حلموا بإيطاليا فغرقوا في طرطوس…لماذا غض النظر عن رحلات مراكب الموت؟

صدى وادي التيم-لبنانيات/

البحر غدار. البحر أسرار. والبحر الذي رمى فيه كثيرون همومهم بات مخضباً بالدم والموت، يختار ضحاياه، يبلعهم ثم يعود ويلفظهم وهم المثقلون بأوجاع العمر التي تشدّ بهم الى الأعماق. إنهم موتى. إنهم موتى أحياء تحولوا في لحظة، في أقل من لحظة، الى ضحايا البحر. وارتاحوا. نتمنى أن يكونوا قد ارتاحوا.

نخاف أن يكون الناس، ناسنا، قد اعتادوا على المآسي. نخاف ان يكونوا قد يئسوا الى حدّ أصبحوا فيه قادرين أن يروا الجثث المشوهة، جثث أطفال ونساء وشيوخ وشباب ذهبوا خنقاً، غرقاً، قتلاً، وتفجيراً، وأن يديروا ظهورهم ويكملون مسار العمر البشع.

بالأمس، قبل أيام، قرر مئة شخص، أكثر بقليل، أقل بقليل، أن يواجهوا بطريقتهم قساوة الحياة ويغادروا في مركب الى مكان ما، وهذه المرة ربما الى إيطاليا. أتتخيلون لبنانيين وسوريين وفلسطينيين يعتقدون أن بمقدورهم أن يشلحوا عنهم مرارة العيش في بلاد من يعيش فيها ميت ويبحرون الى إيطاليا أسوة بذلك المركب الذي سبقهم بأيام حاملاً في بطنه فلسطينيين من مخيم الرشيدية؟ هؤلاء حلموا أيضا بإيطاليا وسمعوا ربما عن روما والبندقية وفلورنسا والكرنفال وميدان سان ماركو أو ربما حلموا بمياه وكهرباء ودواء وربطة خبز وليس إلا، فاختاروا الرحيل. لكن، ليس كل مرة تسلم الجرة.

ألم يسمعوا؟ ألم يشاهدوا؟

ألم يسمع هؤلاء بمآسي من سبقوهم وفشلوا في العبور وانتهى بهم الرحيل الى غرق وموت؟ ألم يشاهد الآباء، آباء سبق وخسروا فلذات أكبادهم ورأوهم، بأم العين، يغرقون الى تحت تحت الى الموت الحتمي؟ غريبٌ هو أمر كل هؤلاء الذين يعرفون أن نسبة هلاكهم تتجاوز نسبة بقائهم ويرمون بأنفسهم في قوارب الموت. غريبٌ هو أمرهم – وأمر من يرونهم- وما زالوا يعلنون بالفم الملآن: هم السابقون وقد نكون اللاحقين لكن أن نموت في البحر خير من أن نموت كل دقيقة وثانية في بلادٍ بات العيش فيها مستحيلاً مقرفاً حتى الموت. باتت الحياة في لبنان لعنة. فهل يراهن من يسمون أنفسهم حكام لبنان تلزيم مصير هؤلاء البؤساء أيضا الى صندوق النقد الدولي؟

ليس سهلا علينا أن نفهم كل هؤلاء إلا إذا زرناهم والتقيناهم وسمعناهم ورأينا “التعتير” الذي يعيشونه. ومن لا يفهم، من لا يصدق، من لا يستوعب، فليقصد جبانة الغرباء في طرابلس، وحينها يرى الصغار هناك يلعبون مع الموتى، يركضون بين المقابر، حيث باتت الجبانات تسليتهم وسكناهم. نراهم يرشون المياه على مقابر الغرباء، مبتسمين، مهللين، مقابل ليرات هزيلة تأتيهم من أناس يزورون المقابر. هذا هو فرحهم الوحيد. أتتخيلون؟

ورحلت قافلة جديدة من الضحايا، ننهمك منذ أيام في تعداد جثثها، متمنين أن يزيد عدد الناجين منها. نجحت هذه الدولة في جعلنا نرى، نتألم، نعدّ، ثم نعود لننهمك في تفاصيلنا المملة والقاسية. ننظر في عيون الأهالي اللاهثين لمعرفة خبر عن ولد وزوج وابن وأب وأم وعائلة كانوا في عداد رحلة الموت. إحداهنّ أمسكت بورقة قيل لها أن فيها أسماء ناجين وتسأل: هل يعرف أحدكم شيئاً عن مصطفى خالد فاروسي؟ ينظر إليها الملتاعون ولا يجيبون. لا أحد يعرف شيئاً عن أحد. ولا أحد يبالي إلا بضحاياه وكم هم كثر. صور الضحايا انتشرت بكثرة. عائلة عكارية رحلت ووحده الوالد وسام تلاوي انتصر على الموج. إنتصر؟ هكذا نخال أما هو فميت أكثر من كل الآخرين. نشاهد الصور ونقرأ في الأسماء: محمد زين ابن القبة في طرابلس. عزمي ببو وابنه أحمد… أسماء أسماء… يا الله على فظاعة هذا الموت.

هؤلاء، من خالوا أنهم سينزلون في إيطاليا، لطمتهم أمواج طرطوس العاتية. سوريون هربوا ذات يوم من سوريا ساقهم القدر من جديد الى ضفاف طرطوس. وفلسطينيون ظنوا أنهم سيجدون وطناً بعد طول لجوء، انضموا في لحظة الى عداد الضحايا. مصيبة واحدة تجمع شعوب ثلاثة من جنسيات ثلاث إنتهى بهم المطاف يطفون جثثا قبالة طرطوس. أحد الرجال، ممن كانوا في المركب، راح يصرخ: “دخيل إجريكم، الجثث أرتال. إنها مشوهة. التعرف على أصحابها محال. مئة. أكثر. الجثث لا تعد ولا تحصى”.

مشاهد مرعبة تتتالى. ولبنان الذي لم يكن في عداد الدول التي يتاجرون فيها بالبشر أصبح متقدماً في خضم المعادلة. إنهم المهاجرون الفقراء الضعفاء الذين ينطلقون من شواطئ طرابلس، المدينة الأكثر فقراً في منطقة الشرق الأوسط، من جديد، وتنقلب بهم قوارب الموت ويفشلون في النجاة من أقدار فظيعة. كنا نسمع سابقاً عن يمنيين وسودانيين وعراقيين وفلسطينيين وسوريين ومغاربة يأخذهم تجار البشر الى أقدار جديدة وها نحن نسمع يومياً عن لبنانيين إنضموا الى كل هؤلاء، الى التعساء على وجه هذه الأرض.

نسميهم مهاجرين غير شرعيين، فيما وكالة الأمم المتحدة للهجرة IOM تسميهم “المهاجرون غير النظاميين”. لأن الهجرة غير الشرعية تمنح سلطات الدول التخلي عنهم، واعتبارهم فاقدي أي حقوق، حتى حين يهلكون، في حين أن الهجرة بشكل غير نظامي لا تعفي الدول من واجب حماية حقوق المهاجر. ثمة أخلاقيات حتى في التسميات، حتى في تسميات هؤلاء الضحايا الذين بعدما افتقدوا كل كل شيء خسروا حياتهم بأقصى طريقة، بالغرق، بالإختناق حتى الموت.

نعود الى طرابلس. نعود الى القهر الطرابلسي. ثمة تظاهرة تجري الآن. خلناها تظاهرة حانقة بسبب قارب الموت والجثث التي لا تزال في قعر البحر لكن لا، هؤلاء يتظاهرون من أجل مياه وكهرباء. يبدو ان الهموم الكثيرة لدى هؤلاء تمنعهم من الإنتباه الى فظاعة كثير من مشاهد الهلاك لأبناء جلدتهم. هو أمر آخر موجع بقدر الوجع على من لاقوا حتفهم في البحر في دولة فقدت ثقة شعبها بها والثقة مثل المرآة حين تتشظى تنتهي فكيف إذا كان: لا ثقة. لا ثقة بتاتا “بقا” بهذه الدولة ومن يُمسكون برقاب البشر فيها.

نشاهد قساوة المشاهد. ننظر الى وجوه انتفخت بفعل الغرق. نشيح بأنظارنا عنها. ونتذكر ما تعلمناه مهنياً ان الصحافة رسالة. ووجوب احترام حرمة الموت. ويا له من موت. ننظر الى وجوه المسنات اللواتي يتكئن على الحفافي وينتظرن على قارعة الطرقات خبراً ما من مكان ما وكلما مرّ وقت على الإنتظار الموجع كلما أصبح اليقين: موت من ينتظرن. نسأل عن جذور هؤلاء فيخبروننا أنهن من عكا، من ببنين والمنيه وحلبا والقبة وطرابلس وأن بينهن أمهات سوريات وفلسطينيات لجأن الى لبنان ذات يوم ظناً منهن أنهن أصبحن في أمان. وكلما دققنا أكثر تأكدنا أن الأمان شيء لا وجود له في بلاد غارقة بالتعاسة.

إحداهن تصرخ وكأنها سمعت شيئاً للتوّ. يسألونها ما بها؟ فتجيب: سمعته، سمعت أحمد يصرخ لي أماه يا أماه. إنه حيّ. أحمد حيّ. وسرعان ما تعود وتسقط في حزنٍ عميق عميق. نحاول من جديد أن نحجب نظرنا عنها وكأننا نحاول أن نتخلص من المشاعر السلبية كلها ونستعيد بعض الأمل لكن كل شيء، كل كل شيء من حولنا، يشي بحجم المصيبة وفداحة الفاجعة.

على مسافة قريبة بعض رجال يدردشون. الرجال في مثل هذه المواقف يبدون أقوى حتى ولو كانت قلوبهم تعتصر حزناً. سمعناهم يتحدثون عن أشخاص يسهّلون الإتجار بالبشر وتهريب البؤساء مقابل أموال باهظة. فالناس تبيع كل ما جنته – وما بقي لديها- وتقرر بلا رفة عين الرحيل – لكن أين الدولة؟ أين مخافر الشواطئ؟ أين الأمنيون الذين عليهم الإنتباه الى ظاهرة الإتجار بالبشر عبر شواطئ طرابلس؟ هل يعقل أن يحمل قارب خشبي كل هذا العدد من البشر ويغادر ولا أحد ينتبه لا الى وجوده ولا الى مغادرته ولا الى فظاعة ما قد يصيب من قرروا النجاة من العيش هنا حتى ولو كانت إمكانية هلاكهم عالية؟

مشكلتنا في لبنان أننا نتناول الموضوع إنسانياً ونتغاضى عن العصابات التي تتاجر بالبشر من أجل تحقيق أكبر العائدات المالية. وهناك، بحسب وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة من يسهل هكذا هجرات في سبيل الإتجار بالأعضاء البشرية والعمل القسري والإستغلال الجنسي. ثمة مخاطر كثيرة يتجاوزها المهاجرون في سبيل بارقة أمل. فهل علينا أن نسأل هنا أيضا: “وينيه الدولة؟ لا تندهوا ما في حدا”.

ثمانون ضحية؟ تسعون؟ أكثر؟ عشرون ناجياً وناجية؟ أكثر؟ كل حياة مهاجر مهمة. لكن، هل هناك من لا يزال يحفظ اسم مهاجر واحد قضى يوم غرق قارب الموت قبالة طرابلس قبل اشهر؟ نراهن على أن الجواب “لا نعرف”. سمعنا البارحة من الأسماء الكثير. سمعنا شهادات عن ضحايا قارب الموت وغداً أو بعده سننساهم. وستظل أسئلة كثيرة بلا أجوبة: من يدأب على تنظيم هكذا رحلات؟ يقال أن القوى الأمنية إشتبهت بأشخاص. قبل حين، يوم حصلت الفاجعة السابقة، إشتبهت أيضا باشخاص. لكن، لم نعرف ماذا حلّ بالمشتبه فيهم ولا نعرف كيف تغادر هكذا قوارب من مدينة طرابلس تحت عين القمر؟ تراهنون؟ لا أجوبة والرحلات مستمرة ومن يستعدون لها لا ينكرون ما دام البحر القاتل خشبة خلاصهم الوحيدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!