“يا مشحرين”المثل اصبح حقيقة في الكفور بسبب معامل حرق الإطارات
صدى وادي التيم-لبنانيات/
كان الجنوبيون فيما مضى، إذا وقعت عليهم مصيبة، أو قضى لهم أحد، “يشحّرون” أنفسهم بأن يلوّنوا وجوههم وثيابهم بالفحم الأسود، بطيب خاطر، إعلانًا للحداد. وطبعًا، تلك عادة مشرقية قديمة اندثرت، وبقي منها التعبير الذي يجري على ألسنة أبناء الجنوب اليوم “يا مشحّر”، و”يا مشحّرين”، بمعنى “يا مصيبتنا”. سخرية القدر أنّ هناك من “شحّر” الجنوبيين اليوم عن قصد، ورغمًا عنهم، في جريمة بيئية انفجرت بعد طول اعتمال.
يوم الخميس 24 تموز الماضي، استيقظ أهالي بلدة الكفور على ريح سوداء خرجت من معامل تذويب الإطارات في بلدتهم، ولوّنت بيوتهم بـ “الشحتار” بعد أن اقتحمتها من الأبواب والشبابيك والمناور. اشتعلت باحة أحد تلك المعامل، حيث تخزّن آلاف الإطارات بشكل مكشوف وخارج أية معايير بيئية، إثر إقدام معمل “طهماز”، على رمي الكربون الناتج عن حرق الإطارات في باحة معمله قبل تبريدها، ما أدى إلى تكوّن سحابة دخان أسود هائلة. حدث ذلك عند منتصف الليل، خارج حتى أوقات العمل المعلن عنها، وفيما كان المعمل يكثف عمله من أجل تسريع عمليات الحرق، تعظيمًا للأرباح المادية.
وفي الكفور 3 معامل لإحراق إطارات السيارات تنفث سمومها على القاطنين في البلدة منذ 3 سنوات، ولم تنجح مناشدات الأهالي حتى اليوم في إخراجها، رغم أنّ ملفاتها القانونية غير مكتملة، وتعمل خارج أية معايير علمية وبيئية، ومن دون رقابة. إلّا أنّ الوضع اختلف صباح يوم الخميس نفسه، حين نفد صبر الأهالي واقتحموا المعامل، متّخذين قرارهم برفع الصوت ووقف مسلسل القتل البطيء، بأيديهم. على الأثر، أقفل معملا الخنسا وطهماز المتجاورين بالشمع الأحمر بقرار من قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر، وتوقّف المعمل الثالث (معمل تاج الدين) عن العمل طوعيًّا. ويدرس المدعي العام البيئي في النبطية حاليًا شكوى مقدّمة من البلدية ضدّ معمل طهماز فقط، بينما يطالب الأهالي بإقفال المعامل الثلاثة وإزالتها من بين بيوتهم.
ولكن معاناة أهل الكفور أقدم من 3 سنوات، فهي بدأت قبل 12 عامًا مع عشرات مكبّات ومحارق النفايات والكسارات والمصانع والمسالخ، إلى درجة أصبح وادي الكفور مكب نفايات لـ 85% من قرى اتحاد بلديات الشقيف، والقناة الرئيسية لتصريف مياه الصرف الصحي من مدينة النبطية و20 قرية أخرى، إذ أنّه ونتيجة شبه تعطّل محطة معالجة مياه الصرف الصحي تذهب معظم هذه المياه إلى المياه الجوفية أو مع المجاري الموسمية نحو البحر.
الأسود لا يزول
وصلت آثار الغبار الأسود في صباح 24 تموز إلى بيوت تبعد 10 كيلومترات عن المعامل، إلّا أنّ أضرارها تركّزت في قرية الكفور، حيث تنتشر المعامل في وديانها وعلى تلالها، وتحيط بها بيوت الأهالي ضمن مسافة لا تزيد عن 700 متر. اسودّت الدنيا في تلك البلدة الجنوبية، وغزا الكربون الأسود حتى أسرّة الأطفال، ودخل أجساد الأهالي وعلق على جلودهم وفي رئاتهم. تقول أنيسة ناصيف، وهي سيدة كفورية في الستين من عمرها، “طار عقلي من المنظر، ما شاهدناه لم يكن مجرّد شحتار، بل أشبه بمواد كيميائية لا تزول بالماء والصابون”. وتضيف هي الناجية من سرطان الجلد أنّ “رؤية هذه المواد المسرطنة على أجسام أولادي وأحفادي أثار الرعب في قلبي”.
