قضاة يتوقّفون عن العمل: راتب 35 مليون ليرة لا يكفينا!
صدى وادي التيم-امن وقضاء/
أقرّ مجلس الوزراء موازنة عام 2024، بعد أيام قليلة من إعلان التوقف القسري للقضاة، وخصّص لوزارة العدل فقط 0.32%. ورأى أحد القضاة الذين وقّعوا على قرار التوقف القسري عن العمل أن «إقرار الميزانية الزهيدة لوزارة العدل المسؤولة عن تأمين رواتب القضاة والمساعدين القضائيين ومتابعة أوضاع العدليات وتحسينها، يدل على الاهتمام السلبي بالقضاة وبالعدلية وبقصور العدل»، مشيراً إلى أن «هذا التعاطي من قبل السلطة التنفيذية يجعل القضاة اليوم يخوضون معركة وجود مع انعدام أدنى مقوّمات الصمود للسلطة القضائية التي تعاني نزفاً منذ ما يقارب خمس سنوات نتيجة الأزمات الاقتصادية والمالية التي تفتك بلبنان منذ عام 2019». وأوضح أن «الهدف من التحرك هو الضغط على السلطة السياسية والتنفيذية وإجبارها على إعطاء القضاة حقوقهم التي لا تعدو كونها حقوقاً طبيعية، تؤمّن حياة كريمة بالحد الأدنى للقاضي، وتسهّل عمله وتمكّنه من البت بالملفات القضائية العالقة أمامه».
راتب القاضي
يتقاضى القاضي في لبنان راتباً يراوح بين 3 ملايين ونصف مليون ليرة كحد أدنى و8 ملايين كحد أقصى (أساس الراتب)، وهو يستفيد مثل موظفي القطاع العام من الزيادة على الرواتب (سبعة أضعاف الراتب)، أي إنه إذا بلغ المعدل الوسطي لراتب القاضي 5 ملايين ليرة فإنه يتقاضى 5 × 7 = 35 مليون ليرة (حوالي 350 دولاراً)، ويتقاضى بعد التقاعد تعويضات نهاية الخدمة وفق أساس الراتب دون الزيادات. ويُمنح القاضي إلى جانب الراتب والزيادات «منحة اجتماعية» تراوح قيمتها بين 500 و1200 دولار وفق درجته، فيصبح الراتب الذي يتقاضاه بمعدل وسطي 35 مليون ليرة + 800 دولار (معدل وسطي للمنحة الاجتماعية)، وبذلك يتجاوز راتب القاضي الـ1000 دولار. المستجد في الموضوع أن هذه المنحة التي اكتسبها القضاة بعد مفاوضات وتسويات بعد الاعتكاف الأخير، توقفت مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولم تُصرف منذ مطلع آب الماضي، ومن غير المعروف إذا ما كان سيستفيد منها القضاة مجدداً، وهو ما دفع إلى قرار التوقف عن العمل.
يتزامن إعلان التوقف القسري للقضاة عن العمل مع بداية العام الدراسي (2023 – 2024)، فصندوق تعاضد القضاة الذي كان يغطّي مبلغ 5 ملايين ليرة أي ما يوازي 3333 دولاراً عن كل ولد (سعر صرف الدولار 1500)، يغطّي اليوم مبلغ 15 مليون ليرة أي ما يعادل 166 دولاراً. وبات القاضي يتحمّل تكاليف الاستشفاء والطبابة التي تُدفع بالدولار في المستشفيات والعيادات الطبية، بعد أن كان يتلقّى الرعاية الصحية الشاملة، ويقدّم الفواتير بعد دفعها ليحصل من صندوق التعاضد على نسبة محددة منها (من 30 إلى 40 ألف ليرة للدولار الواحد)، ويتكفل في حال مرضه أو عائلته بدفع تكاليف الرعاية الصحية الشاملة من جيبه الخاص.
اعتكاف يطيح بمصالح الناس
يتحدث أحد قضاة المحكمة العسكرية عن قرار التوقف القسري للقضاة، مؤكداً أحقية المطالب التي ينادي بها القضاة، لكنه ينتقد مبدأ التوقف عن العمل الذي «يؤثر سلباً على من يعانون في المحاكم وقصور العدل بسبب كثرة الملفات وعدم قدرة القضاة على إنجازها. هؤلاء الناس ضعفاء لجأوا إلى القضاء ليحميهم، فماذا نقول لهم عندما نتوقف عن العمل؟»، موجهاً رسالة إلى زملائه: «الأساس أن تتوجهوا إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس مجلس شورى الدولة، وإلى مدعي عام التمييز والمدعي المالي بصفته رئيساً لصندوق التعاضد، والضغط عليهم ليتحركوا ويضغطوا لإجبار السلطتين التنفيذية والتشريعية على تحقيق مطالب القضاة، أما الاعتكاف فلا ينفع، بل هو مضر ويطيح بمصالح الناس بالدرجة الأولى». وسأل القاضي: «ماذا يفعل رئيس مجلس القضاء الأعلى الرئيس سهيل عبود للقضاة؟ وماذا عن واقع صندوق التعاضد الذي لا نعرف ما له وما عليه؟ ولماذا يستطيع الجيش أن يقدم الاستشفاء لعناصره الذين يبلغ عددهم نحو 90 ألف عنصر، فيما يعاني القضاة أزمة في الاستشفاء والطبابة؟ المشكلة ببساطة أن هناك قائد جيش يتابع أوضاع آلاف العناصر فيما لا يسأل أحد عن أوضاع القضاة».
