خمسة لا يمانعون إلغاء لبنان

صدى وادي التيم-لبنانيات/

أكثر من 200 كيلومتر، يجتازونها بأمان واطمئنان. يعبرون خلالها أكثر من أربع دويلات، ليصلوا إلى لبنان بالآلاف. اسمهم نازحون.

في الوقت نفسه، وفي مكان ما جنوباً، عشرات الآلاف من أكثر أهل الأرض بؤساً، في أكثر بقاع الدنيا اكتظاظاً، يعيش المنكوب منهم بأقلّ من دولارين ليومه. لكنّهم يمتلكون مئات آلاف الدولارات لحرقها على ذخائر وأسلحة، تحرق آخر ما بقي من هويّتهم، على أنّهم لاجئون.

هل من علاقة بين الطرفين، من عكّار إلى عين الحلوة؟

بالتأكيد. فالعلاقة السببية باتت واضحة، بين خمسة عوامل متقاطعة، كلّ من جهته، على أن لا ممانعة حيال إلغاء هذا الـ”لبنان”.

أوّل العوامل حسابات الحزب. قبل أسابيع كانت مداخلة مطوّلة عميقة، لنائب الحزب ومفكّره السوسيولوجي ربّما، علي فياض، في “بيئة صديقة”. تحدّث عن هواجس الجماعات في لبنان. وشرح كيف أنّ هواجس الحزب وبيئته “وجودية”.

لا مكان له ولها إلا لبنان. لا وطن ولا دولة ولا هويّة أخرى يمكنهم اللجوء إليها.

ليس للحزب خيارات أكبر من لبنان الحالي، ولا أصغر منه.

لكن أيّ لبنان بأيّ نظام وأيّ صيغة وأيّ نموذج في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرّيات والدور والوظيفة؟

خصوم الحزب يرون في سلوكيّاته العامّة، وتحديداً في تصرّفه السياسي، شيئاً من اللامبالاة بهموم الآخرين. هو الأقوى على الأرض. وبالتالي هو من يفرض خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يكون لبنانكم كما أريد وأقول وأملي. وإمّا أتركه وأترككم لفراغ مستدام، بعده فوضى لا يدوم معها شيء ولا يقوم بعدها شيء. باستثناء قوّتي وقوّة بيئتي القادرتين وحدهما على الصمود.

هكذا بين لبنان كما يريده الحزب، وبين الفوضى المطلقة، كما ينذر بها عدم الامتثال له، يعتبر خصومه أن لا مكان ولا حياة ولا أولوية للبنان الأصلي الأصيل.

انحطاط النخب المارونية

ثاني عوامل احتضار الوطن، يجسّدها المسيحيون. وتحديداً الموارنة. وبالأخصّ زعماؤهم، بحسب قراءة خصومهم.

باختصار شديد موزّعون هم اليوم بين وريث ميشال عون وبين سمير جعجع وبينهما بكركي ومتفرّقات. منذ 35 عاماً اختُصر المشهد هكذا واختُزل.

خصوم باسيل يرون أنّ حساباته جليّة: كيف أبقى حيّاً في السياسة بأيّ ثمن؟!

الجواب أوضح. إمّا أن أكون أنا الرئيس، مباشرة أو عبر دمية من الدمى الطافرة بكثرة في زمن انحطاط النخب المارونية الحزبية، وإمّا ترك الأمور للفراغ والشغور والفوضى المطلقة.

ما حدودها وسقفها أو قعرها؟ أن يسقط البلد؟ حسناً يحصل. عندها يسيطر حليفي الحزب ويربح وأربح أنا معه شريكاً زاعقاً كما حالي دوماً…. هكذا يُتّهم باسيل من خصومه وكثير من حلفائه أيضاً.

جعجع من جهته لا يقلّ اتّهامه. صار الرجل في الثلث الأخير من نضاله الطويل. لا رئاسة في الأفق الشخصي ولا أحلام كبيرة ولا أوهام. بقي هذا الاستحقاق الرئاسي أمامه. بعد خيبات وخبطات منذ 1988 والرهان على رفض الرئيس المفروض سوريّاً، والنوم على ورقة حكومة استقلال مطويّة في جيب أمين الجميّل يومها….

تكرّرت النكسات والأزمات ولم يعد من وقت في العمر والبلد لتكرار لا يعلّم. اليوم إمّا رئيس قادر على حدّ أدنى من توازن، وإمّا بلد بلا رئاسة ولا حكومة ولا مجلس. ولتذهب الأمور على الأرض إلى شيء من “مناطق حرّة”. لا مسيحية صافية إطلاقاً. بل مناطق تضمّ جغرافياً وديمغرافياً كلّ من يرفض سلاح الفرض والقمع والاستبداد والقتل واللادولة.

وليكن التمهيد بترك أصوات جانبية تعلو. من فدرالية إلى “سيادية” إلى “مسيحية”….

تماماً كما زمن الجبهة اللبنانية، أو زمن مكتب التنسيق بالصيغة العونية.

خصوم جعجع يتّهمونه بأنّه عاد للتفكير: أما كان لبناننا في مفهومه التأسيسي، فكرة حرّية ثابتة في التاريخ، ومتغيّرة في الجغرافيا؟

ها هو التاريخ يعيد المفهوم والجغرافيا تكرّر الواقع….