تجربة أنيسة، صباح “الخميس الأسود” تكرّرت على ألسنة كلّ من التقيناهم في الكفور، بقايا المواد السوداء لا تزال منتشرة داخل البيوت وخارجها، هناك من تقول إنها نجحت في إزالة الكثير منها من منزلها باستخدام الكاز، وهناك من لم تنجح بعد: “هذه المواد شديدة الصلابة، لا نزال نحاول إزالتها من زوايا بيوتنا وعن أظافرنا وأظافر أطفالنا، هذا موت أسود، نحن يتمّ تسميمنا كلّ ي وم”.
على مدى ساعات، ظلّ أهالي القرية يبصقون كتلًا سوداء صغيرة، هي مواد تسرّبت إلى أجسادهم عبر الاستنشاق، فيما عانى كثيرون، لا سيّما الأطفال، من عوارض إسهال شديد وغثيان. الأضرار لم تقف عند الصحة، بل كان لهذه المجزرة أضرار مادية بالغة. رمت أنيسة بكامل مونتها التي تعتاش من بيعها، وتؤمن حاجاتها منها لعام مقبل: “هيدا خراب بيوت”، تقول أنيسة والدمعة في عينها، فيما تحكي بتول كيف أنّ حليب الأبقار كان “مطعمًا” واضطرّت إلى تلفه، نتيجة التلوّث، بينما أمكن بالنظر توثيق تضرّر الأشجار المثمرة التي غطّتها طبقة سوداء. وقد وثق ابن البلدة حسين ياسين تلف موسم الأفوكادو في بستانه الذي يبعد عن المعامل حوالي كيلومترين، بفعل المواد السامة التي أتلفت الثمار وغطت أوراق الأشجار مهددة بيباسها.
والأسود الذي غزا البيوت عهده أهل القرية على مدى سنوات وقد غيّر حياتهم وأمرضهم. فيحكي أبو عباس صفا هجرانه كروم التين والزيتون التي يبست بفعل قربها من المعامل (تقع على بعد 500 متر عنها)، وتروي زوجته كيف أنّ حليب أبقارها كثيرًا ما يكون غير رائب “بسبب تناول الأبقار لعشب مسموم”.
أما الأمراض فحدث ولا حرج، إذ يؤكد طبيب في مستوصف البلدة أنّ معدلات السرطان في المنطقة مرتفعة، إضافة إلى الأمراض الصدرية. فتحكي بتول عن معاناة أولادها مع حساسية الجلد واحمرار العينين على مدى السنوات القليلة الماضية، وهو ما أرجعه طبيب العائلة إلى التعرّض المستمر لدخان إحراق الإطارات. وتشير بتول إلى أنّ حساسية أولادها الشديدة كانت تترافق مع عوارض إسهال واستفراغ ما أدى إلى فقدانهم الكثير من وزنهم.
وأضرار المعامل ومخاطرها موثقة في تقارير طبية وبيئية وأمنية عدة ظلّت حتى اليوم في أدراج البلدية والوزارات المعنية، من بيئة وصناعة، لولا أنّ صرخة الأهالي في 24 تموز كانت أعلى من محاولات كتمها. فقد سبق أن صدر قرار عن وزارة الصناعة بإقفال معمل طهماز (يحمل رقم 8672/ت)، لم يصمد كثيرًا قبل أن يستحصل الأخير على موافقة لإعادة العمل. بدورها جولة لوزير البيئة في نيسان 2022 حملت وعودًا بمعالجة الانتهاكات البيئية في المعامل ومحيطها، وقرار بتكثيف الدوريات الأمنية، لم تطبق. ويوثق هذه الانتهاكات أيضًا تقرير بيئي من إعداد الخبير والاستشاري البيئي ناجي قديح سُلّم إلى رئيس البلدية في 24 تشرين الثاني 2022، ونستعرضه لاحقًا ضمن هذا التقرير.
70 شاحنة إطارات يوميًا وعشرات الحرّاقات
حط أول معامل حرق الإطارات في الكفور في نهاية عام 2019، وقد بدأ بمحرقة واحدة سرعان ما زاد عددها قبل أن يُبنى معمل ثانٍ ملاصق منتصف عام 2020، ثم معمل ثالث انطلق العمل فيه قبل 6 أسابيع من اليوم. نتحدث هنا عن ثلاثة معامل إذًا، الأوّل يعرف بـ “معمل الخنسا”، نسبة إلى صاحبه محمد يوسف الخنسا، وهو الأكبر حيث وصل عدد الحراقات فيه إلى 14، وتظهر إفادة عقارية اطّلعت عليها “المفكرة القانونية” أنّ للخنسا ثلاثة شركاء تملّكوا معه العقار في 19 شباط 2019، هم: محمد حسين علي كركي، موسى غريب مكي ومصطفى خليل حرب. أما المعمل الثاني فهو قائم على أرض اشتراها رئيس بلدية كفرتبنيت فؤاد اسماعيل ياسين، ويشغّل حراقاته عباس طهماز، فيما الثالث، والمعروف محليًا بمعمل آل تاج الدين، فيشغله أصحاب معمل الخنسا، ويبعد عن معملهم الأول 1500 متر.
وتقوم المعامل بتذويب الإطارات وفق تقنية الانحلال الحراري، التي يتولّد عنها منتجات ذات قيمة يتم بيعها وتحقيق أرباح مادية هائلة منها، وهي: وقود غازي، وزيوت نفطية بتركيب متمايز تشبه زيت الفيول من الدرجة الثانية، وفحم (الكربون الأسود) والفولاذ هذا ويقدّر عدد الشاحنات التي تدخل القرية يوميًا ناقلة الإطارات المستعملة بـ 70 شاحنة، تنقل الإطارات بشكل مكشوف تحت أشعة الشمس ومن دون شوادر تغطيها، ما يخالف القانون والمعايير البيئية ويجعل منها ملوّثات جوالة بين البيوت، حيث تتبخر مواد سامة من هذه الإطارات خلال نقلها.
ومن المثير هنا معرفة أنّ معمل الخنسا، أول المعامل التي حطت في وادي الكفور، لجأ إلى وديان البلدة مطرودًا من قرية برعشيت، حيث انتفض السكان ضده.
يتبرّأ رئيس بلدية الكفور خضر سعد من مسؤوليات بلديّته في ضبط المخالفات البيئية للمعامل المقامة ضمن نطاقها، مجيبًا على أسئلتنا بحذر شديد واقتضاب، ومكرّرًا أنّ “هناك من يريد الاصطياد بالماء العكر في هذه القضية”. بعد كارثة الخميس، وشكوى البلدية ضد معمل طهماز فقط، مبقية معملي الخنسا وتاج الدين (اللذين يشغلّهما الخنسا) خارج رادارها، يشير سعد إلى أنّ معمل الخنسا “يتقيّد بما تطلبه منه البلدية”، مقدّمًا “الالتزام بدوامات العمل” كحجّة تدعم أقواله، رغم إقراره بأنّ “المعامل ملفاتها القانونية ورخصها غير مكتملة”. لكن أزمة المعامل تتعدى بكثير تفصيل ساعات العمل، فالتقارير البيئية وشهادات الأهالي تؤكّد أنّ المعامل الثلاثة متورّطة في مخالفة المعايير البيئية. ويتحدّث الأهالي عن مصالح مباشرة لرئيس البلدية مع الخنسا، اتهامات يرفضها رئيس البلدية بشكل قاطع.
المفارقة الطريفة هنا أنّ شكوى البلدية ضد طهماز طالبت بـ 5 آلاف دولار “بدل العطل والضرر اللاحق بالبلدية نظرًا للأضرار المعنوية التي لحقت بها جراء تهجّم المواطنين”، فيما الخسائر المادية الفادحة تحمّلها الأهالي الذين تلفت مونتهم وضربت المواسم في بساتينهم، والأهم الأضرار الصحية والمعنوية التي لحقت بهم ولم تجد حتى الساعة من يعوّضهم عنها.