و لا يعوّل عدد من القضاة على أي نتائج للجمعية العمومية المرتقبة للقضاة بدعوة من المجلس الأعلى للقضاة، إذ «اعتاد القضاة سماع الكلام نفسه في كل مرة»، وأهم من تشخيص الواقع هو اجتراح الحلول السريعة التي تعالج مشكلات القضاة.
إهمال مادي ومعنوي
يُجمع عدد من القضاة الذين التقتهم «القوس» على أن التوقف القسري للقضاة هو «صرخة محقّة في ظل ما يعانونه اليوم من تهميش وإهمال لأبسط حقوقهم، ليس فقط على الصعيد المادي وإنما على الصعيد المعنوي أيضاً. فكيف يمكن للقاضي أن يقوم بعمله ويحكم بين الناس، وهو يفتقر لأدنى مقومات الصمود؟». ويسأل قاض مضى على تعيينه أكثر من عشرين عاماً في السلك القضائي: «ماذا يفعل القاضي الذي لا يكفيه أساس راتبه لسداد فاتورة اشتراك الكهرباء، ولا يمكنه أن يعمل في وظيفة ثانية كما يفعل موظفو القطاع العام الذين سُمح لهم بذلك؟».
تتجاوز المشكلة، وفق آراء القضاة، المطالبة بالمنح الاجتماعية والمدرسية والاستشفاء والطبابة التي تُعدّ جميعها حقوقاً أساسية للقضاة لا يفترض المساومة عليها، وتكمن في «الإهمال الذي تعيشه السلطة القضائية في هذا البلد»، مشددين على أن استقلالية القضاء عن السلطة السياسية هي المدخل الأساس لإحداث أي إصلاح في القضاء اللبناني.
قصور العدل
يشبّه أحد القضاة واقع هذه القصور بالأمراض المزمنة التي لا يوجد لها حل سوى المسكّنات، مشيراً إلى أنه حصلت بعد الاعتكاف الأخير محاولات بسيطة لتحسين الوضع في ما يتعلق بالصيانة والمستلزمات الأساسية للعمل، ولكنها كانت خجولة ولم تستمر سوى لفترة قصيرة، ولم تحظَ كل قصور العدل بهذه الخدمات، «تحديداً قصر بعبدا لا يصلح للحياة البشرية بسبب وضعه السيئ». تبقى مشكلة قصور العدل الأكثر حضوراً في أي ملف يفتح (راجع «القوس»، 22 تشرين الأول 2022، «قصور العدل خاوية»).
«أصعب شي لمّا بدك تبرم على ملف وما تلاقيه، أكثر من سنة والملف مش معروف وين موجود، وخيي موقوف، وأخيراً طلع الملف عند القاضي بالبيت ومش عارف فيه، كتير ظلم لما مصير بيتعلق بإمضاء والقاضي مش حاسس بالوجع… يمكن هوي عم بيعاني بس يلي موقوف مش متل يلي برّا» يقول أحد أهالي الموقوفين عن تجربته المريرة مع أحد القضاة.
يحضر أغلب القضاة إلى مكاتبهم في قصور العدل بمعدل يومين في الأسبوع، قد يكون ذلك غير كاف لإنجاز الملفات القضائية العالقة أمامهم والمتراكمة منذ الاعتكاف السابق، فيما المواطنون عالقون في دهاليز العدليات، لا يعرفون لطريق الخلاص سبيلاً، فالقاضي ربما يحضر اليوم ويغيب في اليوم التالي، بلا حسيب أو رقيب. ما جعل «اللجوء إلى المحاكم الخيار الأخير أمام المتقاضين لأنه لا قضاء لمن تنادي!»، ليتشكل وجه جديد من انهيار القضاء في لبنان (راجع «القوس»، 22 آب 2022، «انهيار القضاء»).
العنيسي: مع القضاة في قرارهم
يتحدث الرئيس السابق للغرفة السادسة لمحكمة الاستئناف في لبنان الشمالي القاضي السابق فادي العنيسي لـ«القوس» عن أوضاع القضاة الصعبة، وهو الذي غادر السلك القضائي بناءً على طلبه بعد صدور مرسوم إنهاء خدماته في 18 نيسان 2023، ويقول إن القضاة يعملون في لبنان في ظروف تفتقد لأدنى مقوّمات العمل، «فكيف يمكن للقاضي أن يعمل دون كهرباء أو مستلزمات أساسية، بلا أقلام وأوراق»، مضيفاً أن العدليات تعاني من الإهمال المزمن، وكذلك القاضي يعاني في هذا الوضع الصعب.
وحول قرار التوقف القسري لعدد من القضاة، أعرب العنيسي عن تأييده لهذه الخطوة، إذ لم يعد أمام القضاة سوى هذا الخيار، فهم «لم يعتكفوا بل اضطروا تحت وطاة المعاناة والحاجة للتحرك من أجل الضغط لتحصيل أدنى الحقوق، ولو أنني ما زلت قاضياً، لكان اسمي بالتأكيد بين أسماء الذين وقّعوا على هذا القرار».