سوء تغذية وتقزّم.. أطفال لبنان يمرّون بمرحلة خطيرة

صدى وادي التيم-لبنانيات/

“اثنان وعشرون سنة من الانتظار والعلاج والدعاء لكي أصبح أبا، وعندما أكرمني الله بتوأم وجدت نفسي عاجزا عن تأمين أدنى مقومات الحياة لهما، من حليب وطعام وحفاضات ولقاحات، وها أنا أخشى عليهما من سوء التغذية وما قد يترتب على ذلك من إصابتهما بأمراض”.. هي كلمات قالها بحرقة ابن المجدل في شمال لبنان عباس القادري.

كل قواميس العالم لا يمكن أن تعبر عن فرحة عباس، المرة الأولى عندما أبلغه الطبيب بحمل زوجته، وأيضا حين أبصر طفلاه النور. يقول عباس لموقع “الحرة” إنه عاهد نفسه أن يفعل كل ما في وسعه لإسعادهما، لكن “للأسف لم أتمكن من الوفاء بالعهد، أولا نتيجة خيانة صحتي لي، فأنا أعاني من مرض في الرئة والقلب، أجبرني على التوقف عن العمل كحداد فرنجي، وثانيا نتيجة الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وبالتالي ارتفاع الأسعار”.

يوميا ينام عباس والدموع تبلل خداه قهرا من سوء الحال، ويقول “يبلغ طفلاي بكر ونور سنتان وسبعة أشهر من العمر، منذ سنة وشهرين لم يذوقا طعم الحليب، أطعمهما من الطعام المخصص لي ولوالدتهما، وهو بأحسن الأحوال بطاطا مسلوقة وعدس وكعك مغمّس بالماء والسكر، أما اللحوم والدجاج وحتى الخضار والفاكهة فلا تعرف لمنزلنا طريقا”.

توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى ارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان ما دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية.

وفي حديث مع موقع “الحرة” شرحت خبيرة علوم الغذاء في المجلس البروفسورة مهى حطيط أنه “في المرحلة الأولى قمنا بدراسة بحثية مرجعية لجميع الدراسات في العالم العربي والشرق الأوسط، وركزنا في دراستنا المرجعية على لبنان بشكل خاص، فظهر أن معدل التقزم ارتفع من 9.7 في المئة (ما بين عامي 2004 و2021) إلى 12 في المئة هذا العام”.

يُعرف قصر القامة بالنسبة إلى العمر بالتقزم، وينجم بحسب منظمة الصحة العالمية “عن نقص التغذية المزمن أو المتكرر، وعادة ما يرتبط بتردي الظروف الاجتماعية الاقتصادية، وتردي صحة الأمهات وتغذيتهن، والاعتلال المتكرر، و/ أو عدم تغذية الرضع وصغار الأطفال ورعايتهم على النحو الملائم في مراحل الحياة المبكرة”.

أما معدل البدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان، فارتفع بحسب حطيط من 18.9 في المئة بين عامي 2004 2021 إلى 26 في المئة، “وهو رقم كبير جدا لا سيما وأن المعدل العالمي للبدانة عند الأطفال يتراوح ما بين 5.7 و9 في المئة، ما يشير إلى أننا في مرحلة خطيرة، كونه يعني عدم حصول الأطفال على الفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، وهذا ما يعرف بالجوع الخفي”.

“انقلاب” الهرم الغذائي

هل من يمكنه تصديق أن الفقر دفع بزوجة عباس إلى الاستعاضة عن الحفاضات بأكياس نايلون وقطع قماش، ويشدد “نعيش مأساة بكل ما للكلمة من معنى، وصلتُ إلى مرحلة لم يعد يعنيني مرضي وإمكانية أن أفقد الحياة في أي لحظة، أصبح همّي أن أتمكن من اصطحابهما إلى طبيب أطفال كي يكشف عليهما لمعرفة وضعهما الصحي، وأن أتمكن من تأمين ثمن اللقاحات التي يحتاجانها، كما أتمنى أن أعيش ولو للحظة واحدة أراهما فيها سعيدين يأكلان كل ما يرغبانه من لحوم ودجاج وحلويات”.

