التعبئة لدى الحزب أصبحت مكتملة.. لـ”تحرير البحر”

صدى وادي التيم-لبنانيات/

تعيش الدول الأربع، التي سبق لمسؤولين إيرانيين وأعلنوا خضوعها لسيطرتهم، مصائر متشابهة. أزمات سياسية وأمنية وعسكرية، انهيارات اقتصادية، اضطرابات اجتماعية وتحللاً ثقافياً، وتفوق فرق وميليشيات عسكرية وسياسية على الدولة وتغولها على المجتمع. في عزّ الأزمات يستعيض حلفاء إيران عن العجز في حلها بعروض عسكرية، من شأنها رفع المعنويات لدى البيئات الحاضنة، وتحميل مسؤولية الانهيارات المعيشية والاقتصادية والمالية إلى خصومهم في الداخل والخارج. وهذا مسار مفتوح منذ التسعينيات إلى اليوم. وربما أكثر من خبره هو لبنان، الذي كان سباقاً في أزماته. فلطالما حمّل الحزب مسؤولية الانهيار إلى السياسات الاقتصادية وحسب وإلى الأسباب الخارجية.

سردية الحصار:
هي سردية قدمها الحزب في لبنان، ولاقت صدى في سوريا، العراق، واليمن. كل القوى المتحالفة مع إيران تحيل أسباب الأزمات الاقتصادية إلى الضغوط الخارجية وإلى فساد الخصوم. لا تنظر هذه السرديات في لبنان مثلاً إلى أي مسؤولية تتحملها الوصاية السورية مثلاً، ولا تحمّل نفسها مسؤولية ما جرى، علماً أنها في السلطة منذ العام 2005 وأنجزت انقلابات متوالية وصولاً إلى حدّ الإمساك بالسلطة بشكل كامل. استمرار سردية الحصار الأميركي لدى الحزب  والتعرض لضغوط أدت إلى الانهيار، هي نفسها التي كان يرتكز عليها العراقيون المتحالفون مع طهران في السابق، وتحديداً طوال السنوات التي سبقت الانسحاب الأميركي من العراق. لكن اللافت أن الانفجار الشيعي- الشيعي في العراق أنتج سردية مختلفة تشير إلى أن المشكلة مع إيران، طالما أن الأميركيين قد انسحبوا. وحتى سوريا التي يحتفي محور الممانعة بانتصارها، ها هي تعيش أزمات اقتصادية ومالية ومعيشية خانقة إلى جانب الأزمات السياسية، من دون أي قدرة على تحقيق تقدم في أي مجال من دون الحصول على استثناءات أميركية.

بين برّي والعونيين:
وفي لبنان أيضاً على الرغم من موقف الرئيس نبيه برّي الذي أشار فيه إلى عدم رهان أي طرف على خلاف بين الحزب  وحركة أمل، ولا سيما في موضوع الصراع مع إسرائيل، إلا أن هناك اختلافاً واسعاً في الرؤى. وهذا يظهر في متن الخطاب المقدم. فبرّي مثلاً حمّل مسؤولية عدم الحصول على مساعدات من البنك الدولي بسبب عدم تشكيل هيئة ناظمة للكهرباء، وبالتالي اتهم التيار الوطني الحرّ بذلك. مسقطاً بذلك سردية الحصار التي يتبناها أمين عام الحزب السيد  ن ص ر ا ل ل ه.

في المقابل، فإن التيار الوطني الحرّ يحمل مسؤولية الانهيار بقسطه الأكبر إلى نبيه برّي وأركان المنظومة. علماً أنه لدى انتخاب عون قيل إنه الرئيس القوي الذي جاء ليقتص من زعماء وأركان الطائف، لكن نتائج عهده وحكمه كانت كارثية. على أي حال، تحمّل الشيعية السياسية مسؤولية الانهيار إلى خصومها في الداخل والخارج. فالحزب  يحمل المسؤولية للحريرية وللأميركيين، فيما برّي يحمل المسؤولية لميشال عون. أما على مقلب المارونية السياسية وبالجزء العوني منها فيحملون المسؤولية للحريرية ولأركان الطائف. كلا الطرفان يحاولان التهرب من مسؤوليتهم عن ذلك.

ما بعد عون:
هذا كله، سيقود إلى مزيد من الصراعات والخلافات في مجالات سياسية واقتصادية لا سيما عند الإستحقاقات الكبرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن كل هذه الاتهامات يمكن إسقاطها غبّ الطلب، عندما تحين لحظة الاتفاق السياسي، كما حصل بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، أو بين السرديتين المختلفين العونية والحريرية، فتحالف الطرفان فيما بينهما وقدما وعوداً وردية، وما بعدها تجددت لغة الاتهامات.

حالياً هناك سؤال أساسي يُطرح حول ما بعد خروج عون من قصر بعبدا ومن السلطة، فهل سيكون لبنان متجهاً إلى حلّ ازماته المالية والاقتصادية؟ أم أن الأزمات ستستمر فيكون البحث حينها بالنسبة إلى الحزب  عن أطراف جديدة يتم تحميلها المسؤولية؟ هذا هو المرجّح، طالما أن الحزب يجيد تقديم سرديته بتحميل مسؤوليات الفساد والانهيار إلى سياسات سابقة، وطالما أنه يتجنّب أي اتهام بهذا الخصوص، فهو أكثر ما يريحه أن حلفاءه وخصومه يتهمون بعضهم البعض بالفساد وبأسباب الانهيار، فيما هو يجعل من نفسه حكماً أو صاحب منح صكوك الغفران.

رهان استراتيجي:
اللافت هنا أن سردية الحزب تستكمل في رؤيته لحلّ الأزمة المالية والاقتصادية. فكان واضحاً موقف أمين عام الحزب عندما اعتبر أن الحل لا يتمثل في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، أو مع الجهات الدولية، ولا في اتخاذ قرارات توافق عليها الجهات المانحة، إنما الحلّ هو في استخراج الغاز والنفط. وهذا مسار يؤكد نية الاستمرار في النهج المتبع ذاته، على طريقة ما يجري في العراق أو سوريا. هنا يتبنى نصرالله وجهة تحميل مسؤولية الانهيار إلى الآخرين.

لذلك ثمة رهان استراتيجي بالنسبة إلى الحزب على ملفين أساسيين، ملف انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وملف ترسيم الحدود. الملفان مرتبطان ببعضهما البعض، ففي الأول، لا يبدو الحزب أنه في وارد تحمّل أثقال رئيس متحالف معه، كما حصل مع عون. إنما يريد رئيساً للآخرين حصة فيه، يتمكن من تحميله وتحميلهم مسؤولية استمرار الانهيار، ويسهل اتهامهم، فيتخفف هو من أثقال المسؤوليات، ويؤكد أنه غير مسيطر على البلد. أما في ملف الترسيم فهو يريد أن يكون صاحب القرار الأخير والنهائي، وفق المعادلة التي طرحها، ولكن أيضاً من دون تبنّي ذلك علناً، ولذلك يقدّم سرديته بأنه يقف خلف الدولة ويصرّ عليها. ويعلن أنه يلتزم بما تقرره، وأن موقفه يأتي لدعم موقعها التفاوضي.

“تحرير البحر”:
ولهذا الموقع ظروفه واحتياجاته، والحزب  أكثر من يجيد الإمساك بخيوطها، من لعبة الحرب النفسية إلى البروباغندا، والاستنفار العسكري المشهود والمقصود، كنوع من أنواع الاستمرار في حرب الوجود، أو حرب تحرير البحر كما يُطلق عليها في إطار تحضيراته النفسية لاحتمال حصول أي تطور أو تصعيد عسكري. يعرف الحزب أن هذا الملف هو في إطار اللعب السياسي على صعيد أكبر وأوسع من لبنان، مع الأميركيين بالتحديد، بانتظار الوصول إلى تفاهم معين. ولو اقتضى ذلك الدخول في أيام قتالية، او ضربات متنقلة. عملياً، عناصر التعبئة لدى الحزب وبيئته وجمهوره أصبحت مكتملة، على الرغم من عدم الرغبة في الذهاب إلى حرب.

في المقابل، فإن الأزمة السياسية في إسرائيل والصراع الانتخابي، يؤديان إلى تأجيل أمد توقيع اتفاق ترسيم الحدود. هي مماطلة ينتقدها الحزب  ولا يزال يردّ عليها بالمزيد من التهديدات والتحذيرات، وصولاً إلى الموقف الذي أطلقه نبيه برّي بشكل متماهٍ مع موقف الحزب حول الجهوزية العسكرية وحول رمي الكرة في الملعب الأميركي. بالإضافة إلى تشديد الحزب على السماح للبنان ببدء أعمال التنقيب. وفيما كان الحزب يراهن على دور لشركة توتال الفرنسية إنطلاقاً من تواصل مستمر بينه وبين الفرنسيين، جاء جواب توتال بالمطالبة بضمانات سياسية وأمنية وعسكرية لبدء العمل على طريقة إدارة الأميركيين للمفاوضات، أي تأجيل الأمر إلى ما بعد الاتفاق.

الدور الفرنسي والمغامرة العسكرية:
تشبه العلاقة بين الحزب والفرنسيين، العلاقة بين إيران والفرنسيين أيضاً. الطرفان يراهنان على دور فرنسي لترتيب الوضع حول الاتفاق النووي أو حول الواقع اللبناني، وكلاهما يتفاوضان مع باريس ويفتحان الأبواب والقنوات للوصول في النهاية إلى ما سيتم إرساؤه مع واشنطن. في مثل هذه اللعبة، تجوز المناورات السياسية، والمفاوضات على ملفات متعددة، وقد يجوز في مراحل منها اللجوء إلى التصعيد. في البيان الصادر عن الاتصال الهاتفي الذي أجري بين جو بايدن ويائير لابيد تم دمج ملف ترسيم الحدود مع لبنان في فقرة واحدة مع ملف الإتفاق النووي. هذا مؤشر على الربط الأميركي الإسرائيلي بين الملفين. وحتى لو كان الحزب في معرض النفي.

ربْطُ الأميركيين والإسرائيليين للملفين معاً، له أسبابه وقراءته. ويحرص الأميركيون على الاستمرار بضخ أجواء إيجابية حول الملفين على الرغم من استمرار المماطلة، إما من خلال إطالة أمد التفاوض مع إيران، أو من خلال الاستمرار بتسريب مواقف إيجابية حول ترسيم الحدود، وأنه أصبح قريباً، وذلك لتجنب أي تصعيد أو أي انفجار. فهناك حدان فاصلان بالنسبة إلى الأميركيين، الاول هو الحاجة إلى الاتفاقين النووي والترسيم معاً بسبب الحاجة إلى النفط. فيما الحدّ الثاني هو أن لا أحد يريد الحرب. وهذه مصلحة استراتيجية بالنسبة إليهم. ولكن قد تحصل بعض الصدامات، أو معادلة ضربة مقابل ضربة لتحسين كل طرف لشروط التفاوض ولفرض الجلوس على الطاولة.

حاجة الحزب  لإثبات كلمته وتنفيذ تهديده قد تفرض عليه تنفيذ عملية أمنية أو توجيه رسائل كما حصل في السابق. في المقابل، حاجة إسرائيل الانتخابية والبحث عن شرعية شعبية. أيٌ من هذه التطورات مرتبط بوقف مسار الرسائل أو بحال غلب عليها الطابع السلبي.

جزء من هذه المواجهة يمكن اعتبارها مفتوحة بشكلها غير الكلاسيكي في سوريا. ضربات متوالية ومتنوعة يستهدف فيها الاسرائيليون مواقع ايرانية ومخازن صواريخ، فيما تطورت الضربات لتشمل شحنات أسلحة يقول الاسرائيليون إن الإيرانيين يعملون على نقلها للحزب  في لبنان. وبالإضافة إلى الضربة الأخيرة في حلب ودمشق، كان هناك استهداف لمخازن تحتوي على مواد غذائية، توضع في خانة المواد اللوجستية للحزب  لدى اندلاع أي مواجهة سواء في لبنان أم سوريا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!