مستشفيات جنوب لبنان في زمن الحرب… هل بقي فيها أطباء؟
صدى وادي التيم – لبنانيات /
منذ أن أنشئت المستشفيات في المناطق الجنوبية اللبنانية، وهي ليست قديمة العهد، لم تقم من أجل الرفاهية الصحية والطبية بل لحالات الطوارئ العامة الكثيرة. فإسرائيل منذ سبعة عقود لا تنفك تحت عنوان حماية حدودها، تشن حرباً تلو الأخرى مما يوقع عشرات القتلى والمصابين ويؤدي إلى تدمير البيوت والبنى التحتية في تلك المناطق.
مع أول توتر على الحدود في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 سارعت المستشفيات الجنوبية، لا سيما تلك المنتشرة على طول الخط “الساخن” في بنت جبيل وميس الجبل ومرجعيون وحاصبيا، إلى رسم خطط لطوارئ جديدة قد تنجم عن المواجهات، فأوقفت استقبالها للحالات “الباردة” وحولتها إلى مستشفيات “الخط الثاني” التي تقع في محيط جغرافي أكثر أمناً بعيداً من المواجهات، وأبقت على كوادر طبية لمهام عاجلة تتألف من أطباء جراحين وآخرين متخصصين في أمراض القلب والتنفس والعظام وغسيل الكلى، إضافة إلى ممرضين من ذوي الخبرة والاختصاص.
“حتى الآن وضعنا متماسك” يوضح رئيس مجلس إدارة مستشفى “بنت جبيل” الحكومي الطبيب توفيق فرج، ويقول “إنه منذ أن بدأت الحرب وضعوا خطة طوارئ حربية وهم في استنفار تام تحسباً لأي حوادث متفاقمة”. استقبل المستشفى عديداً من الإصابات وعالجنها وأجرى عمليات جراحية، ووهو في الوقت عينه يواصل استقبال المرضى في قسم غسل الكلى، بمعدل يومي أو كل يومين لـ16 مريضاً من بلدات قريبة، من أصل 36 مريضاً كانوا يأتون قبل الحرب”.
ويضيف الطبيب فرج “أن قسم الطوارئ والعمليات الجراحية جاهزان لأي مستجدات قد تحصل، يواكبهما فريق من الأطباء المتخصصين المستنفرين طوال 24 ساعة. وقد وزعنا كادرنا الطبي على أكثر من فريق للمناوبة. وقضت خطتنا أن يداوم الطبيب مدة يومين متتاليين أو ثلاثة أيام ريثما يأتي طاقم أو طبيب بديل، ذلك من أجل سلامة الأطباء خصوصاً في حركة تنقلاتهم على الطرقات. لذا فإن الاستمرارية متوافرة في المستشفى كي نبقى في حالة تأهب دائمة، وهذا لا يشمل الأطباء فحسب بل كذلك الجسم التمريضي”.
ويؤكد فرج أن عدداً لا بأس به من المواطنين لم يغادروا بلداتهم وقراهم، والمستشفى يلبي الخدمات الطبية الضرورية لهم. منوها إلى أن الحرب كانت طويلة على الجميع وليس على الجسم الطبي فحسب، لذلك ستستمر المستشفى بخدمة الناس، وكل شيء مؤمن حتى الآن، من أدوية ولوازم طبية.
انتشار المستشفيات
ليست كثيرة مستشفيات الخط الأول المنتشرة على الحدود الجنوبية، وقد نشأ معظمها في الفترة التي تلت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000. هي في غالبيتها مستشفيات حكومية مثل مستشفى “مرجعيون” و”بنت جبيل” و”ميس الجبل” و”حاصبيا”، إضافة إلى مستشفى خاص وحيد هو “صلاح غندور”. أما مستشفيات الخط الثاني الأقرب إلى بنت جبيل فتضم “تبنين” الحكومي ومستشفيات النبطية التي تبعد أكثر من 50 كيلومتراً عن المدينة ونحو 30 كيلومتراً عن مرجعيون، ومستشفيات صور التي تبعد نحو 30 كيلومتراً، تليها صيدا التي تبعد أكثر من 70 كيلومتراً وتعتبر من مستشفيات الخط الثالث.
الطبيب المتخصص في جراحة العظام مشهور نحلة من بلدة الطيبة الحدودية، يقول إنه غادر بلدته بعدما غادرها الجميع بسبب القصف والغارات. مضى الطبيب نحلة إلى النبطية وهو يتنقل بينها وبين بيروت. ومثله فعل عشرات الأطباء إذ نقلوا خدماتهم وخبراتهم إلى خارج المنطقة المشتعلة.
سألنا الجراح نحلة عمن يقدم إسعافات الطوارئ للناس القاطنين في المناطق الخطرة، فأجاب أن هناك وجود دائم للهيئة الصحية الإسلامية والدفاع المدني التابع لكشافة الرسالة الإسلامية، وهم يتولون نقل الإصابات أو المرضى إلى المستشفيات الآمنة في حال حدوث أي طارئ، ويسلكون عادة طرقات أكثر أمناً، وينقلون الحالات الواجب نقلها إلى مستشفيات الخط الثاني، كي تبقى المستشفيات الحدودية جاهزة لحالات أكثر صعوبة.
ويؤكد أن تنقل الأطباء والناس على بعض الطرقات للوصول إلى مستشفيات مرجعيون وميس الجبل مشوب بخطر شديد “نحكي عن منطقة شبه مدمرة تمتد من الخيام إلى كفركلا والعديسة والطيبة وحولا وميس الجبل وبليدا وعيترون، وتقع جميعها بين مستشفيات مرجعيون وميس الجبل وبنت جبيل، كذلك الأمر في ما خص عيتا الشعب وجاراتها الواقعة غرباً بين مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل ومستشفيات تبنين وصور”.
أطباء تحت الخطر
غادر الطبيب الجراح هاشم جابر بلدته بليدا التي تعاني دماراً كبيراً، ويؤكد “وجود عديد من الأطباء في المنطقة المشتعلة أمنياً، لكن بلداتهم أضحت غير قابلة للإقامة في هذه الظروف الصعبة والخطرة”.
نسأله عن العيادات الطبية، فيؤكد إقفالها جميعها “وقد نزح الأطباء مثلهم مثل سكان هذه المنطقة نحو أماكن أكثر أمناً في صور والنبطية وصيدا ونحو العاصمة بيروت، منهم من التحق بمستشفيات هذه المناطق، ومنهم من افتتح عيادة خاصة موقتة يستقبل فيها مرضاه النازحين، ومنهم من توقف عن العمل بانتظار انتهاء الحرب”. ويضيف “في الأساس، أبقى معظم أطباء المنطقة الحدودية على عيادات لهم خارج المنطقة، ومرد ذلك إلى انعدام الاستقرار الأمني على رغم الانسحاب الإسرائيلي منها والتحرير الذي حصل في عام 2000”.
مستشفيات للطوارئ
ويؤكد الطبيب جابر أن غالبية العيادات الطبية كانت توجد في عاصمة القضاء بنت جبيل وأقفلت بالتمام “ومن يوجد من أطباء هنا، فيلتحق بفرق الطوارئ في مستشفيات المنطقة. لم يبق هنا غير أطباء الجراحة والقلب والبنج وغسيل الكلى والعظام، هذه الاختصاصات هي المطلوبة في أوضاع الحرب، فالمسؤولية المهنية والإنسانية تحتم على هؤلاء البقاء في دائرة الخطر والالتحاق بالمستشفى”.
الإقامة في المستشفى
ويجري فريق الطوارئ في مستشفى بنت جبيل الحكومي عديداً من العمليات الجراحية “لكن سرعان ما ننقل المريض مباشرة إلى خارج المنطقة، كي تبقى أسرتنا خالية للحالات القصوى والأشد خطورة، وكي تتابع حالة المريض بعيداً من أماكن القصف والخطر وتتمكن عائلته من أن تكون إلى جانبه. حتى نحن عندما نتحرك على هذه الطرقات نرصد الأخبار تباعاً ونستفسر ونراقب الأجواء، فإذا كانت هناك إمكانية للتنقل بين المستشفى وأماكن السكن، أو بين مستشفى ومستشفى آخر، نتحرك، وإلا فنلزم أماكننا.
وعن المستشفيات الأقرب إلى مستشفى “بنت جبيل” والمستشفيات الأخرى التي يمكنها المساعدة في استقبال المصابين في حال لم يعد باستطاعة مستشفى “بنت جبيل” أو “مرجعيون” استقبال مزيد منهم يقول الجراح جابر “نحن اليوم مستشفى طوارئ ميداني، علينا التدخل في المراحل الأولى، أي استقبال المصاب أو المريض، تحديد وضعه الصحي وتقييم الحالة، فإذا كانت تستوجب عملية سريعة، نقوم باللازم، وإن كانت خارج الخطر الشديد، والطرقات آمنة، ننقله إلى مستشفيات الخط الثاني.
أوقات صعبة وحزينة
تمر أوقات طويلة أو أيام قبل أن يلتقي أطباء الطوارئ في المنطقة الحدودية مع عائلاتهم “لكن المهم أن إمكانية التواصل الهاتفية مؤمنة ومستمرة، هي أوقات صعبة نتمنى أن تعبر بأقل خسائر ممكنة، وصارت طويلة، لم يسبق أن استمرت أي حرب فعلية ويومية في جنوب لبنان هذا القدر من الوقت، سابقاً كانت ثمة مناوشات متقطعة، وكنا نعيش بين منطقة تحت الاحتلال المباشر ومنطقة خارج الاحتلال، لكن الأوضاع كانت أكثر انضباطاً”، ويتابع بحزن “بليدا مسقط رأسي، فيها يقع منزلي وبيوت عائلتي وإخوتي، لا تبعد سوى كيلومترات قليلة، لكن لا يمكنني أن أذهب إليها في أي وقت، فقط في أوقات تشييع الضحايا أو الموتى، إذ تكون العملية منسقة مع قوات الطوارئ الدولية (اليونيفل) والجيش اللبناني، ناهيك بما سقط من ضحايا فيها وقد بلغوا 23 ضحية حتى الآن، في مقابل ثلاث أو أربع ضحايا سقطوا في حرب 2006”. ويختم “جهاز الطوارئ في الحروب هم الأطباء والممرضون وعناصر الدفاع المدني، هم أقرب إلى أجهزة عسكرية في حال استنفار دائم، وعليهم ألا يغادروا المنطقة، لكن الحرب طالت كثيراً وخطورتها تكمن في امتدادات لاحقة”.
الخطوط الخلفية
كان مستشفى “النجدة الشعبية اللبنانية” من المستشفيات الأوائل التي قامت في الجنوب والنبطية تحديداً، منذ مطلع السبعينيات، قبل أن تنتشر مستشفيات أخرى، وكانت بداية أقرب إلى مستوصف قبل الثمانينيات حيث شيد أضخم مستشفى في منطقة النبطية والجنوب. وعلى رغم بعدها الجغرافي عن وسط الميدان في المنطقة الحدودية “إلا أننا ومنذ اللحظات الأولى للحرب وضعنا خطة طوارئ تقضي بالاستنفار التام، وأمنا مخزوناً من أمصال وأدوية وتجهيزات طبية وجراحية يكفي مدة شهر كامل في حال تقطعت أوصال الطرقات وحوصرت المنطقة بالنار وبات إيصال الإمدادات الطبية مستحيلاً”، يقول المدير الطبي في المستشفى الدكتور الشفيع فوعاني، مضيفاً “لقد ترافقت الخطة كذلك مع تأمين مخزون من المحروقات يكفي في الأقل مدة شهر لتأمين الطاقة المستمرة. ونحن نجتمع بشكل دوري لتجديد الخطة وتفقد المخزون وإعادة توزيع المهام والمسؤوليات”.
نزوح الأطباء
ويستقبل المستشفى اليوم عديداً من الحالات الجراحية التي كان يمكن أن تجري سابقاً، قبل الحرب، في مستشفيات المنطقة الحدودية، إذ كان ثمة أطباء من النبطية لهم أيام معاينات في مستشفيات مرجعيون وحاصبيا وميس الجبل وبنت جبيل، وكذلك عيادات لأيام محددة هناك “هذه الأمور توقفت منذ سبعة أشهر، لخطورة الوصول إلى هذه المستشفيات، وبات هؤلاء الأطباء يستقبلون مرضاهم هنا، ويجرون لهم عمليات جراحية في حال استدعى الأمر، وقد التحق عديد من الأطباء الجراحين وأطباء الأمراض التنفسية في مستشفى النجدة الشعبية لمتابعة أحوال مرضاهم ممن نزحوا عن قراهم إلى المنطقة، أضف إلى ذلك، لقد افتتحنا في مركز مستوصف النجدة الشعبية في وسط مدينة النبطية مركز خدمات طبية، مهمته استقبال المرضى من أبناء المنطقة الحدودية النازحين ومعاينتهم وتقديم المشورة الطبية والأدوية المجانية”.
ويقطن الطبيب فوعاني في كفر رمان (النبطية) وهو أصلاً من بلدة حولا الحدودية، ويقول “كانت لدي معاينات في حولا، من خلال فرع مستوصف للنجدة الشعبية أقمناه هناك عام 2000، لكن مع تفاقم الوضع الأمني، أقفلناه، إذ بات الوصول إلى هناك مستحيلاً”.
المنطقة الحدودية
وعن أطباء المنطقة الحدودية يقول فوعاني “ثمة أطباء نزحوا مع عائلاتهم إلى بيروت وهم يقيمون حالياً هناك في العاصمة، وبعضهم يعمل في مراكز طبية والبعض الآخر ينتظر هدوء الوضع الأمني كي يعود إلى قريته وإلى حياته السابقة. ويمكننا القول إن الشبكة الطبية التي كانت تنتشر في قرى وبلدات المنطقة الحدودية لم تعد موجودة حالياً بحكم الأمر الواقع، المتمثل بخطر القصف المستمر واستحالة التنقل بأمان على الطرقات ونزوح معظم أبناء المنطقة إلى خارجها، وما بقي في المنطقة من شكل صحي وطبي هو الاستنفار الصحي في المستشفيات الحكومية هناك المحاطة بخطر شديد، مع تفاوت نسبة الخطر بين مستشفى وآخر”.
في ميس الجبل طاولت أضرار القصف الإسرائيلي محيط مستشفى “ميس الجبل” الحكومي فتوقف عن العمل مدة قصيرة، ويقتصر الدوام فيه حالياً على قسم الطوارئ بطبيب أو اثنين، لمعاينة الحالات السريعة قبل نقلها إلى مستشفى آخر، إذ لا يتوافر فيه فريق طوارئ مكتمل نظراً إلى وقوعه في بلدة تعرضت لأكثر من 80 غارة دمرت فيها ما يفوق 100 وحدة سكنية ومتجر.
كامل جابر – اندبندنت عربية