“القاتل الصامت” يهدد اللبنانيين
“تلوث الهواء، القاتل الصامت الأول في لبنان”، هو العنوان الذي اختير للورشة التي نظمتها وزارة البيئة اللبنانية بالتعاون مع مؤسسة “هانز زايدل”، والتي جرى خلالها التحذير من أن نسبة التلوث المرتفعة جدا في هواء المدن (والهواء الداخلي)، تتسبب بأمراض قاتلة بمعدل شخص من كل 9 أشخاص. فيما تشير الأرقام العالمية إلى 7 ملايين وفاة سنويا جراء تلوث الهواء.
وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، ناصر ياسين، أكد خلال الورشة، أن “الكلفة الصحية الناجمة عن تلوث الهواء تبلغ 900 مليون دولار سنويا”، لافتا إلى أنه بصدد إعداد تعميم جديد لضبط الانبعاثات من المولدات، بعد أن وقّع على قرار التشدد في تحديد معايير الانبعاثات الصناعية.
قبل الأزمة الاقتصادية، يُواجه لبنان تحديات بيئية حادة، بحسب ما ذكر البنك الدولي في ديسمبر الماضي، “وقد بلغت التكلفة السنوية للتدهور البيئي عام 2018 حوالي 4.4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي- أي ما يعادل نحو 2.39 دولار أميركي. ومنذ ذلك الحين، تفاقمت الأوضاع حيث شهدت البلاد تدهورا شديدا في مستوى الخدمات العامة الأساسية، فضلا عن زيادة في مستويات التلوث، ومزيدا من الاستنزاف في الموارد الطبيعية”.
سيف ذو حدّين!
حتى الهواء لم يسلم من الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، حيث ارتفعت نسبة التلوث كما تقول، النائبة الدكتورة نجاة عون صليبا، أستاذة مادة الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت والمتخصصة في تلوث الهواء، “نتيجة عدم قدرة اللبنانيين على تجديد سياراتهم، حيث أن المركبات القديمة تتسبب بانبعاث غازات سامة بنسبة أكبر من المركبات حديثة الصنع، وكذلك نتيجة عدم تنظيف الطرقات واستنشاق الغبار المتطاير منها، من دون أن ننسى قضية ضبط ومراقبة وملاحقة نفايات المستشفيات”.
في المقابل أدى تراجع عدد اللبنانيين المشتركين في المولدات لعدم قدرتهم على تحمل كلفة الفواتير وتأمين مؤسسة كهرباء لبنان لعدد محدد من ساعات التغذية الكهربائية، إلى تخفيف الانبعاثات السامة الناتجة عن تشغيل المولدات، بحسب عون، التي أشارت في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “نسبة تلوث الهواء في لبنان تتجاوز ما بين أربع إلى ست مرات (بحسب موقع كل منطقة) النسبة التي حددتها منظمة الصحة العالمية”.
والعام الماضي أصدرت منظمة “غرينبيس” دراسة، بالتعاون مع جامعة البلمند ومنظمة “وصية الأرض”، وثقت خطورة تلوث الهواء في بعض المناطق اللبنانية، والذي تجاوز المستوى اليومي المحدّد طبقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية بشكل متكرر وذلك من خلال قياس منسوب جسيمات PM2.5 العالقة في الهواء.
وتتسبب الجسيمات الدقيقة بقُطر 2.5 ميكرون، بحسب تقرير أعده البنك الدولي بأمراض مثل انسداد شرايين القلب، والسكتة الدماغية، وسرطان الرئة، ومرض الانسداد الرئوي المزمن، والالتهاب الرئوي، والنوع الثاني من مرض السكري، واضطرابات حديثي الولادة. ويحدث نحو 95 بالمئة من حالات الوفاة هذه في البلدان النامية، حيث يتعرض مليارات الأشخاص لتركيزات هذه الجسيمات التي تزيد عدة مرات عما ورد في المبادئ التوجيهية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية.
وخلال أزمة كورونا وما استتبعها من حجر صحي، أظهر تقرير تراجع نسبة تلوث الهواء في العاصمة اللبنانية، بحسب رئيس جمعية فكر وإنسان، حسن حجازي، ما يشير إلى أن “السبب الرئيسي للتلوث هو الوقود غير المطابق للمواصفات المستخدم في الآليات والمولدات، يضاف إليه سبب قديم عاود الظهور نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان ألا وهو توقف البلديات عن فرز النفايات، حيث عادت المكبات العشوائية، وتحولت الأودية إلى مساحات لحرق النفايات”.
وفق دراسة نشرتها مجلة “كوميونيكيشنز إيرث أند إنفايرومينت” العلمية العام الماضي، فإن أكثر من 90 بالمئة من تلوث الهواء في الشرق الأوسط ينجم عن الوقود الأحفوري، وليس عن العوامل الطبيعية كما كان يُعتقد.
كما دفعت الأزمة الاقتصادية، وعدم قدرة الأهالي لاسيما في المناطق الجبلية على تحمل كلفة التدفئة من خلال المحروقات والكهرباء إلى اللجوء، كما يقول حجازي لموقع “الحرة”، “لقطع الأشجار للاستفادة من حطبها، حيث رصدنا آلاف الحالات التي طالت محميات وغابات بشكل عشوائي أي من دون أي مبالاة، سواء كانت أشجارا معمرة أو غير معمرة، ورغم هذه الحالة الكارثية، إلا أنه لا يمكن الطلب من والد لا يملك المال لتدفئة أولاده بطريقة أخرى أن يتوقف عن ذلك”.
من ناحية أخرى يشير حجازي إلى أن الأزمة الاقتصادية “أدت إلى إقفال أبواب بعض المصانع التي بمعظمها غير مطابق للشروط البيئية كاستخدام المولدات من دون فلاتر أو تشغيلها بأسوأ أنواع الوقود، مع العلم أن صناعة الأسمنت تعتبر من المسببات الأساسية لتلوث الهواء في لبنان، إضافة إلى تراجع نسبة المساحات الخضراء بسبب العمران العشوائي في كل لبنان، وذلك في ظل غياب حكومي ومبادرات فردية خجولة من قبل جمعيات وبلديات للزراعة والتشجير والتوعية على مخاطر قطع الأشجار” مشددا على أن أضرار الانبعاثات السامة لا تقتصر على الهواء فقط بل تطال المياه والتربة كذلك.
جسيمات تحت الرصد
تعرّف منظمة الصحة العالمية تلوث الهواء بأنه تلوث البيئة الداخلية أو الخارجية بأي عامل كيميائي أو فيزيائي أو بيولوجي يغير الخصائص الطبيعية للغلاف الجوي، وتظهر بيانات المنظمة أن جميع سكان العالم، 99 بالمئة تقريبا، يتنفسون هواء يتجاوز حدود المبادئ التوجيهية، ويحتوي على مستويات عالية من الملوثات، وتعاني البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من أعلى معدلات التعرض لتلوث الهواء.
وبدأت الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية بدراسة تلوث الهواء في لبنان منذ عام 2004، لتفتح بعدها مختبر علم السميّة لدراسة تأثير الملوثات البيئية على جسم الإنسان، وبحسب ما تقول الباحثة المشاركة في الهيئة التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلمية، إيمان عباس، “نلاحق التلوث من المصدر وصولا إلى تأثيره على الخلية البشرية التي تعتبر أصغر مكوّن في جسم الإنسان، وذلك لفهم آلية العمل التي يتم تفعيلها بعد تعرض الخلية البشرية للملوثات البيئية، ما يكشف لنا أسباب ظهور بعض الأمراض في الجسم الحي”.
وترتكز الدراسات التي تقوم بها الهيئة، كما تقول عباس لموقع “الحرة”، “على جسيمات الهواء التي هي عبارة عن خليط غير متجانس ومعقد من المواد الكيميائية العضوية واللا عضوية والبيولوجية الخطيرة، إذ عند تنشقها تدخل إلى رئتي الإنسان، ومنها تنتقل إلى الدورة الدموية فباقي أعضاء الجسم، حيث يمكن أن تتسبب في ظهور أمراض خطيرة ومميتة كالسرطان”.
وتشرح أن “تكوين الجسيمات ونسبتها يختلفان من منطقة إلى أخرى، وعند إجراء أي دراسة على هواء منطقة معينة نقوم بأخذ عينة من الجسيمات لتحديد هويتها الكيميائية أي معرفة المواد السامة التي تحتويها كخطوة أولى لتحديد مصدرها سواء كان من انبعاثات السيارات أو الحرق العشوائي للنفايات، أما الخطوة الثالثة التي نقوم بها فهي معرفة تأثير هذه الجسيمات على الخلايا البشرية”.
وسبق أن أظهر بحث أجرته الهيئة على جسيمات تم سحبها من بيروت عام 2017، أن هواء العاصمة يحتوي على مواد سامة ومسرطنة، كالهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات، ومصدرها الأساسي بحسب عباس “انبعاثات مولدات الكهرباء ووقود السيارات والحرق العشوائي للنفايات، ولا شك أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى ارتفاع نسبة تلوث الهواء نتيجة الاتكال الكلي على المولدات لإنتاج الكهرباء، وتعذر إجراء الفحص الدوري للسيارات، ما يعني ازدياد عدد المركبات غير المطابقة للمواصفات، عدا عن ازدياد عدد المواطنين الذين يلجؤون إلى وسائل تدفئة مثل إشعال إطارات السيارات، كحل أرخص للتدفئة، رغم مخاطر ذلك على الهواء والصحة”.
