بليدا ثامنةُ القرى السَّبع ونَسيجُ وَحدها

صدى وادي التيم-لبنانيات/

هي بليدا عينُ مرجعيون الأعذب، وجارة بنت جبيل الأقرب، وصخرة جبل عامل الأصلب. تمتاح ماء بقائها من بئرها العميق “بئر شعيب” أو “بير المزرعة” ومن نبع “غاصوتة”، وتستسقي مطر الكرامة والقيامة للبنان وفلسطين من عكوف أبنائها الميامين بين محاريث العمل ومحاريب الجهاد في صلوات الصُّمود والصُّعود والتَجَلِّي. في بليدا زراعةُ يقين وضراعةُ دعاء أن “لا تهِنُوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَوْن”. هذه البلدة العامليَّةُ الشَّاهدة والشَّهيدة منذ العام ١٩٤٨ ما برحَتْ توزِّع أبناءها وتودِّعهم ليخوضوا مع ثلَّةٍ باسلةٍ قليلة من الجيش اللبنانيّ وجيش الإنقاذ العربيّ معركة الشَّرف والتَّضحية والوفاء في المالكيّة، أو ليدافعوا عن حولا. وها هم الأحفاد يستلهمون مآثر الأجداد، فتشخص أبصارهم إلى بيَّاض بليدا وإلى عريضها وكرومها وحقولها السّليبة بدونماتها الثلاثين ألفًا وأيديهم قابضةٌ على زنادِ التَّشبُّث بالأرض حقًّا لا يُغمِطُه نِسيان أو يُسقِطُهُ عُدوان. وقدر بليدا في استلاب أرضها واغتصاب ترابِها [منذ اتِّفاق بوليه الفرنسيّ ونيوكمب البريطانيّ في العام ١٩٢٣على ترسيم حدود انتداب دولتيهما دُوَلَ المنطقة]، شبيهٌ بقدَرِ جارتِها قَدَس (مُستوطَنَة يَفتاح) وأخواتها السِّتّ: النَّبي يوشع (مُستوطَنَة راموت نفتالي)، والمالِكيَّة (مُستوطَنَة ماليكاه)، وهونين (مُستوطَنَتي مسغاف ومرغليوت)، وصلحا (مُستوطَنَتي يرؤون وأفيفيم)، وآبل القمح (مُستوطَنَة يوفال)، وتربيخا (مُستوطَنَات شومرا وإيفن مناحم وكفر روزنفالد وشتولا). بليدا هي قُبلةُ لبنان على خَدِّ فلسطين، وقِبلةُ اللبنانيِّين إلى الأقصى، فهي المسكونة والمحاطة بالأنبياء والقدّيسين من شعيب ويوشع وبنيامين وأبي ذرٍّ الغفاري ومحيبيب لتكون مصداقًا لقول الله عزّ وجلّ في سورة الإسراء:”وبارَكْنا حوْلَه”. وإذا كان اسم بليدا يعني “بيت الولد”؛ فإنَّ وقائعها قد صَيَّرَتْها أيقونةَ البلد الأحلى. وإن كانت بليدا تصغير بلدة؛ فقد جعلَتْها صنائع أهليها وجهَ البلد الأجْلَى. هي في جغرافية لبنان موقعٌ حدوديٌّ ناءٍ، لكنَّها في حِسبانِه وميزانه معادَلةٌ وجوديَّةٌ كبرى، مفادها: أنا أصمد، إذن لبنانُ موجود. هي بلدةٌ قامَت من بين الآبار والينابيع لتغسل وجه الوطن من غبار الأيَّام ورماد الحروب، ولتروي عطشه الكربلائيَّ المزمِن إلى الاستقلال. وقامت قرب كهفٍ، لتؤوي الخائفين يلوذون بأكنافها وأسيافها. وما انفكَّت بليدا من مسجدها العتيق تَؤُمُّ الجنوب في صلاةٍ دهريَّةٍ لا تفتر من شَفْعِ السُّجُود ووِتْرِ الصُّمُود آناء اللَّيل وأطراف النَّهار. أمَّا ناسها، فليسوا عددًا، بل مَدَدٌ من مِداد الضِّياء، يُرابطون في الماضي والحاضر والآتي في جبهة البهاء. ترتسم بليدا في أفق الرُّؤية وجوهًا هي الأعمق رسوخًا في بلاد عاملة، وحكاياتٍ هي الأصدقُ إنباءً بالشَّهادةِ فَنًّا يُعلِّمُنا كيف نتقنُ الحياة. تَنْظِمُ بليدا ملحمتها، فترتجلُ الأزمنة من نثار لؤلؤِها المكنون وتِبرِها وترابِها. يلتقم أبناؤها الموت كأنَّه الماءُ والخُبز، يفتحون نافذةً للهواء ونافذةً للضَّوء، يَتَّحِدون بأرضهم؛ فتَتَجَلَّى بنجيعهم الأحمر وربيعها الأخضر أنصعُ الصَّفحات بياضًا في كتاب الوطن. على وجه بليدا عَذابٌ مُكابِر، وعِتابٌ مكتوم، ونظرةٌ إلى مستقبلٍ أكثرَ إنصافًا، وإلى وطنٍ أقلَّ إجحافًا. تكتب بليدا بأعراس الشُّهداء وفائض الموت والدِّماء مَجْدَها الأثيل، لتَتَوَارى خلف شاشة الأحداث مَكفِيَّةً بالخير ومخْفِيَّةً من عيون العدوِّ والصَّديق. ترسم بليدا بمآثر أبنائها سماءً جديدة على أديم أرضها الطَّهور. ترنو من بخور أجسادهم إلى مواسمها المُخَضَّبة والمُخَصَّبة بأزكى العطاء. تعود معهم إلى جذورها المتعالقة بوصايا الجدود ومنايا الخلود، تستجمع حُطَام البيوت وركام الدِّيار، لتطرق أبواب التَّاريخ: كيف تصير بلدةٌ وطنًا؟ كيف تختصر بلدةٌ قضيَّةً وهُوِيَّة؟ من أجيج نبض قلبها المحموم تُطَمْئِنُ بليدا لبنان واللبنانيِّين، وإنْ اتَّسعَ صدرها للأسلحة والأضرحة؛ فإنَّها ستظلُّ تضَمِّدُ وأخواتها وجاراتها جراح الوطن، وتكفكف دموعه. تصيخ بليدا سمعها المرهف لأصداء العابرين يفرشون أضلعهم في ترابها، لتطلع منه الزَّنابق والبيارق غُرفَةً من فردوس جبل عامل. هي بليدا رَشَّةٌ من ماء الزَّهر وماء الورد على وجه الوطن، ليصحُوَ من غيبوبته وغيابه. هي بليدا، تكتب تاريخنا الآتي من غيابة بئرها ووادي شُعَيبِها، تضيء قناديلها وتُلَوِّحُ بمناديلها، لتملأ محابرَ البلاد بأَمِدَّتِها القانية، وعنابِرَ البلاد بقُطُوفِها الدَّانِيَة. ودِثارُ بليدا من طَيُّونِها وزهر لوزها وطربون تبغها وأكواز تينها وسنابل القمح وحبَّات الزَّيتون، مِعراجٌ لا عِثار فيه، ومِنهاج عيشٍ طَيِّبٍ تجتديه. 