اللاوزن السنّي.. وفتح الحدود

ثالث العوامل، ما يجري بين ما كان زعامة الحريري، وما انبثق من انكفائها أو صمتها أو محاولاتها اللعب من خلف الستار، كما تُتّهم هي أيضاً.

هنا كذلك يقول الخصوم إنّ هذا اللاقرار وهذا اللاموقف وهذا اللاوزن هي في حدّ ذاتها خطّة ورؤية.

إنّه تفكير في أن لا دور لنا في هذه التركيبة كلّها، ولا تأثير ولا وزن ولا وظيفة. فلنتركها تتداعى وتنهار وتسقط وتتدمّر. بعدها أسوأ ما ينتج منها أفضل لنا من واقعنا اليوم فيها.

علّ الداخل الذي انقلب على تسوياتنا يدرك أيّ خلل ارتكبه حين استسهل ضربنا. أن لا بديل للتوازن الذي نقيمه للبنان ومحيطه وعروبته…

هذه ثلاثة من العوامل المبنيّة على اتّهامات الداخل. فماذا إذا ترافقت وتطابقت مع عاملين محاذيين؟

سوريّاً، كان النظام، بعد عشريّة من الدم والرصاص ومراكمة النقاط والجثث، قد اطمأنّ قبل أشهر إلى نجاته. زاره زعماء عرب وشارك في قمّة وقمم. وأُضيف إلى مصادفات نجاته اتفاق بكين. وحاور واشنطن من مسقط إلى الدوحة… وكاد يعتبر أنّ زمن وليد المعلّم وإدوارد دجرجيان قد عاد أو سيعود.

فجأة تغيّر كلّ شيء: ضغط أمنيّ في الشمال والشرق. ضغط شعبي تكويني تأسيسي في الجنوب. انهيار ماليّ لامس المجاعة الشاملة. وضغط عسكري إسرائيلي يوميّ يشير إلى الكثير. فيما الرفيق فلاديمير بوتين غارق في دماء طبّاخه السابق. والأخ القائد للثورة في طهران يقبض سلفاً عن كلّ خدمة.

لم يبقَ أمام نظام دمشق إلا الردّ. وأوّل الردود من لبنان. افتحوا الحدود. خصوصاً للشباب المدرّبين المندمجين مع بيئات لبنانية معيّنة، ولنترك الآخرين يتحمّلون التبعات…

أسوأ احتمال سقوط لبنان الراهن؟ وأين المشكلة والهمّ والقلق سوريّاً؟

أيّ بديل آخر سيكون أفضل لنا. وأيّ تسوية لركام هذا اللبنان، سيكون لنا فيها نصيب. هكذا علّمنا تاريخ بعثنا، منذ 1976 حتى 1990، حتى هفوة أو سهوة 2005…

في المقلب الآخر من البلد ثمّة عدوّ. وبالتالي فهو لن يكون أرحم من صديق أو شقيق أو من أبناء البلد أنفسهم.

إسرائيل: حدود آمنة… وغاز

في الجنوب عدوّ باتت حساباته محصورة محدّدة وشبه معلنة: بيني وبينكم أمران اثنان لا ثالث لهما. أمن الحدود بيننا. واستخراج ما في البحر الذي وهبتموه لنا مشكورين. كلّ الباقي صار زجلاً لبنانياً خالصاً. فالقضية منذ 75 عاماً كانت كلمتين: حدود آمنة. اليوم وقّعتم أنتم على ذلك. وصار توقيعكم معاهدة دولية مسجّلة وموثّقة ومنشورة أممياً.بقي أن نتّفق على استقرار هذا الوضع. من يضمنه؟ الحزب لأنّه الأقوى على الأرض؟

فليكن. لنعطِ لبنان كلّه للحزب، ولنرتح.

فكرة قديمة أصلاً ومكرّرة. مع الأسد الأب طرحنا عليه منتصف التسعينيات ضمّ لبنان رسمياً وقانونياً. وكتب يومها أوري ساغي الطرح في 90 صفحة. خذ لبنان قانونياً حتى، لا كمجرّد أمر واقع، وأعطنا الحدود الآمنة، أو كلّ القضية.

الطرح ممكن التكرار اليوم. والأقدر على تحقيقه الحزب طبعاً. كيف يمكن لنا مساعدته؟ بسقوط لبنان الحالي القديم البائد البالي؟ فليكن. وسنبلغ حلفاءنا بالأمر، للمساعدة…

هكذا هي صورة الوضع فعليّاً اليوم. انطباعات أو قراءات أو اتهامات لخمسة أطراف، متقاطعة على إنهاء ما كان لبنان. أو على الأقلّ غير ممانعة لحصول ذلك، كنتيجة مباشرة لأحلام وأهداف كلّ منها.

قد لا يعجب هذا الكلام أحداً. لكنّه حتماً لا يجافي حقيقة ما يحصل وواقع ما نشهد.

ومن كان حريصاً على التكذيب، ما عليه إلا الذهاب إلى انتخاب رئيس، يعيد باسمه وصفته وتاريخه وحاضره ورمزيته ومشروعه، بعضاً من الانتماء لهذا الوطن.

وإلّا فاسمحوا لنا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى