الفاضي بيَعمَل قاضي وَقليل الخوَاص… قوّاص…من إبداعات سلام الراسي
صدى وادي التيم – ثقافة:
الفاضي بيَعمَل قاضي وَقليل الخوَاص… قوّاص
من كتاب شيح بريح ( سلام الراسي )
لكل مثل قصة. على هذا الأساس بدأت أتعامل مع الأمثال الشعبيّة، فحظيت بتواريخ وحكايات أمثال متعددة، وما زالت في قائمتي عدة أمثال يتيمة، منها المثل الشعبي المشهور “عَدّى السبت في طرف اليهودي”.
لذلك رحّبت ترحيباً حاراً بالأخ أبو داود، عندما جاءَني أمس، ومعه زوج شقيقته وثلاثة من رجال عائلته، قال:
جئت أروي لك حكاية “عَدّى السبت…” وهؤلاء هم شهود الحال.
واستوى أبو داود في مجلسه وأصلح وضع طربوشه رأسه وتنحنح قبل أن يبدأ حديثه، وإذا برجل ختيار من أفراد حاشيته، يقوطب عليه، ويفاجئني بسؤاله، قال:
هل تعلم يا أخ، لماذا خلق الله، البنادمين: ناس يسار وناس يمين؟
فقلت في نفسي، لا بأس، هذا فتح باب للحديث.
وبناءً على خبرتي الطويلة مع هؤلاء البنادمين، صرت أعرف أن السائل منهم لا يسأل السؤال، لكي يسمع الجواب، بل يفترض دائماً أنني لا أعرف، ويتبرّع لي بالجواب.
ثم فطنت إلى موضوع اليسار واليمين، وتذكّرت أنني حاولت في أيام شبابي أن أفهم أسرار هذا الموضوع، فأنفقت من عمري خمس عشرة سنة حتى عرفت الفرق بين “الكيف” و”الكَمّ”، وقلت، في ذلك الوقت، من يضمن لي أن أعيش ثلاثة قرون، حتى أستوعب سائر الحقائق، فانكفأتُ من أوّل الطريق، لأن خردق بارودتي لا يطال إلا الطرائد الجاثمة على الأرض، ولأني أربأ بذخيرتي من الضياع في محاولات اصطياد الأهداف البعيدة المدى، بلا طائل.
وعندما رجعت بأفكاري إلى مدار الحديث، وجدت أن رجلاً آخر من أفراد الحاشية، قد تصدّى للكلام، وبدأ يروي حكاية لا علاقة لها في سياق الحديث، قال:
عندما خلق الله المخلوقات، جعلها طائفتين: طائفة الطير وطائفة الحيوان، وجعل لكل طائفة لغة خاصة، فلا تفهم الطير لغة الحيوان، ولا الحيوان لغة الطير.
لكن الله عزّ وجلّ، لحكمة تجهلها خلق “الوطواط” وجعله طائراً وحيواناً في نفس الوقت.
وصار أخونا الوطواط، إذا جالس بعض جهابذة البواشق والعقبان، تكلّم معهم بلغتهم وانتحل هويّتهم وعرف مكنوناتهم. وإذا اجتمع بجماعة من فطاحل الفئران والجرذان طوى جانحيه وقرنب أذنيه وخاطبهم بلغتهم وعرف أخبارهم وأسرارهم”.
وبينما كان أخونا هذا يشدّني، بالحديث، إلى جهابذة العقبان وفطاحل الفئران والجرذان، كان المتحدّث الأول ما زال طافشاً في حديثه عن اليمين واليسار.
وكان بودّي أن أوزع انتباهي على جبهتين، لكن الأخ أبو داود كان هو الآخر، قد أطلق لنفسه العنان ونزل إلى الميدان، وبدأ بالهجوم والطعان، قال:
إبن الستّين للسكّين و”شحَوك” إذا دعس الزلمي بالسبعين والثمانين، وقَلّ سمعه وشحّ قشعه، مثل ابن عمي ناصيف هذا… انه يبدأ ولا يعرف أين ينتهي، يحوم حول الموضوع، كما يدور الكلب حول ذيله، يركض وراءَه حتى يدوخ، فإذا قبض عليه، عضّه وعوص عوصتين، ورقد.
فقلت: هذا جميل جداً، ولكنني يا أخ أبو داود، قبل أن تتكرّم عليّ الآن بقصّة “السبت واليهودي” أريد أن أستفيد من خبرة الأخ ناصيف في اليسار واليمين.
قال: ناصيف… بياكل عسل وبيتبعّج بصل- كما يقول المثل- وهو لا يعرف يساره من يمينه ولا كوعه من بوعه، فإذا كنت تجهل، حقاً، ما هو اليسار وما هو اليمين، فعندي عنهما أخبار كثيرة.
فاليمين هو خالي عبّاس الذي كان بإمكانه، لكثرة أمواله، أن يشتري كل ما في أسواق بيروت من لحم وخبز وفاكهة، لكن معدته أبت هضم الطعام، فمات من الجوع.
أما اليسار، فهو ابن عمتي سلّوم الذي يأكل ولا يشبع، شارطناه يوماً على يأكل عشرة أرغفة، فطلب أن مهله ربع ساعة، خرج ورجع بعدها وقال: هاتوا لي خبزاً.
فأتيناه بعشرة أرغفة، فالتهمها بسرعة، فسألناه إلى أين ذهب ورجع منذ قليل.
قال: خفت أن لا يكون بإمكاني أكل عشرة أرغفة، فذهبت إلى أقرب فرن واشتريت عشرة أرغفة أكلتها بكل سهولة، فقويت ثقتي بنفسي على أكل أرغفتكم العشرة، ورجعت إليكم في الحال.
وبينما كان أبو داود يتبرّع لي بأمثلة حيّة عن اليمين واليسار كان رجل آخر من الحاضرين قد شق رجله بحكاية جديدة، عن امرأة عنيدة، وعندما انتبهت إليه كان قد دخل في مؤخرتها- أي مؤخرة الحكاية- وقال: … وحملت المرأة نعارة “القاورما” وألقتها على الأرض، فراحت طراطيش، ورجعنا خائبين، وصار فينا مثل عزيمة الحمار على العرس: سخره وجوع وقلّة اعتبار.
فتناول رجل آخر حبل الحديث وقال:
على سيرة “القاورما” يُحكى أن جماعة من اختيارية إحدى القرى، جلسوا يتناقشون في أي ثمر هو أطيب من سائر الأثمار، فحسم الموضوع بالتالي، أحد أصحاب الرأي، قال:
عليم الله، أطيب ثمر على وجه الأرض هو القاورما.
فتوجّهت، مجدّداً، إلى الأخ أبو داود وطلبت منه أن يروي لي حكاية السبت واليهودي، وإذا بصاحب حكاية الوطوط يستوي في مجلسه ويقول:
بيرجع مرجوعنا للوطواط… صار الوطواط ياخذ حكي ويجيب حكي…
فقاطعه أبو داود قال:
متى شاخ الرجل صار يحكي حكاياته “بالتقسيط”… فالتدقير في الحديث هو أوّل علامات الختيرة.
ثم ضرب أبو داود لي مثلاً، قال:
يُحكى أن رجلاً متقدّماً في السن، كان مسافراً على ظهر حمار، من عاليه إلى دير القمر، وعندما وصل إلى “قبر شمول”، عثر الحمار به عثرة بسيطة، فصاح به: “نار…”
ثم هبط الحمار بصاحبه خمسين كوعاً حتى جسر القاضي، ثم صعد به ستين كوعاً حتى بلغ كفرحيم، فأضاف الرجل: وغضب الجبّار!
هكذا شتم الرجل الختيار حمارَه بالتقسيط، فلا بأس إذن، إذا جرى حديثنا اليوم، على أقساط، منها ما هو معجّل ومنها ما هو مؤجّل.
فخشيت، عندئذ، أن ينقضي نهاري: من هنا قصة بلا ذَنَب، ومن هناك ذَنَب بلا قصة، فلا أقبض بالتالي سوى بعض الفرافيط.
ولأني خبير في أطوار البطّالين المتلوطعين الذين ينتدبون أنفسهم قضاة وأصحاب نظريّات وفلاسفة وأرباب دواوين، والذين يصح فيهم قول المثل: “الفاضي بيعمل قاضي، وقليل لاخواص، قوّاس”، فإذا شطحوا في أحاديثهم، فإلى ما لا نهاية له.
لذلك قلت للأخ أبو داود: أرجو أن تشرفني بزيارة ثانية في أقرب وقت ممكن، ولكن بدون “شهود الحال”.
سلام الراسي (1911 – نيسان 2003)
هو أديب لبناني، ولد في قرية إبل السقي من قضاء مرجعيون في محافظة النبطية. ويلقبه أهل الجنوب ب…”أبي علي”. والده القس الإنجيلي يواكيم الراسي، مؤسس مدرسة الفنون الأميركية في صيدا أواخر القرن التاسع عشر. سلام الراسي أحد من أعمدة التراث الحكائي وتراث الأمثال والفلكلور وكل ما يخص التجربة الشعبية اللبنانية وتجربة المنطقة اللبنانيّة الريفية الجنوبية بشكل عام. وقد عُرِف سلام الرّاسي بلقب “شيخ الأدب الشّعبي” وتمتاز كتاباته بسلاسة الأسلوب وقدرة المزج ما بين اللغة الفصحى والمحكيّة.
تاريخ الميلاد :1911
مكان الميلاد : إبل السقي – لبنان
تاريخ الوفاة 2003:
مكان الوفاة : بيروت
المهنة : أديب للفنون الشعبية
اللقب : أبو علي
الجنسية : لبناني
من أشهر مؤلفاته:
– في الزوايا خبايا (1974)
– حكي قرايا وحكي سرايا (1976)
– الناس بالناس (1980)
– حيص بيص (1983)
– لئيلا تضيع
– الجود من الموجود..من الأدب الشعبي
– شيح بريح
– الحبل عالجرّار
ولد ‘أبو علي’ سلام الراسي في 25 كانون الأول 1911، في بلدة إبل السقي، جنوب لبنان، أخاً لثلاثة عشر ولداً. وبكلماته هو “كانت الشمس تشرق في ذلك الزمان من وراء جبل حرمون وتغرب خلف مرجعيون، وقريتنا قائمة في وسط الدنيا…”.
– نشأ في بيت مفتوح لأب هو رجل علم ودين، يواكيم الراسي، الذي تعلم في مدرسة المرسلين في عبيه، ثم أنشأ مدرسة الفنون في صيدا، وبقي مديراً لها منذ 1880 – 1896، وهي التي عرفت فيما بعد بالمدرسة الانجيلية أو شعبياً “بالأميركان” عاد بعدها إلى إبل السقي حيث توفي عام 1917، وكانت له مكتبة عامرة موصوفة وذلك نادر في ذلك الزمن.
– والدته راحيل حنوش التي كانت تسعى لتعليمه تعليماً دينياً، إلا أنها لم توفق.
– شقيقه سامي الراسي، هاجر إلى البرازيل حيث أسّس جريدة “الجالية” في ساوباولو.
– شقيقة الآخر منح الراسي كان مديراً لتحرير جريدة الايسترن تايمز في بيروت التي كانت تصدر بالانكليزية.
– زوجته الأديبة الهادئة إميلي الراسي، لها ثلاث كتب ولهما ثلاث أولاد.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة الضيعة، التي بقيت مرتبطة به وهو بها، ثم انتقل للدراسة الثانوية في مدرسة سليم قربان في مرجعيون التي عاد إليها معلماً لفترة وجيزة.
انتقل إلى بيروت مع والدته سنة 1925 حين اندلعت الثورة السورية، حيث سكن إلى رأس بيروت كما سكنت إليه، والتحق بالجامعة الأميركية لفترة وجيزة عاد بعدها إلى ابل السقي.
هذه النشأة والبيئة والظروف العامة التي أحاطت بالربع الأول من القرن العشرين كان لها أثر عميق في طبع سلام الراسي بطابعها، فهو ابن الضيعة والجنوب والمثقف ابن المدينة في حين واحد، ولد أيام العثمانيين وترعرع في ظل الاستعمارين الانكليزي و الفرنسي لفلسطين و لبنان و سوريا، ثم شب مع الرعيل الأول من الاستقلاليين والوطنيين المناهضين للاستعمار المنادين بالحرية والخبز والعدالة.