لحّامة وميكانيكيّة وفرّانة نساء قبلن التحدّي ونجحن

صدى وادي التيم – لبنانيات /

لعلّ أبرز تمظهرات الثقافة الذكوريّة المترسّخة في مجتمعاتنا، وتعبّر عنها خير تعبير الأمثال الشعبيّة، تلك العبارة التي تُطلق على المرأة القويّة بأنّها “أخت الرّجَال”، وتعني أنّ فاعليّة المرأة مستمدّة من الرجل، تستلهم القوّة منه وتتمثّل به. بعض النسوة كسرن هذه المقولة ودخلن في مهن كانت حكرًا على الرجال، ولا يخطر ببال أحد من أنّ امرأة ولجت ذلك المجال، وأثبتت جدارتها فيه.

سيبقى تأنيث بعض أسماء المهن كـ”اللحّامة” (الجزّارة) أو “الميكانيكيّة” أو “شوفيرة الڤان” (سائقة) عصيًّا على السمع، لا تستسيغه آذان العامّة، التي اعتادت على “تذكير” ذلك، خصوصًا في مناطق الأطراف التي تحتلّ فيها الثقافة الذكوريّة منسوبًا أعلى من سواها من المناطق المدينيّة.

اللحّامة أم حسن

فاطمة “أمّ حسن” دفعت بها أوضاعها الصعبة الخاصّة إلى أن تكون جزّارة، تمتهن بيع اللحم وتقطيعه. تجزم لـ”مناطق نت” أنّ قرارها لم يكن سهلًا حينما اتخذته، “وكنت صائبة في خياري، وقد خضته بثبات. وبعد أكثر من 15 عامًا من عملي في داخل ملحمتي في حيّ المسلخ في النبطية، نجحت وتفوّقت”.

” اللّحامة” فاطمة أم حسن

داخل ملحمتها تنشغل فاطمة في إعداد طلبيّات الزبائن: تقطّع اللحم، تفرمه، تدقّه، وبات هذا الأمر من يوميّاتها. لقد اعتاد سكّان الحي على السيّدة “الأنيقة” صاحبة الابتسامة الدائمة، تقف خلف طاولتها، تتلقّى طلبيات الزبائن.

لم يكن سهلًا عليها تحدّي مجتمع لا يقبل فكرة أن تكون القصّابة امرأة، ومع ذلك تابعت. تقول: “”لقد فرضت الظروف عليّ أن أعمل لحّامة، كي أساعد زوجي، وحين مرض تولّيت المهمّة بكاملها”.

انتقادات بالجملة لم تسلم منها “أمّ حسن” ولم تبالِ، أدارت لها “الأذن الطرشاء”، لماذا؟ تردّ: “لأنّني آمنت بفكرة أنّ المرأة صانعة المستحيل وما ساعدني على ذلك أنّ زوجي وأبناءنا دعموني”.

تمضي أمّ حسن ساعات طويلة داخل مجزرتها، بعدما ذاع صيتها في الأرجاء، فهي “اللحّامة” الوحيدة في منطقة النبطيّة. تضيف إلى “مناطق نت”: “العمل يزيد من ثقة المرأة بقدراتها، بالإضافة إلى أنّ الظروف المعيشيّة تفرض أن تكون للمرأة كينونتها الاقتصاديّة، والأهمّ من ذلك إنّ العمل مش عيب”.

كسرت “القصّابة” أم حسن بخوضها مهنة بيع اللحوم ذكوريّة المهنة، بعدما كانت ممنوعة على النساء، أو على الأقل تهابها وتخشى الإقدام عليها، مع أنّ هذا الأمر لم يكن واردًا في حساباتها. “كلّ ما فكّرت به هو أن أقف إلى جانب عائلتي، أن أكون سندًا لهم، ولم أعر كلّ من رمى بكلماته القاسية تعنيفًا أدنى انتباه، ما همّني هو كيف أثبت أنّ المرأة لا تهاب أيّ عمل”.

الميكانيكيّة بيرلا شلهوب

من الصعب معرفة نسبة السيّدات اللواتي دخلن إلى مهن موصوفة بذكوريّتها، هي في الغالب حكرًا على الرجال، وكسرن تابو “هيدي شغلة الرجال”، غير أن نسبتهنّ في ارتفاع مستمرّ، وقد ساهمت الظروف الاقتصاديّة الراهنة، وارتفاع نسبة البطالة في دفع المرأة إلى العمل في كلّ مهنة استطاعت إليها سبيلّا، وتجد نفسها قادرة على النجاح بها. وهذا ما طبّقته حرفيًّا بيرلا شلهوب، الشابّة التي قرّرت أن تكون “ميكانيكيّة” تصلح أعطال العربات.

في “كراج” والدها في بلدة صربا الجنوبيّة، تطالعك شابّة لم تتجاوز العشرين من عمرها بطلّة بهيّة، وهي تعمل على إصلاح عطل طرأ في سيارة. هذا المشهد ليس مألوفًا في محترَفات الميكانيك، حيث الغلبة للشباب في هذه المهنة، غير أن لبيرلا رأيًا أخر إذ أكدت لـ”مناطق نت” أنّها ولجتْ هذه المهنة لأنّها تعشقها، “إذ كنت أتردّد منذ صغري على محل والدي أساعده، وحين دخلت إلى الجامعة درست هذا الإختصاص”.

الميكانيكية بيرلا شلهوب تعاين عطلا في سيارة وسط جمهرة من الشباب يتحلقون حولها

تتابع بيرلا: “بداية، لم يتقبّل الزبائن المشهد، حيث كانوا يتساءلون أمامي وفي وجهي “شو ما في رجال؟”، بعدها عدّلوا رأيهم إذ تلمّسوا مهارتي في تصليح الأعطال، فأنا الوحيدة في البلدة التي أعمل على برمجة السيّارات الحديثة”.

تحمل بيرلا مفكّا و”بنسة” (كالكمّاشة)، وبين أيديها كلّ العدة المطلوبة لإصلاح أعطال السيارات، تعمل بثقة، وتكتشف العطل بدقّة، وتثبت أنها سيّدة مهنتها”.

لم تتخلّ عن أنوثتها، ولم تفقدها المهنة بريق وجهها وعينيها، وتردّد: “المرأة هي صانعة المستحيلات، ذكيّة في إيجاد الحل لكلّ معضلة”.

يستشيرها والدها عادة في البحث عن عطل ما، يُفاجأ الزبائن بحضورها، لأنّها كما يقولون: “شاطرة”؛ يأتي هذا بعدما رفض كثيرون منهم إصلاح سياراتهم عندها، ثمّ عادوا ووثقوا بمهارتها.

تغلّبت بيرلا على كلّ الصعوبات التي واجهتها إذ “كان يجب أن أثبت للكلّ أنّ مهارة البنت لا تقلّ شأنًا عن الشاب، بل ربّما تكون أكثر تفوّقًا منه”.

بيرلا تعاين عطلا في سيارة

تتحدّى المرأة اليوم ظروفها الحياتيّة كلّها، أو ما تقدر عليه. تحاول تحطيم القواعد والحواجز، ومن اختارت السير على دروب الجلجلة لن تبالي بالمعيقات والانتقادات التي تطالها أو تطلق باتجاهها، إذا ما وضعت نصب عينيها هدفًا، هو النجاح.

الفرّانة أم علي

لم تتقاعد أمّ علي برغم بلوغها الستّين من العمر. الفكرة غير واردة عندها حاليًّا، ولسانها ينطق بما قرّرته واختارته. ولأنّ “الظروف المعيشيّة لا تسمح بالتقاعد” تقول. تواظب أمّ علي على الوقوف خلف الفرن، تعدّ المناقيش والمعجّنات. لم تشعر يومًا أنّ العمل بات عبئًا عليها، بل تحدّت الصعاب على اختلافها وكذلك المرض، لتؤكّد “أنّ المرأة سيّدة الميادين.”

خلف تجاعيد وجهها تخفي أمّ علي الكثير من الأوجاع، ومع ذلك تستمرّ، همّها أن تبقى في عملها، تواجه صعوبات الحياة. تقول لـ”مناطق نت”: “لا مكان للتعب هنا، نعمل لنعيش، والظروف لا تسمح لنا بالتوقّف”.

لم يدخل قانون الشيخوخة الذي طرحته الدولة اللبنانيّة قبل أعوام حيّز التنفيذ، حتّى الساعة، لم يزل طيّ الورق والأدراج، برغم الحاجة إليه، وأمّ علي واحدة من عشرات السيدات اللواتي يرفضن التقاعد ويتحدّين العمر، لأنّ الأوضاع المعيشيّة صعبة وتضيق أكثر فأكثر، وقانون الشيخوخة هذا لم يدقّ ابوابهنّ بعد، أو يسألهن إذا ما قرّرن التقاعد؟

“الفرّانة” أم علي

تمرّست أمّ علي بالخبز والرقّ والوقوف أمام الفرن ساعات عديدة، مرّ زمن طويل على عملها، تمضي في الفرن جلّ نهاراتها. اعتادت على الزبائن واعتادوا عليها، ولم يعد وقوفها خلف موقدة النار مستغربًا، بعدما وفّقت في عملها ونجحت.

اللحّامة أمّ حسن، الميكانيكيّة بيرلا والفرّانة أمّ علي، ثلاث نساء أقدمنَ على كسر قيود مهن لمّا تزل حكرًا على الرجال. لقد آمنّ بقدراتهنّ، وثقن بأنفسهنّ واقتحمن الميدان، بالرغم من تعرّضهنّ للكثير من التضييق والانتقادات التي تتخذ في بعض الأحيان شكلًا من أشكال التنمّر.

بعض هؤلاء ظلمتهنّ الظروف فقهرنها، وبعضهنّ الآخر قبلن التحدّي، لكن أغلبهنّ واجهن مجتمعًا ظالمًا سيبقى إلى أجلٍ غير مسمّى مجحفًا بحق فئة أساسيّة يقول عنها هو إنّها “نصف المجتمع”.

رنة جوني – مناطق نت 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى