تحيّة الى روح المربي والملهم الأستاذ موريس دبغي..بقلم مايا أدمون نهرا
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /
في ذكرى التحرير لهذا العام تحيّة الى روح المربي والملهم، المدير الحازم والرصين والمقاوم بامتياز الأستاذ موريس دبغي، مدير كلية مرجعيون الوطنية
بعد مرور كل هذه الأعوام والأحداث على التحرير وبعد ان تنخرط كأحد خرّيجي الكليّة في حياتك المدينية في هذا الوطن وتتعرف على اسماء المدارس الخاصة وانتماءاتها ويسألك أحدهم في أي مدرسة تعلّمت وتجيبهم “الكلية”، “كلية مرجعيون الوطنية”. تستدرك وانت تردّد اسم مدرستك، الذي نشأت عليه وحفظته دون ان تعي اختلافه وتميّزه ووقع لفظه، ترى من أين أتت الجرأة لاختيار هذا الاسم، وكيف استمرّ الالتزام به نهجا؟
التعرّف على حكاية تأسيس الكلية على يد المربّي الراحل الاستاذ فضلو الحوراني عام ١٩٤٨ وطالذي سلمها من بعده الى المربي الراحل الذائع الصيت الاستاذ لبيب غلميّة، لهي درس في التاريخ وفي الفلسفة، فالكليّة لوحدها فعل مقاومة، مدرسة وجدت في أطراف الجنوب، في رحاب بلدة جديدة مرجعيون، هذه البلدة التي أحبّت العلم وقدّرته وتكاتفت على دعمه لترتفع مداميك الكلية حجرا حجرا وتستمر رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تتالت على جنوبنا حتى يومنا هذا. تحدّت الكليّة كل اشكال الاحتلالات الجهل والتعصّب والفقر والعدو، وأثبتت أنها وطنيّة وعلمانيّة ومحافظة في آن.
تتربّع الكلية تلّة عالية مسوّرة بشجر السرو وعلى يسارها أرزة عملاقة تليق بها. لها ملعب ومدرّج ضخم وعلى مدخلها سارية علمنا الحبيب. دخلت الكليّة عام 1985 وتخرّجت منها قبل عام من التحرير. كانت الرحلة اليها محفوفة بالخطر، القصف والعمليات العسكرية التي تعيق وصولنا اليها او تعيدنا الى منازلنا باكرا.
كنّا ننزل من باص المدرسة ونهرب الى ملاعبنا كلا حسب عمره، كان الاستاذ موريس ببدلته وكرباجه يتأمل تلامذته فيدبّ في نفوسهم الخوف والانتظام. لا أدري لما كنّا نخاف منه، اليوم وانا أتذكّره لا ينتابني الا شعور الحب والامتنان، وحدها قسوته جعلت منّا ما نحن عليه اليوم.
جمعنا الاستاذ موريس في الكليّة، لم نكن نعرف الطوائف والمذاهب، منع عنّا كل مظاهر الدين، صهرنا بالعلم وعلّمنا بالمثل. أذكر انني لبست مرّة مسبحة صلاة في يدي، فنهرني ان انزعها: صللي بالبيت، هون بتدرسي وبس. وبعيد التحرير كان أول درس لبناني تعلّمته خارج رحاب الكليّة ان زميلتي من الهبّارية سنية وزميلي من الخيام شيعي!
أما عن عيد الاستقلال، هذا العرس الوطني الذي حرص الاستاذ موريس ان يحتفل به ببروتوكولات تشبه بروتوكولات الرؤساء الرسمية. كانت سارية العلم ترتفع عاليا، يجتمع جميع التلامذة كالعادة في الملعب في حين يتوسّط الاستاذ موريس المدرّج لننشد معا النشيد الوطنيّ، وبعدها نراه كالمارد ينفخ فينا معاني الوطن ويخبرنا عن قصص الاستقلال ويدمج حب الوطن والتضحية من اجله بحبّ العلم والتميّز، وكلّه على مسمع ثكنة العدو المتاخمة للمدرسة. دخلنا مرّة المدرسة واذا بصوت فيروز يرتفع في ارجاء الكليّة. كان لزاما علين ان ننشد النشيد الوطنيّ كل صباح، وها نحن نستمع الى اغاني فيروز قبلها فتتغلغل المشهدية الوطنية في نفوسنا دون ان ندري… كلنا للوطن للعلا للعلم.
كنت اتمشى في الملعب مع بعض الاصدقاء عندما باغتني بسؤال عن علامة امتحان الرياضيات، فقلت له 36 على 40، فصفعني على وجهي، ونهرني: عم تلتهي! اكيد بدك تجيبي 36. لم أخجل من التلامذة الذين شاهدوني، خجلت لأنني خذلته، ولليوم استغرب كيف لمدير مدرسة ان يحفظ علامات تلامذته ويتابعهم لهذا الحدّ. كان تلامذة بلدته يعانون اكثر منا اذ كانوا تحت مراقبته في المدرسة وبين أزقة البلدة، كانوا يتجنّبون اللعب على الطرقات، لأنه كان دائم الحركة والتتبّع، يريد لتلامذته النجاح والتفوّق وتغيير واقع حالهم.
والعلم في رحاب الكلية له بعد التميّز، كان يحرص ان يحاضرنا احد خريجي الكلية الذين تفوّقوا او نجحوا في حياتهم العملية، كان شعور الاعتزاز والفخر ومشهد الضحكة على وجه الاستاذ موريس يحفّزانا ان نصبح يوما من امثال ضيوفه. عندما انهيت اختصاصي الجامعي، تواصل معي الاستاذ موريس لانظّم مكتبة الكليّة، كان ما زال عليّ سداد قسط آخر سنة مدرسية. لم تطالبني المدرسة بالدفع، أخبرني يومها استاذ موريس انها سدّدت من صندوق الأمناء، انت شاطرة وبتستاهلي. هذا التصرّف النبيل الذي يحفر في القلب عميقا، ان تجد من يؤمن بك ويمدّ لك يد العون لتتعلّم وتغيّر واقعك وتنطلق.
للكلية ولاستاذ موريس ولجميع من علّمني فيها دين كبير عليّ، صعب ان تتغيّر كل تلك المبادئ والقيم الجميلة التي تعلّمتها بينهم واهمّها حب الوطن العابر للطوائف والانتماءات وحبّ العلم والاقتياد بالمثل. بينهم كان زملائي واصدقائي من دين واحد ومن وطن واحد، لم يسمح لنا ان نحمل نقودا ونشتري ما يطيب لنا، بقينا فقراء واغنياء متساوون في لفة الخبز واللباس المستور.
في ذكرى التحرير، كم وددت ان اسمع منه خطابا كخطاب الاستقلال، ان يروي لتلامذته الصغار كيف عبر بالكلية من المدرسة الى السجن حيث حوّل زنازينه صفوف علم ايام الاجتياح، الى المدرسة التي نعرفها اليوم. ان يخبرهم كيف تحدّى وصمد وحيدا في وجه المدارس التابعة للطوائف التي نخرت قرانا واعادت فرزنا وتقسيمنا.
الاستاذ موريس مقاوم ببدلة من علم ونور، شجاع وأبيّ، تليق بأمثاله كل مرادفات اللغة العربية في وصف الشجاعة وحب الارتقاء بالمجتمع، لقد عاش وربّى تلامذته بعزّ من أجل الحق والخير والجمال، لروحه السلام ولابنائنا آمال بمربّين من طينته.