وأفاد تقرير لصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) العام الماضي، بانخفاض معدلات التطعيم الروتيني في لبنان للأطفال بنسبة 31 في المئة، “وهي معدلات أصلا منخفضة بالفعل بشكل مقلق”، وحذرت اليونيسف من أن يؤدي ذلك إلى “ظهور مجموعة كبيرة من الأطفال غير المحميّين المعرّضين للأمراض وتأثيراتها”.

وأضافت: “يُظهر المسح الوطني للتغذية في لبنان لعام 2021 أن المؤشرات الغذائية الرئيسية للأطفال الصغار ضعيفة في أيامهم الأولى من الحياة وتزداد سوءا مع مرور الوقت، وأكثر من 90 في المئة من الأطفال لا يستوفون معايير الحد الأدنى للحصول على الوجبات الغذائية المتنوعة والمتكررة، التي يحتاجون إليها، أو النظام الغذائي المقبول خلال الفترة الحاسمة في حياتهم التي تساعدهم على النمو والتطور حتى سن الثانية”.

يشمل سوء التغذية في جميع أشكاله بحسب منظمة الصحة العالمية، نقص التغذية (الهزال والتقزّم ونقص الوزن)، ونقص الفيتامينات أو المعادن، وفرط الوزن، والسمنة، والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي، حيث “يعاني 1.9 مليار شخص من فرط الوزن أو السمنة، في حين يعاني 462 مليون شخص من انخفاض الوزن، كما يعاني 52 مليون طفل دون سن الخامسة في العالم من الهزال، و17 مليون طفل من الهزال الوخيم، و155 مليون طفل من التقزم، في حين يعاني 41 مليون طفل من فرط الوزن أو السمنة”.

الأمر لا يتعلق فقط بالشبع، بل كما تشدد حطيط “بضرورة تنوع الغذاء، وسبق ان توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى أن 72 بالمئة من العائلات في لبنان تعاني من عدم تنوع الغذاء، وذلك بعد أن كان المعدل 53 في المئة خلال السنة الأولى من الأزمة التي تمر بها البلاد”.

منذ ما يزيد عن الشهر وبسام طالب، عاجز عن شراء قارورة غاز لكي تتمكن زوجته من إعداد الطعام لعائلته المؤلفة من ثلاثة فتيات تتراوح أعمارهن بين سنتين وثماني سنوات، ويقول بغصة “تحلم صغيراتي بأكل اللحوم والدجاج وأنا بالكاد أستطيع تأمين الخبز لهن، ولولا أن الجيران وأهلي يساعدوننا من خلال إرسال وجبة طعام صغيرة بين الحين والآخر لما أعلم ماذا كان حلّ بهن”.

ابن بلدة ببنين في عكار شمال لبنان يبلغ من العمر 33 سنة، يعمل في أي عمل يسنح له، ويقول لموقع “الحرة” “طفلتي ذات العامين محرومة من الحليب، أما شقيقتاها فتم طردهما من المدرسة لعدم قدرتي على دفع القسط الثاني لهما، مع العلم أني حتى الآن لم أستفد من برنامج وزارة الشؤون الاجتماعية رغم أن موظفيها قصدوا منزلي ثلاث مرات، وما زاد الطين الهزة التي ضربت لبنان في السادس من الشهر الماضي حيث أدت إلى تحطم زجاج غرفة أطفالي، فأصبحن ينمنّ وسط الرياح والأمطار”.

تغيّر الهرم الغذائي في لبنان، حيث باتت النشويات كالأرز والخبز والمعكرونة تتربع على رأس الهرم، يتبعها كما تشير حطيط “الخضروات والحشائش ثم السكريات فالزعتر الذي يليه الفاكهة فالمزروعات الجذرية كالبطاطا والشمندر، ومن ثم الزيوت والزبدة، بعدها الحليب ومشتقاته، فاللحوم والبيض تليهما الحبوب وأخيرا السمك”.

نتائج متوقعة

بعد تجربتي زواج فاشلتين وجدت نتالي نفسها مسؤولة عن تربية ثلاثة أولاد تتراوح أعمارهم بين الـ3 و12 سنة، وأن عليها توفير ما يحتاجونه من خلال مئتي دولار تحصل عليها شهريا من والدها، وتقول “هذا المبلغ يجب أن يكفي طعام وشراب لأولادي إضافة إلى فواتير مولد الكهرباء والإنترنت وبدل تنقلاتي من وإلى الجامعة كوني قررت أن أكمل تعليمي رغم المرارة التي تجرعتها من الحياة في سن مبكر”.

تخصص نتالي مئة دولار من المبلغ الذي تحصل عليه لطعام أولادها شارحة لموقع “الحرة” “بالتأكيد لا يكفي لشراء طعام صحي غني بالفيتامينات والمعادن لهم، لكن بالحد الأدنى لا ينامون وبطونهم خاوية، إذ أعد طبخة كل ثلاثة أيام أضع فيها أوقية لحمة لمجرد إعطائها نكهة، كما أحرص على شراء نصف كيلو دجاج أسبوعيا اعده لهم كساندويش، لكن ما ليس بمقدوري جلبه لهم هو السكاكر وأكياس البطاطا، لذلك أحاول الاستعاضة عنها بإعداد الحلويات في المنزل يساعدني على ذلك حصولي على حصة غذائية شهريا تحتوي على حليب وسكر وطحين وإلا بالتأكيد لما كان سيذوق أطفالي طعم الحلويات”.

الدراسة التي توصل إليها المجلس الوطني للبحوث العلمية “واقعية ومتوقعة” كما تشير طبيبة الصحة العامة وأخصائية التغذية ميرنا الفتى، شارحة “قبل الأزمة الاقتصادية لم تكن نوعية غذاء الأطفال في لبنان على المستوى المطلوب، حيث كان طعامهم يتركز على السكر والنشويات، بدلا من البروتين والفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، ونتيجة الأزمات ازداد الأمر خطورة، اذ تدنت قدرة الأهل الشرائية، ما اضطرهم للجوء إلى النوعيات الرديئة من المواد الغذائية المتوفرة بكثرة في الأسواق”.

وتضيف الفتى في حديث مع موقع “الحرة”، “حتى نوعية حليب الأطفال لم تعد بالمستوى المطلوب، حيث أغرق السوق بفضلات الحليب، وإذا اختارت الأم أن ترضع طفلها فإن حليبها لن يكون أفضل حالا كونها تحتاج هي الأخرى للتغذية الجيدة وتنوع الأطعمة وهو بالأمر الصعب في ظل الارتفاع الخيالي للأسعار، وبعد أن كان بالإمكان تأمين الكالسيوم للأطفال من خلال الأجبان والألبان بالكاد أصبح يمكن لرب العائلة تأمين الجبنة المطبوخة المثلثة، وبدلا من الزيوت النباتية أصبح البعض يستخدم المارغرين المسرطن الذي لا يتحمل درجات حرارة مرتفعة ويعتبر من المسببات الرئيسية للسرطان”

ومع ارتفاع الأسعار بدأ يدخل إلى لبنان أنواع من الشوكولا عبارة كما تقول الفتى عن “عجينة، المادة الأساسية فيها السكر مضاف اليه القليل من زبدة الكاكاو ومواد ضارة، كل ذلك في وقت أصبحت اللحوم البيضاء والحمراء على حد سواء حكرا على من تبقى من طبقة غنية في لبنان”.

آثار خطيرة

لسوء التغذية كما تشير حطيط، تأثيرات صحية، جسدية وإدراكية، على المدى القريب والبعيد، وتشرح “تكمن الخطورة الحالية في إصابة الأطفال بأمراض مزمنة كالسكري والكوليسترول وترقرق العظام نتيجة عدم حصولهم على الفيتامينات والمعادن المطلوبة، وعلى المدى البعيد سنشهد جيلا من قصيري القامة غير كفوء من الناحية التعليمية”.

كذلك تشير الفتى إلى أن “سوء التغذية يؤثر على نمو العظام نتيجة نقص الكالسيوم وبالتالي على الطول الذي سيكتسبه الأطفال مع تقدمهم في العمر، كما يؤثر على جهاز مناعتهم ما يجعلهم عرضة للإصابة بأمراض مزمنة كالسكر والضغط والكوليسترول إضافة الى تشحّم الكبد، والتثديّ عند الذكور، والبلوغ المبكر عند الاناث أي ما بين سبع وتسع سنوات”.

كما أن سوء التغذية يؤثر على الصحة النفسية للأطفال، حيث تؤكد الاخصائية النفسية هيفاء السيّد ان “نقص الفيتامينات والمعادن يسفر عن خلل في وظائف دماغ الطفل، يظهر ذلك من خلال ارتفاع مستويات التوتر والقلق والأرق لديه وصولا إلى الإصابة بالاكتئاب وبأمراض عقلية أخرى وباضطرابات سلوكية عصبية، إضافة إلى تغيّر مزاجه وانخفاض مستوى تركيزه ومعاناته من الإجهاد، عدا عن إصابته باضطرابات جسدية متعددة تظهر أعراضها في النحافة الشديدة والتقزم، ووهن في العظام وآلام في المفاصل وفقر في الدم الذي ينتج عنه تساقط الشعر وضعف الأظافر وجفاف الجلد”.

أما تشخيص سوء التغذية فيعتمد بحسب هيفاء “على الأعراض التي تظهر على الطفل وعلى نتائج الفحوص المخبرية، وعادة يتم تشخيص المصابين بذلك عن طريق فحص الدم وحساب مؤشر كتلة الجسم، أي تقييم وزن الطفل بالنسبة إلى طوله، أما العلاج فيتطلب توفير الأطعمة الغنية بالفيتامينات، والمعادن، والأحماض الأمينية والدهنية”.

وبحسب منظمة الصحة العالمية “ترتبط 45 في المئة تقريبا من وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنقص التغذية، ويحدث معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وفي الوقت ذاته، تتزايد نسبة فرط الوزن والسمنة بين الأطفال في هذه البلدان نفسها”.

لجم الخطر

بعد مرور عامين على الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، بدأ الناظر في إحدى مدارس صيدا جنوب لبنان، خليل دياربي، يلاحظ عدم قدرة الأهالي على إرسال سندويش مع أبنائهم إلى المدرسة، الأمر الذي دفعه إلى إطلاق “مشروع سندويش تلميذ” في عام 2021 لتوزيع أكبر عدد من سندويش الجبنة على التلاميذ الذين لا يجلبون معهم طعام.

واليوم استفحلت المشكلة بشكل أكبر، كما يقول دياربي لموقع “الحرة”، “حيث لم يعد الأمر يقتصر على الطعام، بل وصل إلى التنقلات، فعدد كبير من التلاميذ بات مضطرا إلى قطع مسافة طويلة من منزله إلى المدرسة والعكس سيرا على الأقدام لعدم قدرة أهلهم على دفع بدلات التنقل، ويضيف “حين أطلقنا مشروع السندويش كان لدينا حوالي تلميذين في كل صف ليس باستطاعة أهلهم تأمين سندويش لهم، أما الآن فتضاعف العدد عشر مرات”.

قبل أيام كادت أن تفقد تلميذة وعيها نتيجة عدم تناولها الطعام، بحسب دياربي الذي يشدد “لا يمكننا التعمّق بخصوصيات التلاميذ خوفا من أن نجرح أحاسيسهم، نحاول قدر المستطاع عدم إشعارهم أنهم محتاجون، لذلك نجلب لهم ما يأكلونه من دون أن يطلبوا”، مشيرا إلى أنه “يمكن لمس الحالة التي وصلوا إليها من خلال كافتيريا المدرسة التي كانت في السابق تبيع نحو 100 منقوشة زعتر يوميا، أما الآن فبالكاد تتمكن من بيع 30 منقوشة حيث وصل سعر الواحدة منها إلى 40,000 ليرة”.

وأعرب ناظر المدرسة عن أمله في أن يعاود إطلاق مبادرته بعد شهر رمضان المبارك، كما تمنى أن تأخذ وزارة التربية على عاتقها مسؤولية إجراء إحصاء لعدد تلاميذ المدارس الرسمية المحتاجين تمهيدا لتأمينها وجبات طعام لهم، في محاولة لمساعدتهم على التخفيف من سوء التغذية الذي يعانون منه.

ولأن العقل السليم في الجسم السليم، لا بد كما تشدد هيفاء من “لجم ارتفاع نسب سوء التغذية وذلك من خلال تحسين الوضع الاقتصادي وتأمين فرص عمل للأهالي، ووضع وتنفيذ سياسات زراعية تشجع على الزارعة بهدف توفير غذاء متنوع وآمن ومغذ بأسعار مقبولة للجميع، وإلى حينه لابد من التعاضد الاجتماعي، ومحاولة الآباء القيام بكل ما في وسعهم للعثور على مدخول مادي يسمح لهم بتأمين ما يحتاجه أطفالهم من غذاء، فبالإصرار والتصميم وتحدي المصاعب تتحقق غايات الإنسان”.

المصدر:الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!