ويتخطى تركيز الجسيمات في هواء بيروت، كما تقول الباحثة في الهيئة، “ما بين أربع إلى خمس مرات المعدل المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية، أما مصدرها فليس داخليا فقط، إنما يضاف إلى ذلك بعض الملوثات التي تصلنا عبر التيارات الهوائية، بحكم موقع لبنان كنقطة ملتقى لثلاث قارات، وهذا ما أكدناه من خلال بحث ممول من الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
رغم الصورة القاتمة إلا أن رئيس حزب البيئة العالمي، دوميط كامل، يشدد على أن “بعض المناطق اللبنانية تنعم بهواء نقي في حين أن مناطق أخرى هواؤها مشبع بالملوثات، لأسباب عدة منها كثافة السيارات، أو نتيجة وجود مكب نفايات فيها أو في محيطها، أو نتيجة قربها من معامل إنتاج الكهرباء، ومع ذلك فإن موقع لبنان وحركة هوائه والمساحات الكبيرة من الغابات التي ينعم بها، كل ذلك يساعد في تنقية هوائه، من دون أن يعني ذلك عدم ضرورة وضع استراتيجية وطنية لمراقبة نسبة تلوث الهواء واتخاذ الإجراءات الضرورية للحد منه، لما يشكله من خطورة على صحة الإنسان”.
طريق الخلاص
والعام الماضي، أشار ياسين إلى أن المشاكل البيئية في لبنان عمرها عقود من الزمن، والتدهور البيئي الكبير لا يظهر خلال أيام أو سنوات، وقد قدرت كلفة تلوث الهواء في العام 2018 بحوالي المليار دولار، وأن المشكلة تفاقمت مع أزمة الكهرباء، لافتا إلى أن “لدى وزارة البيئة 25 محطة لاختبار تلوث الهواء في لبنان، وهي كلها متوقفة عن العمل، وأن العمل يجري على إعادة تشغيلها بشكل تدريجي”.
وشدد على أن القضايا البيئية في لبنان ليست رفاهية، بل هي في قلب كل المشاكل التي يشهدها البلد، وتدل على ضعف البيئة السياسية والمؤسساتية المنهارة وفي ظل تغيير مناخي يحصل في كل العالم، وقال: “نحن لا ينقصنا القوانين ولا العلم ولا البراهين ولا الموارد البشرية، إنما آليات العمل وإدارة الحكم ضعيفة في البلد، مع وجود فساد وإثراء غير مشروع ورشاوى في ملف المقالع والكسارات وغياب تطبيق القانون من دون رادع”.
عدا عن القوانين التي أقرها المجلس النيابي اللبناني لحماية نوعية الهواء، فإن الدولة اللبنانية ملتزمة باحترام المعاهدات والاتفاقات والبروتوكولات الدولية المتعلقة بذلك، ومنها اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، وبروتوكول مونتريال بشأن المواد المستنفذة لطبقة الأوزون، واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ.
وعن مدى لعب وزارة البيئة دورا في الحد من نسب تلوث الهواء ترى عون، أن “المشكلة تكمن بعدم وجود ضابطة بيئية، فكل ما يمكن لوزارة البيئة القيام به هو إصدار تعاميم، في حين يفترض أن ينتظم العمل البيئي مع العمل الأمني، مع ضرورة وجود تنسيق تام بين مختلف الوزارات كي تتمكن وزارة البيئة من لعب الدور المطلوب منها”.
ويحتاج الحد من تلوث الهواء كما يقول حجازي إلى “قرار سياسي، لمنع استيراد الوقود غير المطابق للمواصفات، وخطط استراتيجية لاعتماد الطاقة البديلة لا سيما أن لبنان بلد شمسي على مدار العام، حيث يمكن الاستفادة من ذلك لإنشاء محطات لتوليد الطاقة، كما يجب الانتقال إلى السيارات الكهربائية، وفرز النفايات من المصدر لحل مشكلة النفايات الصلبة، إلا أننا للأسف تعيش في ظل حكومة تصريف أعمال وفراغ رئاسي”.
أما عباس فتقول “لبنان بلد غير صناعي، بالتالي يمكن وضع حد لمشكلة تلوث الهواء من خلال إيجاد حلول لمشكلة الكهرباء وحرق النفايات وإعادة العمل بنظام الفحص الدوري للسيارات”، في حين خلصت الورشة التي نظمتها وزارة البيئة إلى إصدار عدة توصيات، منها ضرورة “العودة إلى المعاينة الميكانيكية، والتشدد في مراقبة مواصفات الوقود، ومراقبة المولدات الخاصة، وتشجيع السياحة البيئية الطبيعية وتوسيع المساحات الخضراء والتشجير”، إضافة إلى إنشاء صندوق للبيئة وتمويله من الضرائب البيئية المباشرة. و”إعادة التران إلى السكة” وتوسيع النقل العام وتنظيمه و”دعم الطاقات المتجددة”.
أسرار شبارو – الحرّة