحرب”.

عائدون حتماً

وفي حال توقفت الحرب فماذا أنتم فاعلون؟

تقول رحيل “نحن اليوم صرنا نحب هذه الأرض أكثر وهي لن تكون إلا لنا ولا أحد يدافع عنها غيرنا، لكن هل نعيد بناء البيوت كما كانت عليه قبل الحرب؟ بالنسبة إليَّ سأعيد بناء بيت يؤويني لن يكون كبيراً على قدر أحلامي لأننا في ’الخيام‘ مهددون دائماً بالحروب الإسرائيلية والتجارب أثبتت ذلك أكثر من مرة، لذلك أنا أتمنى من كل قلبي أن تزول إسرائيل من وجودها على حدودنا لأنها ما فتئت تدمر بيوتنا وتؤذينا، ليس في ’الخيام‘ فحسب بل في كفركلا والعديسة وحولا وغيرها، أنا لو عدت سأبني غرفة ومطبخاً ومرحاضاً كي أبقى في ’الخيام‘”.

ولا تتوقع أن يعود الناس إلى بناء بيوت كبيرة كما حصل بعد حرب 2006 إذ شيدت البيوت الكبيرة والواسعة، وتقول “لا أعرف ماذا سيفكر النازحون عندما يعودون وكيف ستكون أحاسيسهم وسط هذا الدمار؟ لكن ما دامت إسرائيل موجودة وتعتدي علينا بهذا العنف يجب أن نكون حذرين في دفع مبالغ طائلة، فلنبحث عن بيوت تؤوينا كي نبقى في بلدتنا الحبيبة التي دفعنا كثيراً من دمائنا كي تبقى”.

نبني للمرة الرابعة

وتقول رحيل “هذه المرة الثالثة التي دمرت فيها إسرائيل بيتنا وبيوت أبناء ’الخيام‘ فدمر بيتنا ونزحنا منذ عام 1978 بعد احتلال المنطقة الحدودية وعدنا عام 1983 وأعدنا بناء البيت من ثلاثة طوابق لنا ولأخوتي، لكنه دمر خلال حرب 2006، واستأجرنا في البلدة وبقينا سنتين نبني في بيتنا الجديد بعد أن قررنا أن يبني شقيقي بيتاً أبعد من بيتنا الحالي، حتى إن حصل عدوان جديد يبقى لنا بيت آخر نأوي إليه، لقد أصاب الدمار أو القصف بيتنا وبيت أخي وبيت شقيقتي، لكن سنعود وسوف نبني بيوتنا للمرة الرابعة”.

ولا تستطيع رحيل مقارنة حجم الدمار الذي تعرضت له ’الخيام‘ خلال عام 2006 مع اليوم، قائلة “لا أعرف إذا كان الدمار في ’الخيام‘ يوازي دمارها حينها أم تجاوزه، لكن ما أراه في الصور ومقاطع الفيديو يظهر أن حجم الدمار كبير جداً، ونعرف أن الصور مهما بلغت لن تنقل حجم الواقع على الأرض، لكن ’الخيام‘ لم يبق فيها أبواب ونوافذ وزجاج ناهيك بالمؤسسات التجارية والغذائية والصروح الإنسانية والصحية على نحو مؤسسة عامل والصيدليات وغيرهما من المؤسسات التي سويت بالأرض، لقد دمروا كل ما يمكن أن يسهم في صمود الناس وبقائهم في بيوتهم، مما دفع الجميع إلى النزوح مرغمين”.

“مع ذلك سنرجع…”

وتشير “والدتي مسنة تسعينية وهي ستعود فوراً إلى ’الخيام‘ حتى ولو أقمنا خيمة قرب بيتنا المدمر من شدة تعلقها ببلدتنا وأرضها. أنا أتيت إلى بيتي هنا في بيروت حيث سكنت مدة طويلة واشتغلت وحققت نفسي وعملي وأحب بيتي كثيراً، لكنني مع ذلك لا أرى شيئاً في بيروت وهذا الإحساس يكاد يقتلني، ويقهرني ما ندفعه من أثمان ولم تزل إسرائيل تهدد مستقبلنا، وأراني لا أفعل شيئاً غير متابعة الأخبار وانتظار اللحظة التي سنعود فيها إلى ’الخيام‘. لقد ولدنا وعشنا في الملاجئ منذ عام 1968 وكنا ننام على ضوء الشموع ونختنق ولا نرى الضوء جراء القصف المتواصل وما زلنا، مع ذلك سنرجع فهذه الأرض باتت أغلى”.

المصدر: كامل جابر – اندبندنت عربية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى