تجميد البويضات.. لبنانيّات يكسرن قيود العائلة والمجتمع والدين
صدى وادي التيم – لبنانيات /
في السنوات الثلاث الأخيرة، نساء كثر اختبرن تجربة “الأمومة المؤجّلة” في لبنان، واحتفاظهنّ بحقهنّ في الإنجاب حين يصبحن جاهزات في المستقبل، بعدما كسرن قيود العائلة والمجتمع والدين.
إذ بدا لافتًا جدًّا، إقبال النساء أخيرًا على تجميد البويضات في لبنان، وهي تقنيّة حديثة، تُستخرج خلالها البويضات من مبيضيّ المرأة، وتُجمّد للحفاظ عليها مدّة طويلة من الزّمن، لتتمّ إذابتها لاحقًا وتلقيحها بالحيوان المنويّ ثمّ زرعها في رحم المرأة، عندما تقرّر الإنجاب، وذلك حتّى بعد انقطاع الطمث، حيث يكون الرحم قادرًا على الحمل، بعكس البويضات التي تتضاءل مع تقدّم العمر.
هي شبيهةٌ بعمليّة “طفل الأُنبوب” التي يلجأ إليها الزوجان عند تعثّر الحمل الطبيعيّ، يقول الاختصاصيّ في الأمراض النسائيّة والتناسليّة والعقم الدكتور شارل نهرا لـ”مناطق نت” ويضيف: “لا تختلف كثيرًا عنها، فالعمليّتان تقومان أساسًا على استخراج البويضات، بفارق بسيط، وهو تجميد البويضات وحفظها لسنوات عوضًا عن تلقيحها فورًا”. وقد ظهر هذا النوع من العمليّات في لبنان قديمًا، قبل نحو عشر سنوات، لكنّها لاقت زيادة ملحوظة وبشكل كبير في الفترة الأخيرة.
عادة ما تلجأ النساء المتزوّجات وغير المتزوّجات (العازبات) إلى خيار تجميد البويضات، لأسباب اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو علاجيّة طبّيّة، والأمثلةُ كثيرةٌ على ذلك، كلجوء بعض النساء إلى هذه العمليّات قبل بدء العلاج الكيميائيّ بسبب إصابتهنّ بمرض السرطان، أو بسبب قرار الزوجين تأجيل خطوة الإنجاب ريثما تتحسّن ظروفهما المادّيّة، أو بسبب معاناة بعض النساء من أمراض وراثيّة مزمنة من شأنها التأثير في عدد البويضات لديهنّ- وتوجد فئة من النساء تعاني في الأصل ضعفًا في مخزون المبيض وهن تحت سن الثلاثين- أو لأنهنّ لم يجدن الشريك المناسب بعد. وعادة ما ينصح الأطبّاء اعتماد هذه التقنيّة من سن 28 وحتّى 38.
يقول نهرا: “غالبيّة النساء اللواتي يُقدمن على هذه الخطوة هم ممّن تخطّين سن الثلاثين من دون الإرتباط، لأسباب اقتصاديّة أو مهنيّة أو دراسيّة أو لعدم إيجاد الشريك المناسب”. وقد أثّرت الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها لبنان منذ العام 2020 إضافة إلى تبعات فيروس كورونا المستجدّ آنذاك، في تراجع معدّلات الزواج في لبنان بنسبة 18 في المئة بين عامي 2018 و2022، وفق آخر أرقام نشرتها “الدوليّة للمعلومات” في العام 2023.
ويؤكد الأطبّاء أن لا انعكاسات صحّيّة لهذه التقنيّة ولا مخاطر تذكر على النساء، كما لا يمكن التكهّن بمدى نجاح العمليّة أو ضمان وتأكيد الإنجاب بنسب معيّنة، لا سيّما أنّ الأمر يختلف بين سيّدة وأخرى. إلّا أنّ تجميد البويضات يشكّل محاولة تلجأ إليها النساء كي تزيد حظوظهنّ في الإنجاب.
“لم يكن سهلًا”
تروي لميا (41 سنة – موظّفة) لـ”مناطق نت” تجربتها مع تجميد البويضات: “استغرقت أقلّ من أسبوعين. وتضمّن العلاج الإبر التي تحفّز الإباضة على فترة 8 أيام، ثمّ إجراء عمليّة سحب البويضات وتجميدها في المركز الذي قصدته في بيروت. ولم يكن هناك أيّ ضرورة للمبيت في المستشفى”.
وتضيف: “أخذ الأمر منّي وقتًا طويلًا من التفكير. وكان صعبًا للغاية، كوني كنت وحيدة في خياري هذا، إذ لم ألقَ الدعم المتوقّع من عائلتي، وعلى رغم ذلك أصرّيت، وأجريت العمليّة قبل ثلاثة أعوام تقريبًا”. وتردف: “قراري لم يكن سهلًا. لكنّني أتقدّم في السنّ ولا خيارات كثيرة متاحة أمامي، وأريد أن أزيد حظوظي في أن أصبح أمًّا في المستقبل”.
ولميا كنساء كثيرات، خضن تجارب وعلاقات لم يكتب لها الاستمرار، تقول: “لا أريد الزواج لمجرّد الزواج، أو بمعنى آخر من أجل الإنجاب فقط. اتّخذت هذا القرار بعد أن أنهيت علاقتي بمن كنت أنوي الارتباط به”.
تجارب مؤثرات
وتتشارك نساء كثيرات مخاوفهنّ، من خسارة فرصة أن يصبحن أمّهات، وقد شجّعت مشاركة مؤثّرات عربيّات وأجنبيّات، تجاربهنّ إلى العلن، أخريات على اتّخاذ قرارات مماثلة. الشابة الجنوبيّة جومانة (29 سنة – لديها عملها الخاص) واحدة منهن، تقول لـ”مناطق نت”: “تعرّفت إلى هذه التقنيّة العام الماضي، بعدما تحدّثت عنها المدوّنة الشابّة جيسيكا قهواتي التي أجرت العمليّة في الإمارات في سن الـ35”. وهي (جومانة) قبل ذلك لم تكن تعلم عن هذه التقنيّة أيّ شيء.
“أودّ أن أجري هذه العمليّة، لكن سأمنح نفسي مزيدًا من الوقت” تعلّق جومانة، وتضيف: “ربّما لسنتين؛ لسببين أساسيّين، الأوّل، أنّ كلفتها مرتفعة جدًا، نحو 5 آلاف دولار، حسبما علمت ولا أعلم إذا كان الرقم دقيقًا. وبالتالي هي خارج أولويّاتي الراهنة. والثاني هو أنّني سأمنح نفسي مزيدًا من الوقت كي ارتبط جدّيًا، فأنا ما زلت صغيرة في السنّ. وفي حال لم ألتقِ بالشريك المناسب، سأجري العمليّة كي لا أفوّت على نفسي فرصة أن أكون أمًّا في ما بعد. فأنا أحبّ الارتباط وتأسيس العائلة”. وعلى عكس لميا فقد لاقت جومانة دعمًا كبيرًا من عائلتها في هذا الخصوص.
تختلف كلفة العمليّة وما يسبقها من إجراءات بين مركز وآخر، ولكنّها تراوح بين 2500 و3500 دولار أميركيّ، يضاف إليها كلفة التخزين السنويّة.
تحدّيات بالجملة
وهكذا، تواجه نساء كثيرات تحدّيات اجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة تمنعهنّ من اتّخاذ مثل هذا القرار، وهذا الأمر يصبح أكثر تعقيدًا كلّما اتّجهنا نحو الأطراف والمناطق البعيدة والمهمّشة، حيث تكاد تنعدم التوعية حيال هذا الموضوع، قد تصل إلى حدّ التابو والمحرّمات التي تفرضها السلطة الذكوريّة والأبويّة، فما بالك بالنسبة إلى غير المتزوّجات اللواتي يواجهن هاجس تمزّق غشاء البكارة عند استخراج البويضات، ما يشكّل ضغطًا مضاعفًا عليهنّ؟
تقول هنا (35 سنة – معلّمة) من إحدى قرى بنت جبيل لـ”مناطق نت”: “لم أكن أعلم شيئًا عن هذه التقنيّة. صودف مرّة، أنّني سمعت صديقتي الممرّضة تتحدّث عنها كخيار ممكن كونها تخطّت عمر الأربعين، ولكنّني لم أصغِ لها، لم أدرك حينها أنّ الأمر يعنيني”. وتضيف :”لم تجرِ واحدة من صديقاتي أو قريباتي أو في بيئتي الضيّقة مثل هذه العمليّة. أعتقد أنّنا نحتاج إلى أن نعرف عنها أكثر”.
وتفتقد الأطراف لمثل هذه المراكز، لأسباب تتعلّق بغياب الإقبال عليها أوّلًا وارتفاع كلفتها وحاجتها إلى تقنيّات حديثة ومتطوّرة وبيئة حفظ محدّدة ثانيًا. لنكتشف أيضًا أنّ هناك شحًّا كبيرًا في المعلومات ونقص في التوعية حيال هذه المسألة، ما يجعل من توفير حملات التوعية والدعم للنساء أمرًا مهمًّا في قرى الجنوب والبقاع والشمال، لكي تصبح معروفة أكثر.
“أكثر قبولًا” لكنّها طبقيّة
“اجتماعيًّا، باتت المسألة أكثر قبولًا” تقول المحاميّة والناشطة النسويّة مايا العمّار، إذ اضطرّ المجتمع أخيرًا إلى الأعتراف بأنّ “للنساء أهدافًا أخرى غير الزواج” وكذلك “بأن يُطبع مع فكرة “تأخُّر” كثير من النساء في الزواج، بمعنى تبدّل معدّل أعمار الارتباط الرسميّ، وانتشارها بشكل أوسع ليس سوى دليل على هذا التغيير المجتمعيّ، وهو أمرٌ إيجابيّ”، على حدّ تعبيرها.
وتضيف في حديث مع “مناطق نت”: “إنّما انتشارها يبقى محدودًا. أعتقد أنّه يتمركز في المدينة، حيث يوجد عدد محدود من المشافي التي توفّرها، وتكلفتها مرتفعة، ما يشكّل عقبات بالجملة أمام النساء الذين يقطنون في الأطراف، في مناطق مهملة، وكذلك لنساء من طبقات عاملة، وأخرى فقيرة، خصوصًا بعد الأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة التي مررنا بها في لبنان”. ما يجعل هذه الخدمة أكثر طبقيّة وتمييزيّة بحقّ النساء، بين مقتدرات وغير مقتدرات.
هذا ما يحيلنا إلى خلاصة، وجود كثير من النساء غير قادرات على التفكير أصلًا في احتمال كهذا، بسبب عدم قدرتهن على الوصول إلى الخدمة أوّلًا، وعدم معرفتهنّ بها ثانيًا، حتّى إنّ بعض المجتمعات الضيّقة والتقليديّة لا تجرؤ على طرح هذا الموضوع على طّاولة النقاش، يحدث ذلك في ظلّ غياب كامل للدعم المطلوب.
وتشير العمّار إلى أنّ “هذه التقنيّة مهمّة جدًّا” لكنّنا في لبنان “لا نزال نحصرها بمؤسّسة الزواج” في حين يتاح هذا الخيار في بلدان أخرى، أيضًا، للنساء الراغبات بأن يصبحن أمّهات وليس فقط المتزوّجات. وهذا “ما يجعل استفادتنا منها منقوصة بسبب العقبات الثقافيّة والقانونيّة التي تمنعنا كنساء منح الجنسيّة وأن نكون أمّهات خارج إطار الزواج” وبالتالي يمكننا القول بإنّها “خطوة باتّجاه الاستقلاليّة الجسديّة إنّما خطوة غير مكتملة ومكلفة جدًّا”.
بين القبول والرفض
“لا أرقام ولو حتّى تقريبيّة لعدد النساء اللواتي خضن هذه التجربة، لكنّ ما هو مؤكّد أنّ الأعداد إلى تزايد مستمرّ” يقول نهرا، ويرجع سبب ذلك إلى “توافر هذه التقنيّة في مراكز خاصّة، داخل المستشفيات وخارجها؛ وهي عادة ما تكون مراكز أطفال الأنابيب نفسها التي تمتلك التقنيّات اللازمة وبنك التجميد. ما يعني أنّ الأرقام تكون خاصّة بكلّ مركز ولا تشمل الكلّ. علمًا أنّ غالبيّة المستشفيات التي يطغى عليها الطابع الدينيّ ترفض تأمين هذه الخدمة الطبّيّة كونها لا تتوافق مع معتقداتها الدينيّة، شأنها شأن أطفال الأنابيب”.
وقد ظهرت حول هذه التقنيّة آراء دينيّة متعدّدة بين القبول والرفض. إذ ترفض الكنيسة في الديانة المسيحيّة عمليّة تجميد البويضات ولا تحبّذها كونها “تخالف إرادة الربّ” الذي يطعم ويمتلك إرادة الخلق، ولأنّ الإنجاب هو ثمرة الحبّ بين الزوجين وليس نتاج علاقات جنسيّة، فيما يجيز الإسلام إجراء التجميد الاختياريّ ضمن ضوابط شرعيّة محدّدة لتكون حلالاً وشرعيّة وجائزة، منها، أن تتمّ بين زوجين، وأن يكون حفظها آمنًا بما يحول دون اختلاطها بغيرها من المحفوظات، وأن لا توضع في رحم أجنبيّة غير رحم صاحبة البويضة، وأن لا تكون لعمليّة التجميد أيّ آثار جانبيّة.