لن يخبُوَ شُعاعُ بليدا، أو يكبُوَ شراعها وهي تتَّخِذُ بوصَلَتَها زنود البواسل الأبطال من خيرةِ رجالها، وقلوب القَانِتَاتِ الصَّابِرَات من صَفْوَةِ نِسائِها، وقبضات أجيالها المُتَعَاقِبة المتلَقِّفة جمر القضيَّة إرثًا وتُراثًا. تحفظ بليدا طريقها وتحافظ على بريقها عاصمةَ مرجعيون من خطوب الزَّمان والحَدَثَان، وعاصفة جبل عامل في وجه الاحتلال. بإرادَتِها المقدودة من سَحَابة الغيث الموعود وصلابة الصَّخر الجُلمود، بسُمرَةِ سواعدِها الحَيِيَّة من غِلالة الشَّمس الَّتي تعانقها مشرقًا ومغرِبًا، تدفع بليدا غائلة البَغي، لتظلَّ في مدى لبنان حاضرةً متوهِّجة، وحاضنةً معنى الانتماء. بليدا بلدةٌ تُحاكي جبل عامل إباءً، وتَفنى في هوى القدس، وتُوَاظِبُ في حضرة الشُّهداء على حياكة الحقيقة وحكاية الحقّ بدمٍ قُدُّوسٍ يجدِّد بين الفَيْنَةِ والفَيْنَة تعبيد دروب الحُرِّيَّة وتمهيد سبل الانتصار، لِتُتَوَّجَ سيِّدةَ هذا الزَّمان الفصل. من يباب بليدا يُبْتَنَى الصَّوَاب، ومن كتاب بليدا يكون الإيابُ إلى أقانيمِها الأسمى، تُربةٍ أَريَحِيَّة وشعبٍ عظيم وانخراطٍ طليعيّ في كتابة الحاضر، وانتسابٍ عريقٍ للثَّورة والفداء. من حجارة بليدا وأنقاضِ عمرانها المهدوم سترتفع عمارة لبنان الَّذي نُحِبُّ ونريد. ألْتَمِسُ بالكتابة لبليدا وعنها مسارب الشَّوق إلى مواعيد الزَّرع والحَصاد. أحاول بالكلمات أن أُوغِلَ في وِردِها وأَتَوَغَّلَ في وَردِها، وأخطُبُ وِدَّ عوسجها وريحانها. أمضي بين بيادرها ومعابرها، عَسَاني أغزِلُ من حرير أحلامها المُؤَجَّلة وسُندُسِ أثلامِها المُبَجَّلة أكمامَ دفءٍ وأيَّام سلام. أغْرَورِقُ في حضرتها بالدُّموع السِّجام، لكنِّي أخلَوْلِقُ أن أحفظها عن ظهر قلب، مُتَهَجِّيًا اسمها وشْوَشات فجرٍ تُشَنِّفُ الأسماع حدَّ السُّهْدِ والوَجْد. من على صخرها تَجَلَّى الصُّبح وصَلَّى، وإليها تَحَدَّرَ المجد وتَمَلَّى. اسم بليدا في خاطر النَّاس دار، بَيْدَ أنَّ اسمها في خاطرها معادلٌ ذاتيٌّ وموضوعيٌّ للقضيَّة والقرار. لقد أولمَت بليدا للوطن أجملَ أبنائها وأنبلهم قرابين بلا حساب؛ فانبثَقَ نورُها رَمْضائيًّا، واندلقَ سَيْلُها عارمًا وانطَلَقَ خَيلُها عَرَمْرَمِيًّا، ومَضَتْ بعيدًا إلى حيث لن ندركها في مقامها العالي. لكنَّنا لن نفارقَها وهي توقدُ دروبَنا بالأمل، وتؤذِّنُ فينا ألا قوموا. حَيّ على الجهاد. حَيّ على خير العمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى