عندما كانت النسوة تحضّرن «طبخة التروبين» لأزواجهنّ
قبالة شاطئ أنصارية المجاور لميناء عدلون، تستفيق فاطمة (اسم مستعار بناء على طلبها) يومياً على أصوات انفجارات آتية من ناحية البحر. تعلم ابنة الخمسين عاماً، التي أمضتها كاملة بجوار البحر، بأن تلك الأصوات ناجمة عن «الصيد بالتروبين بعيداً عن الشاطئ». تشير إلى أن الصيد في الشتاء يتركز في عمق البحر لأن الأسماك تبتعد عن مياه الشاطئ الباردة. لفاطمة خبرة في «التروبين». هي نفسها كانت تعدّ «الطبخة» لوالدها طفلة. تخلط نشارة الخشب وبودرة كيماوية، وأحياناً تضيف إليها السكر، ثم تجفّفها تحت أشعة الشمس قبل أن تقسّمها في أكياس على شكل عبوات. لا تشعر بأنّ ما تقوم به، من صناعة عبوة، غريب «عادي. الجو كان كلّه هكذا. فوضى عامة ولا مراقبة أو محاسبة، وكانت أدوات التفجير متوافرة بسهولة من المواد الكيميائية إلى الصواعق والكبريت». تلفت إلى أنّ النسوة كن يتولّين الطبخ ونقل العبوات لأزواجهن أو آبائهن وأشقائهن إلى الشاطئ. «كانت جدتي وقريناتها يخبئن التروبين بالبقجة على رؤوسهن ويغطينها بالقماش أو الخبز للتمويه أمام حرس الشواطئ».
تاريخ «التروبين» أقدم من زمن الفوضى. تشير إلى أن أجدادها بدؤوا باستخدامه بعد عام 1948. «جدي تعلّم الصنعة من صياد فلسطيني من حيفا لجأ إلى المنطقة بعد النكبة». وقد راج بين صيادي المنطقة بسبب رخص أدواته بالمقارنة مع ثمن القوارب والشباك والصنانير. «غالبية الصيادين كانوا يصطادون على الشاطئ لعدم امتلاكهم قوارب، باستثناء بعض أبناء الصرفند الذين كانت ظروفهم المادية أفضل من باقي جاراتها» قالت فاطمة. كانت غلّة السمك وفيرة لكن مخاطرها أكثر. عدا عن الضرر اللاحق بالبيئة البحرية، انفجرت العبوات بكثير من حامليها ومصنّعيها، منهم من توفي، وكثيرون تشوّهت أجسادهم أو بُترت أعضاؤهم. أقارب لفاطمة أصيبوا أيضاً، لكنها تعيد السبب إلى قلة الخبرة في إعداد «الطبخة» أو نقلها، أو رميها. أحدهم نسي فتيلاً بين العبوات في قاربه، فانفجرت في عرض البحر وحوّلته مع القارب إلى أشلاء. وآخر أخطأ في سحب الصاعق لدى رمي «الطبخة»، فانفجرت في يده وبترتها.
اللافت بأنه خلال الحرب وبعد انتهائها، توحد المصابون وأهالي الضحايا على إخفاء سبب إصابتهم. «كانوا يصرّحون للقوى الأمنية بأنها ناجمة عن انفجار عبوة من مخلّفات الحرب. ومنهم من ادّعى بأن الوفيات أو إصابات الشلل ناجمة عن نقص الأوكسجين خلال الغطس». تقرّ فاطمة بأن «التروبين» أحرق البحر. «قضى على مراعي الطحالب والأعشاب التي تتغذّى عليها صغار السمك، وانقرضت التوتيا والإسفنج». وفي هذا السياق، تؤكد بأن حوض ميناء عدلون المقفل صار محمية تلجأ إليها الأسماك.