وطوال 3 سنوات، اشتكى الأهالي مرات ومرات من دخان هذه المعامل، والروائح التي تنفثها عليهم. يقول من التقيناهم إنّ مشروع المعامل تمّ جلبه إلى قريتهم تحت عنوان “معامل إعادة تدوير بتقنيات صينية”، وإنّ ترويج البلدية له كان واضحًا، باعتباره مشروعًا “إنمائيًا” للقرية.
تعبّر الحاجة إيمان عن غضبها الشديد لما تعتبره “خديعة سوق لها تحت عناوين بيئية، ومع توزيع الكثير من الأموال والمساعدات لشراء صمت الناس”. ولم يتمكّن الأهالي يومًا من زيارة هذه المعامل المغلقة بوجههم، وهم لم يعرفوا بحجمها وعدد حراقاتها الكبير إلّا إثر اقتحامهم لها يوم 24 تموز مدفوعين بغضبة الاستيقاظ على بيوتهم وأرزاقهم التي أكلها السواد.
التقارير البيئية أكّدت خطر المعامل
يفيد هنا الرجوع إلى التقرير البيئي الذي اطلعت عليه “المفكرة”، والصادر عن الخبير والاستشاري البيئي قديح، والذي يذكر بوضوح في خلاصاته أنّ عمل معملي الخنسا وطهماز (الذين حصر عمله بتقييم أوضاعهما) ينتج عنه “تأثيرات سلبية واقعية ومحتملة على البيئة ومخاطر على السلامة العامة”، مع وجود مخالفات فادحة في معمل الخنسا بالتحديد.
يبدأ تقرير الخبير البيئي بالتحذير من تخزين الإطارات في باحات مكشوفة، بما يؤدّي إلى تبخّر مواد عضوية طيّارة “وهي ملوّثات خطيرة للهواء، والتأثير السلبي لهذه العملية كبير”، إضافة إلى خطر اندلاع حريق “ما يؤدي إلى تهديد السلامة العامة والتسبب بكارثة مترافقة بانبعاثات ملوّثة من الغازات والجزيئات عالية الخطورة على البيئة والصحّة العامة”، ويؤكد التقرير أنّ “هذا الخطر كبير”. ومن اللافت في التقرير أنّه وبحسب الخبير البيئي، تزيد المخاطر في معمل الخنسا لناحية الوقود المستعمل في تسخين المفاعل، حيث يتم استعمال خليط من النفايات الخشبية ونفايات خشبية معالجة بمواد كيميائية وبقايات نفايات من الاسفنج الصناعي وأوراق معدنية ونفايات بلاستيكية ونفايات أخرى “يصنّف عدد كبير من مكوّناتها بأنها ذات مخاطر كبيرة على البيئة والصحة العامة”.
توثق جمعية “الجنوبيون الخضر” في تصريح إلى “المفكرة” “غياب الرقابة” على عمل معامل معالجة الإطارات المطاطية في وادي الكفور، التي هي “معامل غير مستوفية الشروط بدليل الانبعاثات الخطيرة المنبعثة عنها”، فضلًا عن الحرق المتواصل للإطارات خارج المعمل التي تستفيد منها مجموعات تبيع النحاس، والتي جرى توقيف عدد من أفرادها بناء على إخبارات إلّا أنّها واصلت نشاطها حتى اليوم. وتعلن الجمعية وادي الكفور “منطقة منكوبة بيئيًا”.
حراك قديم ضدّ معامل النفايات أجهضته القوى السياسية الداعمة للبلدية
تجربة معامل حرق الإطارات لا تنفصل بالنسبة للكفوريين عن تجربتهم المريرة مع مكبات النفايات في بلدتهم، حيث خاض الأهالي صولات وجولات في وجهها خلال السنوات الـ 12 الأخيرة. يتردّد صدى هذا الواقع بكلمات معبّرة على لسان ابنة القرية مارينيل عون: “تُعرف بعض القرى في لبنان بمعالمها السياحية من وديان وشلالات ومحميات بيئية، وتُعرف قريتنا بمكبّاتها ومحارقها”، مستعرضة بقايا السواد على أظافر أطفالها، فيما الخوف في عيونها من المخاطر الصحية لهذه المواد صعبة الإزالة.
يضمّ وادي الكفور، ضمن مساحة أربعة كيلومترات مربّعة فقط، عشرات مكبّات النفايات وعدد من الكسّارات والمصانع والمسالخ. ويعدّ الوادي مكبّ نفايات لـ 85% من قرى اتحاد بلديات الشقيف، والقناة الرئيسية لتصريف مياه الصرف الصحي من مدينة النبطية و20 قرية أخرى. فمعمل فرز النفايات الذي بني على أرضه متوقّف عن العمل منذ عام 2016، ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي شبه معطلة، فتذهب معظم مياه الصرف الصحي إلى المياه الجوفية أو مع المجاري الموسمية نحو البحر.
شهدت البلدة بين عامي 2012 و2016 حراكًا مطلبيًا رافضًا لمكبّات النفايات، انتهى مع وصول رابط حزب الله (المسؤول التنظيمي للحزب) في القرية إلى رئاسة البلدية. يقول أحد الفاعلين في الحراك في تلك الفترة إنّ عدة عوامل ساهمت في إطفاء التحرّكات: “فالأسلوب الذي اعتمد هو أسلوب العصا والجزرة، من جهة أغدق رئيس البلدية الحالي المساعدات، وفتح مطبخًا لتقديم الوجبات، كما تمّ توزيع أموال طائلة على فعاليات في القرية للقبول بالأمر الواقع، ومن جهة أخرى، ومن لم تنفع معه الإغراءات المادية، واجه تهديدات وضغوط”، ويشرح: “الضغوط وصلت إلى ذروتها مع تسلّم رابط حزب الله رئاسة البلدية، يومها جاء مسؤول حزبي وقال لنا بالحرف: خضر سعد هو خليّتي بالكفور ويجب أن تنسّقوا معه، تقبّلوا مكبات النفايات وستنعم قريتكم بكليات جامعية وبكهرباء ومولّدات، بس اللي بيتظاهر ما رح يكون مبسوط”. وعود لم ير أهالي الكفور تحقق أي منها واقتصرت على صناديق إعاشات ومبالغ وزّعت على “الرؤوس الكبيرة”. يؤكّد المصدر المحلي أنّ “هذه الإغراءات والأموال التي أنفقت تجعلنا نتساءل عن المصالح المادية وراء المشاريع التي تقام في وادي البلدة، وهو ما يترجم مظاهر ثراء نراها على مسؤولي البلدية”، لافتًا إلى أنّ “أسر مسؤولي البلدية البارزين يعيشون أصلًا في بيروت، وبعضهم تملّك حديثًا شققًا فاخرة في العاصمة بعيدًا عن هذه السموم كلّها”.
أما جلب معامل حرق الإطارات فقد ترافق مع بداية كورونا والحجر الصحي ما ساعد في تمرير المشروع من دون تحركات رافضة، بحسب المصدر نفسه: “في زمن الوباء وحظر التجوّل، لم يكن أحد في وارد التظاهر حتى”.
يكشف علي من أبناء الكفور أنّ “الإنفاق المادي الهادف إلى دفع الناس للقبول بالأمر الواقع لا يزال مستمرًا، وهو إنفاق حزبي يمرّ عبر البلدية، التي تحوّل مركزها إلى نقطة توزيع الإعانات الغذائية. هذا الواقع يجعل الأكثرية متردّدة قبل الاعتراض على أي من ممارساتها”. تتدخل هنا ريم لتقول: “ربما لولا كارثة الخميس لم نكن لنرى هذه الغضبة الشعبية التي أدت إلى اقتحام المعامل وإقفالها، فيما التخوّف هو من تكرار مسلسل إعادة فتحها، طالما أنّه لم يصدر قرار حتى الساعة بإزالتها كلّيًا”.
تهديدات للأهالي ومسلّحون يحرسون المعامل
رغم كبر حجم الهبة الشعبية في وجه المعامل، لم يتورّع مسلّحون عن إطلاق النار في وجه الأهالي. بضع رصاصات كانت كافية لإيصال رسالة ترهيبية، فيما ينتشر هؤلاء المسلّحون في منطقة عمل المعامل اليوم، رغم إقفالها بالشمع الأحمر. خلال جولة لـ “المفكرة” في المنطقة، أمكن ملاحظة وجود شبّان يراقبون المكان، فيما أكد من رافقنا من الأهالي أنّ السلاح يبقى حاضرًا لمنع تجدّد اقتحام المعامل. ووجود المسلحين في المنطقة لحماية معاملها قديم، إذ تذكر بتول كيف اعترضت في أحد الأيام بسيارتها شاحنة تنقل الإطارات بشكل مكشوف ومن دون لوحات تسجيل، فخرج مسلحون لحماية الشاحنة.
تكشف الحاجة إيمان لـ “المفكرة” أنّ تهديدات وصلتها من صاحب معمل طهماز، عباس طهماز، بسبب دور مناشداتها في حثّ الناس على التصدّي للمعمل، تقول الأم التي خسرت ولدها خلال قتاله في صفوف حزب الله: “جوابي للطهماز هو بيتي أمامك احرقه إذا كنت تجرؤ”، وتضيف: “المرأة التي ترسل ولدها إلى الحرب لن تخشى من أي تهديدات، وأنا أتحرّك اليوم لكي أحمي حقي وحق أولادي وأحفادي في الحياة، لأن هذه المعامل هي بمثابة إبادة جماعية لنا”، داعية إلى رفع الغطاء السياسي والحزبي عن “الفاسدين المسؤولين عن هذه المجزرة”.
تؤكد الحاجة إيمان أنّ “مطلبنا هو إزالة المعامل، ولا نقبل بأقل من ذلك”، مشيرة إلى أنّه وبالرغم من أنّ الفساد السياسي هو المسؤول عن جلبها إلى القرية واستمرار عملها، إلّا أنّ تحرّكنا بعيد عن السياسة، وهو مطلبي بحت، ونرحّب بكلّ يد تمتد لمساعدتنا وإنقاذنا من هذه الكارثة. وتناشد “رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب والأمين العام لحزب الله والبطريرك بشارة الراعي التدخّل، خصوصًا أنّنا قرية العيش المشترك من سنة وشيعة ومسيحيين والكلّ معني ببقائنا في قريتنا”. وتحذّر الحاجة إيمان والسيدة أنيسة من أنّ “التعايش المميز هنا والمستمر منذ قرون، مهدّد اليوم بالاختفاء جرّاء التهجير القسري بفعل الهرب من بؤرة التلوث الموجودة بيننا”. وتقول الصديقتان: “جارنا عرض منزله للبيع، لكن هذه أرضنا، وين منروح، لا يمكن نروح محل”.
تدعو جمعية الجنوبيون الخضر إلى “وقف التدخّلات السياسية في هذا الملف ونزعة التحاصص التي يدفع ثمنها الناس”، مؤكدة الحاجة إلى برنامج طويل المدى لإعادة التأهيل. بدوره يقول أبو عباس إنّ “لا أهداف سياسية لنا، ومعركتنا هي مع أشخاص وليس مع أي خط سياسي”. وتؤكد بتول أنّ الغطاء السياسي، إضافة للمسلحين الذين تواجهت معهم مرة، عوامل تصعّب مهمة مواجهة المعامل، وهي الأم التي تعرف جيدًا أن أمراض أولادها الصدرية بسببها. “عندي أولاد بدي ربيهم، بس لنعيش، بدنا نعيش بلا سموم وبلا أمراض”، تقول بتول فتضحك جارتها بسخرية وهي تقول: “نحن انتخبناهم والله انتخبناهم، بس يتطلّعوا فينا”.
خلال جولتنا في الكفور، أمكن ملاحظة التنوّع السياسي والطائفي للمعترضين، ومعاينة طبيعة الغضبة الشعبية في القرية، غضبة شعبية مطلبية تضع هدفًا واحدًا لها: إزالة المعامل. حتى أنّ الأهالي يرفضون فتح ملفات النفايات والكسارات والمسالخ، منعًا لتشتيت المطالب، ويُحجمون عن اتهام جهات سياسية، منعًا لتسييس الملف.