5500 غادروا بعد تفاقم الأوضاع… أزمة هجرة الأطباء والممرضين تتفاقم أكثر فأكثر

صدى وادي التيم-لبنانيات/

لا توجد أرقام دقيقة عن أعداد هجرة الكفاءات، وإنما هناك إحصاءات عن حركة الركاب في المطار والمغادرين للبلاد والتي ارتفعت من 33129 راكباً في 2018 الى 66806 ركاب في 2019 فإلى 79134 راكباً في 2021 فإلى 93807 منذ بداية العام لغاية 11 تموز الجاري.

قطاعياً، تبين الأرقام التقريبية أن هجرة الأطباء سجّلت ارقاماً مرتفعة اذ بلغت نحو 3000 طبيب مقابل نحو 2500 ممرض وممرضة. وتتفاقم الأعداد يوماً بعد يوم وتطاول كل القطاعات مع استمرار التخبّط في الأزمات ومراوحة التعطيلات السياسية مكانها، وتحقيق العملة اللبنانية مزيداً من الإنهيار والقطاع الكهربائي والمعيشي مزيداً من التدهور.

فما هي تداعيات تلك الهجرة على الإقتصاد اللبناني؟

فُرضت الهجرة على اللبنانيين كضرورة، اذ شكّلت وسيلة لتجاوز مساوئ الاقتصاد وخصوصاً لذوي الكفاءات الذين يتوقون الى تحسين مستوى معيشتهم، وتأمين غد افضل لأفراد عائلتهم. فلتلك الهجرة سيئات تتجلى بخسارة البلاد للكفاءات وتدني مستوى أداء القطاعات التي تتركها، خصوصاً اذا تسارعت وتيرتها وكانت بعشرات الآلاف كما حصل منذ تشرين 2019، عندما انفجر الوضع المالي والنقدي في البلاد، وبدأ مسار الإرتطام الكبير. وما زاد في الطين بلة إنفجار مرفأ بيروت الذي قضى على كثير من الآمال بإمكانية وجود مستقبل في لبنان.

وللهجرة حسنات، اذ أنها تمثل فرصة ومورداً للعائلات التي لولا المغتربين وتحويلاتهم البالغة نحو 7 مليارات سنوياً، لكانت ترزح اليوم تحت خطّ الفقر وتتقهقر من المرض والعوز. والهجرة ليست ظاهرة مستجدة بل كانت قائمة تاريخياً، الا أنها تفاقمت اليوم مسجلة أرقاماً قياسية. وكان يعتبر عدد حاملي الشهادات الجامعية في السنوات الماضية، أي قبل اجتياح الأزمة المالية لبنان في تشرين 2019، الذين تابعوا جزءاً من دراستهم أو كلها في الخارج مؤشراً للاستراتيجيات الفردية لتحسين الوضع الشخصي من خلال الإقامة الموقتة في الخارج.

وهكذا، فقد كانت نسبة 39% تقريباً من المهندسين و60% من الأطباء يحصلون على شهاداتهم في الخارج. وتصل هذه النسبة إلى 75% في ما يتعلّق بالأطباء الاختصاصيين. وهذا يدل على أن الهجرة تندرج في استراتيجيات، تمّ التخطيط لها مسبقاً، من أجل الترقي الاجتماعي.

أصابت الأزمتان المالية والإقتصادية التي يتخبّط بها لبنان القطاع الطبّي والتمريضي في الصميم مع انهيار قيمة الرواتب، فحسم عدد كبير منهم وخصوصاً حاملي الشهادات من الدول الأوروبية والبريطانية والأميركية…

أمرهم وتركوا البلاد بحثاً عن مردود أعلى وفرص افضل. ويقول رئيس نقابة الأطباء في لبنان يوسف بخاش لـ»نداء الوطن» ان نحو 3000 طبيب غادروا البلاد منذ بداية الأزمة لغاية اليوم وذلك وفقاً لمرحلتين: «الأولى، مرحلة 17 تشرين 2019 وانهيار القطاع المصرفي، حيث غادرت الكوادر الطبية العاصمة، وخصوصاً الذين لهم علاقة بالدول الغربية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، إذ كانت العملية سهلة بالنسبة اليهم، وتحديداً أصحاب الإختصاص في جراحة القلب عند الأطفال، وعددهم قليل أساساً، ما شكّل نقصاً حاداً في هذا الإختصاص.

الموجة الثانية من الهجرة برزت بعد انفجار 4 آب 2020. فتكثفت الهجرة نحو دول الخليج والعراق. عدّل بعض الأطباء شهاداتهم وشطبوا أسماءهم من النقابة وقرروا العمل في الخارج. فاستفادت الدول الخليجية أكثر من خبرة الأطباء اللبنانيين».

لم يبق كل الذين غادروا البلاد في الخارج، اذ عمدت بحسب بخاش «نسبة 10% من الأطباء المهاجرين الى العودة الى البلاد بسبب عدم تأقلمهم مع المتغيرات، خصوصاً وأن رواتب اللبنانيين في دول الخليج لم تعد مرتفعة كما في السابق بل تدنت، والعقد الموقع معهم يكون لفترة عام». وتطرق بخّاش الى ظاهرة الشروط التعجيزية التي تضعها المصارف والتي تشكّل مشكلة للجسم الطبي، فاللجان الطبية في المستشفيات تتسلّم تحويلات الجهات الضامنة مثل الضمان الاجتماعي ووزارةالصحة… إلا أنها لا تستطيع سحبها وتوزيعها على الأطباء، ما يفاقم المشكلة النقدية بالنسبة الى الطبيب، فيشدّ من عزيمته للبحث عن فرصة أفضل في الخارج.

ولفت الى أن الأطباء ينقسمون الى نوعين: «منهم من يغادر البلاد وهو على استعداد للعودة إذا تحسّنت الأوضاع على المدى المتوسط أي خلال سنة او سنتين أو ثلاث سنوات. وهناك الخريجون الجدد الذين يتطلعون لمتابعة تخصصهم في الخارج. هؤلاء اذا لم تستقم الأوضاع في البلاد في المدى المتوسط لن يعودوا أبداً الى لبنان وسنخسرهم، اذ سيستقرون ويتزوجون ويبقون في الخارج». وهذا الأمر بالنسبة الى بخّاش من شأنه ان «يشكّل تغييراً ديمغرافياً للجيل الجديد الذي نحتاج اليه لتأسيس طب العام 2030، وسندخل في مرحلة تغيير طبيعة النظام الصحّي في لبنان. ولغاية الساعة، لا تدرك الدولة اللبنانية خطورة هذا الأمر وتأثيره حتى على القطاع السياحي والإستشفائي.

خصوصاً مع توجّه الكفاءات الطبية الى العراق ودول الخليج، فرعايا تلك الدول كانت تقصد لبنان بهدف السياحة الإستشفائية وينتج عن ذلك ضخّ أموال في الإقتصاد ككل».

في ظلّ هذا الواقع المرير، يحاول بخاش أن يضيء شمعة من خلال قلب تلك المشكلة الى واقع ايجابي، عبر اعادة هيكلة النظام الصحّي ووضعه على السكة السليمة أي الطريقة الغربية. فنقابة الأطباء بالتعاون مع وزارة الصحة والجمعيات العلمية كما أوضح «تعمل على نظام صحّي ليكون الأول من نوعه في المنطقة. وهو اعتماد قاعدة التوجّه الى الطبيب العام ليكون طبيب العائلة لاستشارته قبل التوجّه الى الإختصاصي. وبذلك نستفيد من الأطباء العامين الخرّيجين غير القادرين على التخصّص في الخارج والصامدين في وطنهم.

أما الخطوة الثانية التي تعمل نقابة الأطباء عليها، فهي توثيق العلاقة مع الإ نتشار اللبناني من الأطباء من خلال لقاءات دولية للمحافظة على العلاقة مع الداخل اللبناني.

باعتبار أن الأطباء اللبنانيين المهاجرين هم كنز للبنان، كيف لا وهم يكسبون خبرة جديدة يمكن أن ينقلوها الى الداخل ويسهموا في المحافظة على مستوى طبي عالي».

بدوره أكّد رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لـ»نداء الوطن» أن «عدد الأطباء الإختصاصيين بات ضئيلاً مثل اختصاص جراحة الشرايين والدماغ والقلب، ولم يعد العدد المتبقي من الأطباء والممرضين يكفي حاجات المستشفيات كافة. وهذا الأمر دفع القسم الأكبر من المستشفيات الى خفض عدد الأسرة لديها».

وبدوره يرزح القطاع التمريضي تحت عبء الهجرة، ولفتت نقيبة الممرضين والممرضات ريما ساسين لـ»نداء الوطن» الى «أن الجسم التمريضي خسر أكثر من 2500 عنصر من الكفاءات لديه. الأمر الذي ترك تداعيات على العناية التمريضية بسبب النقص في القطاع الإستشفائي. فبعض المستشفيات أقفلت أقساماً لديها، ومستشفيات أخرى باتت تحمّل الممرضة عبئاً اضافياً، اذ بدل أن تعتني الممرضة الواحدة بـ7 مرضى وفقاً للمعيار المعتمد عالمياً باتت تهتم بـ10 و 15 و 20 مريضاً، ما خلق تعباً جسدياً ونفسياً، وشكّل أحد العوامل الدافعة الى الهجرة».

وبالنسبة الى الوجهة التي سلكها القطاع التمريضي، فكانت استناداً الى ساسين «نحو الخليج بشكل خاص وبلجيكا والمانيا وكندا والولايات المتحدة. لذلك اطلقت النقابة صرخة ولا تزال تناشد بإنقاذ قطاع التمريض. فمن دون وجود ممرضات وممرضين يتمتعون بالكفاءة المطلوبة للإهتمام بالمرضى، لا يمكن للمستشفيات الإستمرار. ونعدّ خطة تفاوضية استراتيجية مع كل المعنيين من نقيب المستشفيات ووزارتي الصحة والعمل لتحسين شروط العمل والمحافظة على الممرضات والممرضين. الى ذلك نعمل لجذب عنصر الشباب للإنخراط في قطاع التمريض نظراً الى الحاجة اليهم، وذلك بعد تحسين شروط العمل».

في ما يتعلق بالقطاع الصناعي الذي يشكّل نسبة 30% من اجمالي الناتج المحلي، فالهجرة لامسته بدورها رغم أنه القطاع الأكثر حاجة الى اليد العاملة، بسبب زيادة إنتاج الصناعات المحلية مع استفحال أزمة كورونا وانهيار قيمة الليرة وارتفاع أسعار السلع المستوردة التي تسدّد قيمتها بالدولار النقدي، وزيادة أكلاف الشحن بسبب ارتفاع سعر برميل النفط العالمي. وأوضح نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش لـ»نداء الوطن» أنه لا توجد ارقام دقيقة عن الكفاءات الصناعية التي تهاجر البلاد اذ ان كل من تصحّ له فرصة للعمل في الخارج يغادر»، مشيراً الى أن «الموظفين والعمال في القطاع الخاص للأسف يبحثون عن الهجرة. وكأن هذا الموضوع ممنهج لضرب القطاعات بأكملها». معبّراً عن خشيته من المساس بقطاع الصناعة الذي يوظف نحو 195 ألف صاحب خبرة، والذي لا يمكن استبداله بآخر. واعتبر بكداش أن من أسباب تدني رواتب المستخدمين في الصناعة تدني رقم المبيعات في كل القطاعات والتي تراوحت بين 25 و 60%، تزامناً مع توقف التصدير الى المملكة العربية السعودية والبحرين.

وبدوره أكّد مدير عام جمعية الصناعيين طلال حجازي لـ»نداء الوطن» أن «غالبية الكفاءات التي تغادر القطاع الصناعي تتوجّه الى دول الخليج. وكلّما طال أمد الوضع السيئ الذي نتخبّط به، كلما زاد أعداد هجرة الأدمغة». علماً ان المصانع صحّحت أجور الموظفين بالليرة اللبنانية وجزءاً من الراتب يتقاضاه العامل بالدولار النقدي. وبالنسبة الى العمال الأجانب أشار الى أن «العمالة الأجنبية لدى المصانع انخفضت بنسبة 80% واستعيض عنها باللبنانية».

بالنسبة الى قطاع الهندسة والمقاولات الذي تأثّر أيضاً بسبب الجمود اللاحق بحركة البناء، فمن وجد عملاً في الخارج توجّه من دون تردّد لتأمين مستوى المعيشة اللائق الذي اعتاد عليه. وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الاختصاص في قطاعات الضيافة والمطاعم والفندقة. إذ أكد أصحاب مطاعم أنهم يعانون حالياً من توظيف كفاءات في هذا القطاع بسسب تزايد الهجرة.

مثله مثل سائر القطاعات الخاصة، وفي ظلّ عمليات الصرف الجماعية التي تحصل في القطاع المصرفي، توجّه عدد منهم الى الخارج. ويقول رئيس نقابة موظفي المصارف في لبنان أسد خوري لـ»نداء الوطن» انه «منذ بداية الأزمة المالية لغاية اليوم ترك أكثر من 6000 مستخدم في القطاع المصرفي عملهم، اكثر من نسبة 15% منهم أي نحو 1000 موظف تركوا عملهم بعد ان تلقوا عروض عمل في الخارج، وغالبيتهم من قسم المعلوماتية والكمبيوتر»، لافتاً الى أن عدداً منهم استقال بشكل إفرادي. وعملت النقابة على تحسين شروط ترك العمل، فنسبة نحو 40% من المستخدمين خرجوا ببرامج تعويضية مرضية». لم يعد هناك اذاً معيار للهجرة الى الخارج، فالخارج من البلاد بات مولوداً والداخل مفقوداً بفعل انعدام الآمال لدى الشباب بتحسّن الأوضاع والسير على سكّة التعافي في ظلّ بقاء الحكم للمنظومة نفسها بالطريقة عينها.

هجرة ما قبل الأزمة في لبنان لم تعد كما بعدها. فتلك التي كانت قائمة قبل تشرين 2019 كانت تتركز على الخريجين الجدد والفئات الشابة بشكل خاص. أما في ما بعد فباتت متاحة كما اوضح الخبير الاقتصادي جهاد الحكيّم لـ»نداء الوطن» لكل من تيسّرت له، ولو تبوأ المهاجر مركزاً أدنى، ولكل فئات الأعمار، فخسرت القطاعات التعليمية والطبية…الأدمغة وفرغت من الكفاءات»، علماً أن الرواتب التي باتت تعرض على اللبناني داخلياً تقلّصت قيمتها تأثراً بانهيار العملة محلياً وارتفاع قيمة العملة الصعبة».

ولفت الى «ظهور هجرة جديدة افتراصية، اي العمل عن بعد مع مؤسسات خارج البلاد. فتلك الهجرة تكسر الحاجز لمن تعذر عليه الحصول على فيزا، أو آثر البقاء في لبنان والعمل عن بعد من خلال خدمات اقتصاد المعرفة. وتلك الهجرة ساهمت ببقاء وصمود الكثير من الشباب في لبنان بسبب حصولهم على رواتب بالعملة الصعبة، تكفيهم وتكفي إعالة أفراد عائلاتهم الذين تدهورت رواتبهم وتبخرت مدخراتهم.

المصدر:باتريسيا جلاد”نداء الوطن”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!