قراءة في رواية “ذاكرة هافانا” لعبد الحليم حمود بقلم أماني غيث

صدى وادي التيم – ثقافة/

إن كان ثمّة من مرادف لبنانيّ للأمريكيّ ستيفان كينغ أو للبلجيكيّة آميلي نوتومب، من حيث غزارة الإنتاج الرّوائي، لَتصدّر عبد الحليم حمّود اللّائحة من دون منازع. وإن كانت الرّوائيّة البلجيكيّة، ودائمًا تحت تأثير الكحول، حتّى في مقابلاتها ومحاضراتها، تغدق علينا بكلّ دقّة وتركيز مخزونها الثّقافيّ الهائل، فإنّ حمّود وبكلّ وعيه، لا يتوانى عن تقديم نفسه على أنّه موسوعة شاملة ومتنوّعة من المعارف والعلوم.

هو يرى نفسه محطّم أصنام، وفي حوزته مفتاح الحقيقة، في حين أنّ المتمعِّن في أعماله ينتبه جيّدًا إلى أنّه ملاحظٌ دقيق لكلّ ما في الحياة، متأمِّل في الكون والكائنات، فحسب قوله “النّاس يتلصّصون، أمّا المبدعون فيحدّقون بوقاحة”. هو طارح الأسئلة كلّها من أصغرها إلى أكبرها وبكلّ جرأة، والباحث المثابر عن إجابات، العارف والمتعرّف إلى كلّ العلوم، فتكاد لا تخلو رواياته من شروح عن نموّ النباتات وعالم الحيوانات أو عمل الجهاز العصبيّ، فهو بكلّ بساطة “مشرِّح للطبيعة وللإنسان، لجسده، لأجهزته، لداخله، بوعيه ولاوعيه.

في إصداره الأخير ذاكرة هافانا، تبدأ القصّة عندما تقرّرالبطلة غزل “إيقاظ العفاريت النّائمة في الأوراق القديمة”، وذلك بعد أن تنازلت لها أرملة الشّاعر سليمان الريّس عن كتب زوجها وبعض أغراضه، وفيها ستجد الكثير من الألغاز والغموض والغرابة. رحلةٌ بحث ستغيّر حياة غزل.
غزل الّتي تظنّ نفسها تقوم بعملٍ بطوليّ عن طريق إعادة إحياء اسم الشّاعر والصّحفيّ المتوفّى، عن طريق تجميع قصائده وإعداد كتابٍ عنه، لن تكون مهمّتها سهلة كما حدث مع الياس خوري عند جمع قصائد درويش. لأنّ سرًّا ما وماضي ما، سيعودان إلى الواجهة، ما سيسبّب الكثير من المتاعب والمخاطر للبطلة، وهو طبعًا مصير كلّ الباحثين عن الحقيقة، مصير جميع المحمَّلين بالأسئلة، وبالشّكّ! لكن بالنسبة إليها فالثّمن دائمًا يستحقّ المخاطرة: “أمّا هؤلاء الذين لا يخوضون المعارك، فما من مساحة لهم في الكتب الخالدة!”

المرأة في ذاكرة هافانا:
المرأة في هذه الرّواية ليست خاضعة ولا مجرّدة من قرارها، بل على العكس، نراها صاحبة قرار، تخطّط وتدير وتدبّر وتستعمل السلاح، قد تكون ذات سلطة، ومناضلة، إن كانت بشعر طويل على غرار مناضلات الفييتنام أو قصير على طريقة مناضلات ظفار.

الحبّ في ذاكرة هافانا:
يولي الروائي للمشاعر مكانة عليا، فها هو الشاعر سليمان الريس، فاته أن” يخبر(زوجته) أنّها بقيت حبيبته إلى آخر العمر”، وها هي غزل تستنتج : “يا لهشاشة العشّاق، مثقّفين كانوا أم باعة متجوّلين، جميعهم أطفال في حضانة!” ومرّةً، دقّ قلبها بشدّة أمام خالد عندما “لفظ اسم(ها) بصوتٍ خرج من نقطة مقمرة في روحه”. أمّا المسكين رالف فقدْ فقدَ وعيه وأعصابه وغدا ضعيفًا جدًّا لمجرّد أنّه لم يقوَ على البعد عن معبودته.

الفنّ في الرّواية:
كما في معظم رواياته، لن يدع المؤلّف لحظةً تمرّ دون أن يظهر لنا أنّه مسكونٌ بالفنّ بكلّ أشكاله. فمن الشّعر بدأ، ومن صاحب اللّغز الكبير، الرّاحل سليمان الرّيّس، مرورًا بالرّسم من خلال فريدا كالو و لوحة “شارل خوري، وكائناتها الخرافية” الرّامزة إلى “عبثية الحياة” و”عشوائية القوانين”، ومن ثمّ الموسيقا والأغنيات : فيروز، محمد فوزي، هدى سلطان، نور الصباح، شمس المغارب، ولم ينسَ السينما: إيميل دبغي، معرّجًا على المسرح مع “ميس الرّيم”.
وطبعًا لم يفُت الرّوائي المشغول بالإبداع أن يمرّر لنا نصائحه في هذا الشّأن: “لا تقبلْ لإبداعك أن يأخذ الشكل الدائريّ، فاللامتناهي يغوي”، ومرّةً عن لسان خالد، ناصحًا غزل “ستتجاوزين الصدمة إذا نقلتِ أنماط تفكيرك من صندوق العاديّات، إلى علبة الإبداعات!”

حصّة الفلسفة في ذاكرة هافانا:
على البعد الفلسفيّ ألّا يغيب عن أيّ عملٍ روائيّ، وهذا ما يحرص عليه حمّود، فمن حين إلى آخر تفاجئنا بعض الجمل العميقة والرنّانة ومنها عن الموت التّدريجيّ: “مع الوقت، تموت فينا أشياء، ولا نستطيع إقامة مراسم لها، فلا جنازات للأجزاء”/ “انتبهت الى أنّنا حين نخاف يرتجف الصوت في المخيلة”،/ “يا للروعة! عصفور! كل هذا السّموّ ينحني من أجل دودة”، نلاحظ هنا دقّة الملاحظة لدى الأديب حين ينطلق من مراقبات وتأمّل للطبيعة والمحيط، لتنتج منها استنتاجات فكريّة عميقة.

الأسلوب:
لا يخلو هذا العمل من الشّاعريّة، من خلال الصّور البديعيّة والمحسّنات، إليكم بعض التّشابيه والاستعارات، وجميعها غير مجّانيّ ولا يخلو من الرّسائل، “نحن البشر، مثل الكركند، نُطهى أحياء”/”القبور سبائك موت بيضاء”/ ” بحر الرخام الصامت”.
بالنّسبة إلى الجمل، فقد تراوحت بين المتوسّطة والطّويلة، جمّلها التّعداد والعبارات المتوازية والمتقابلة.
التّشويق: عرف الروائي جيّدًا كيف يشدّ انتباه قارئه من خلال خلق الكثير من الألغاز وإجادة توقيت كشفها تاركًا لنا الحقيقة الأخيرة الصّادمة في نهاية العمل.

الخاتمة:
ذكّرتني الرواية ونهايتها بعملين كبيرين، الأوّل لمسرحيّة “وحيد القرن” لإيونسكو، فما أشبه مشاعر غزل اليوم، عند اكتشاف حقيقة معظم من حولها، بل الجميع، وانتماءاتهم، بمشاعر بيرانجيه وهو يتفرّج مذهولًا على تحوُّل كلّ من حوله إلى حيوانات غريبة، كانت رسالة حادّة وساخرة تلك الّتي وجهها الرّومانيّ انتقادًا للشّموليّة العالميّة حينها، ولحمّود رسالته الخاصّة (سيكتشفها القارئ الذكيّ)، وهي أقلّ عدائيّة ربّما! والعمل الثّاني هو لكازانتزاكس، وتلك الرّقصة الشّهيرة للبطل، كلّما أراد أن يشرح فكرته كلامًا ولم يستطع. في ذاكرة هافانا، رقصة البطلين عاريين، لم تكن ذات بعد إيروتيكي، بل كانت رمزيّة، وتوحي بالتّصالح مع كل هذه الحقائق المعيبة لأقرب الناس، والتّقبّل أخيرًا لكلّ ما اقترفت أيديهم يومًا ما.
تقع الرواية في ١٧٦ صفحة. دار زمكان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!