حَذَار مِن أن يَسلُك الذَّهَب طَريق الودائِع

صدى وادي التيم – إقتصاد /

كتب الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر: 

إبتلع ثقب الفساد الأسود الودائع وغابت المُحاسبة فَتَدَحرَجَ البَلَد إلى هاوية سَحيقة مُثقلاً بِقرار حكومَتِهِ عَدَم الالتزام بِسَدَاد ديونه السياديَّة. تَعَدَّدَت أسباب بَقاء لبنان في القَعر وبَقِيَ الانقِسام والتبعيَّة وتَضَارُب المصالح أبرَزَها. قَحِلَت الأرض، فَباتَتْ أنظار المُتربصين شراً شاخصةً على الذَّهَب “المَمنوع من اللَّمس” وباتَ المَشهدُ يُشبه بِرَمزيّتِهِ دوران ذئبٍ مُذعنٍ لغريزة القَتل حول سياج متين يمنعه من تحقيق مبتغاه. فما الأجدى، تحصين السياج أم إقصاءَ الذئب؟

في زَمَنِ الإخفاقات المُتواصلة سياسياً واقتصاديا ونقدياً، يَعود الحديث عن احتياطي الذَّهَب ليُشغل الأوساط بين الحين والآخر. غالباً ما يأتي الحديث عن الذهب في سياق المُقارنة بين ماضي لبنان كبلد رؤيوي، وحاضِرُهُ كَمُستنقع للأزمات. ذَهَبُ لُبنان خيرُ دليل على التفاوت البنيوي العميق بين عهود رجال الدولة وأزمنة وُلاة الفَساد والتَّبعية والزبائنيَّة على حساب الوطن والشَّعب. بدأ لبنان ببناء احتياطاته من الذهب في نهاية أربعينيات القرن الماضي بعد سنوات قليلة من استقلاله وعلى إثر الاعتراف الدولي بعملته وانضِمامِهِ إلى صندوق النَّقد الدولي. كانت للرئيس الراحل الياس سركيس اليَد الطُّولى في رَفع هذا الاحتياطي إلى مراتب متقدمة عالمياً يوم كان حاكماً لمصرف لبنان في ستينيَّات القرن الماضي. استَمَرَّ لبنان بشراء الذهب حتى بداية السبعينيات وتوقف مع فك ارتباط تغطية الدولار وطباعته بالذهب أو ما يُعرَف بـ “صَدمَة نيكسون”. وفي خِضَمّ الحرب الأهلية، أصدَرَ مجلس النواب اللبناني القانون 42/86 الذي مَنَع بموجبه التصرف بالذهب إلا بموجب نصّ تشريعي يَصدُر عن مجلس النواب. حَمَى هذا القانون الذهب في أيام الحرب كما في أوقات السلم المُتقطع وأبعَدَهُ عن مُتَناوَل العابثين والفاسدين. تجدر الإشارة الى أنَّ ثلث احتياطي الذَّهَب اللبناني يَقَع تحت الولاية القضائية الأمريكية لِوُجوده في قَلعة “فورت نوكس”، فيما يَتِمُّ الاحتفاظ بالثلثين المُتَبَقيَين في خزائن مَصرِف لُبنان في بيروت. قَد يَكون التصَرُّف بالذهب الموجود خارج البلاد دونه عَقَبات وإن صَدَر قانون يُتيح الاستعمال إذ أنَّ الولايات المتحدة لا تُفرج عن الذهب بشكلٍ فوري وقد يطول الانتظار لسنوات.

حَجَزَ رجال الدولة للبنان مقعداً “مُذَهَّباً” دائماً بين أبرز دول العالم في الوَقت الذي ارتَقَت به المنظومة الحاكمة المُتَحَكّمَة مُنذ انتهاء الحرب إلى رأس التصنيف لناحية قياس مؤشِّر مُدركات الفساد وإلى قعر التصنيف لناحية الشفافية والحَوكمة الرَّشيدة. نُشير في هذا الإطار الى أنَّ تقرير مجلس الذَّهَب العالمي الصَّادر في كانون الثاني 2024 كَشَفَ أنّ لبنان يملك 286.8 طناً من احتياطي الذهب مما مكَّنه أن يُصنَّف في المرتبة 21 من حيث حيازات الذهب من بين 96 دولة، بما فيها حيازات صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك التسويات الدولية بحسب ما جاء في التقرير. في سياق مُتَّصِل، يُشير التَّقرير نفسه، والذي يرتكز الى بيانات صُندوق النَّقد الدولي، الى أنّ لبنان حَلَّ في المركز الثامن بين 65 دولة غير أعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفي المركز الثاني بعد المملكة العربيَّة السعوديَّة بين 16 دولة عربية شَمَلَها الاستطلاع.

يُقدَّر احتياطي الذهب الذي يمتلكه لبنان بـحوالي 20.4 مليار دولار بعد احتساب المكاسب النَّاتجة عن ارتفاع أسعار الذَّهب منذ مطلع العام الحالي. مع استمرار الأزمة الاقتصادية وانسداد أفاق الحلول، تزداد الخِشيَة من أن يَقَعَ الذَّهَب في أيدي من بَذَّرَ مُقتدرات الدولة والمودعين فيصبح الضَّحية التَّالية ويَكون مَصيرُه الهَدر والسَرِقَة وتمويل الزبائنية. في هذا الإطار، نَتَخوَّف من ألَّا يُشكل مجلس النواب سداً منيعاً بوجه السُّلطة التنفيذية خاصةً إذا تدخَّلَت السياسة كما حَصَلَ في موازنة 2024 وفي غيرها من القوانين المُقَرَّة. بناءً على ما تقدم، وفي ظل انعدام الثقة بكامل المنظومة الحاكمة تشريعياً وتنفيذياً ونقدياً وفي ظل تَعطيل العدالة والمحاسبة، لا يُمكن أن يُشكل الذهب منطلقاً لأي حَلّ في الوقت الراهن بانتظار أن يعود لبنان دولة بعد أن بات شبه دولة بسبب من تعاقبوا على حُكمه.

يَجِب أن يبقى ذهب لبنان بعيداً عن يَد من يحكمون البلد اليوم ليشكّل نواةً للنهوض حينما تحين السَّاعة. في الوقت بَدَل الضائع يواجه الذهب تحديات كامنة متعلقة بتعثر الدولة الاختياري وبخطر مُقاضاتها من قِبَل الدائنين من حملة اليوربوندز وهذا لَم يَحصَل إلى الآن لأسباب قَد تَكون مَشبوهَة.

أليسَ من البديهي أن نسأل: مَن هُم حَمَلَة اليوربوندز ولماذا لم يَتَحركوا باتجاه الدَّولة إلى اليوم؟

استطردا نسأل: هل يَنجَح الطامعون بالذهب بالوصول إليه إن خَلَعوا قُبعاتِهِم السياسيَّة والمصرفيَّة ووضعوا قبعة الدائنين؟

إلى أن يَتِمَّ إقصاء الذئب بل الذئاب، دُمتُم!    

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى