السيرَة الذاتيَّة لِرِنجِر

أنا مركونٌ بوضعيةِ “إستَرِح” فَوْقَ برطاشِ بابِ المطبخ. “فَردَتي” وأنا واقفان بانتظار انتعالِنا في الصباح الباكِرِ مِن رِجلَين بَطَلَتَين. أتلمّسُ الدوائرَ المعدنيةَ التي تسوِّرُ مخارجي عروةً عروة. لن أخذلَ البطَل. سأشدُّ رجلَيهِ مِن صَميم رِباطي. أن يمشي بخطى واثقة هي المهمةُ التي انتُدِبتُ لِتَحقيقِها. أنا رِنجرُ جنديٍّ لبنانيٍّ وأعتز.
في أرجاءِ البيت الصغيرِ ظلمة. مثلُ كل بيوتِ الناس، بيوتُ العسكَر تُقاسُ في الهندسةِ بالأمتار. في الكرامةِ لم يخترعوا بعد وحدةَ قياسٍ تُقاسُ بِها. أنا رِنجرٌ أنتظرُ بفارغِ الصّبرِ انبِلاجَ الفَجر. لا تَعتَريني التُّخمَةُ إلا في رِجلَي البَطَل. أحظى بأجملِ يدَينِ على الإطلاق تسهرانِ على تنظيفي وتلميعي. يَدا أمٍّ وزوجةٍ وأختٍ وإبنَة. أيادٍ تعتني بنضارتي فأكون جاهزًا للقيام بالمَهام .

على مقربةٍ منّي فُتاتُ بحصٍ وتراب. كنتُ اليومَ أمشِّطُ حقلًا في لبنان. لم أترك ركنًا فيه إلا ومشيتُهُ. تخافُ منّي الأفاعي فتركنُ إلى أوكارِها وتهابني الذئابُ فَتَغورُ في وِجارِها. أنا رِنجرُ عسكريٍّ في الجيش اللبناني لم أصَمَّم للسيرِ على الأقدامِ فحسب. تَمَّ تَصميمي للسَّيرِ على الأقدار.

أبيتُ ليلَتي على البرطاش بهدوء. انتظرُ أمرَ يَوْمِ البطل في الصباح الباكر. هل تعلمونَ أنني أول المستيقظينَ بين كلِّ المُنتَعَلين في الوطن؟ أنا أحمي أرجُلًا مبارَكة بالسَّهَر. كثيرَةٌ هي الأحذيةُ التي تُنتَعَلُ في بلدي. كلُّها مشكورةٌ لكنني أعملُ بعدَ الدوام. حينَ ترتاحُ أحذيةُ الناس تبدأُ مُناوَبَتي. تأخذُني أرجُلُ الأبطالِ إلى الحرية. على هذه الطريقِ الوعرة لا تمشي إلا الأَرجُلِ الجبّارة. قوّتي ليست في جِلدي. قوّتي في الأرجُل الجبارةِ التي تنتعلُني.

غدًا سيستيقظُ البَطَلُ. سيجدُني مُطيعًا لِقَدَمَيه. نظيفًا مهفهَفًا وطريًّا. طبقةٌ سميكةٌ من المطّاط تُصَفِّحني ليمشي سيِّدي مَلَكًا. أيُّ طريقٍ يسلكُ وَطَني إلا ذاكَ الذي أسلكُهُ غدًا؟ في الصباح الباكِر سأكون على موعدٍ مع تحية العَلَم. أنا أكثرُ حذاءٍ محظوظٍ في العالَم لأني أدوسُ على أرضٍ يُنشِدُ عليها الجنودُ النشيدَ الوطنيَّ اللبناني. يمنةً ويسرةً رنجراتٌ في خدمةِ أقدام الجيش الهدّارة.

للبشَرِ ضفائرُهُم. مجدولةٌ هي من خصائِل شعرِهِم. ضَفائِري حبالٌ غليظةٌ تدخلُ في عروة لتخرج من أخرى. أصابعُ الأبطالِ تشدُّها ثمَّ تعقِدُها لتصبح ” خَطِّة قَدَمكُن عالأرض هَدّارة ” . يُخَيِّمُ صمتٌ في بيتِ الجندي. كلُّ هندامِه يسهَرُ على نَومِه. قميصُهُ، سترَتُهُ. بِنظالُه، جيوبُه، زنّارُهُ، قبَّعَتُهُ، رقمُهُ العسكري، سلاحُهُ الأميري، أزرارُهُ، جواربُهُ وكل ما يمتُّ إليه يفوحُ عزّةً ومجدًا وسؤددًا.

أنا رِنجرٌ لا أتعب. لا أزورُ الصيانة. أتسلّقُ الجبالَ وأنزلُ الوِديانَ السّحيقةَ وأركبُ الأخطارَ وأسبحُ في الوحول. دائمًا في الخدمة حتى لا أخذلَ أقدامَ الأبطال. غدًا عندما تتقاعدُ أقدامُ الجيش لن أُرمى. لا أعتقُ ولا أشيخ. سأبقى شاهدًا للأولاد والأحفاد يروي قصصَ الأبطال في الجرود والحدود وهضبات الوجود.

في هدأةِ الليل أتحضَّرُ لجولةٍ جديدة. أشتمُّ عطرَ الثكنات والعرباتِ العسكرية ومربَّعاتِ الأرصِفة. كلُّ ما أدوسُهُ وجعٌ. لكنه وجعٌ يضحك. أدرِكُ بأني لا أمشي على الأرض بل أمشي لها. في داخلي رِجلانِ مِن عضلاتٍ لا تستقيل. صرتُ لهما خادمًا أمينًا وطيِّعًا. جلَّ ما أتمنّاه أن أبقى خادمًا لهما ما حَييت. أنا رِنجرٌ شاهدٌ على قوافلَ مرقّطةٍ تمشي ليمشي لبنان. لم أكن يومًا غرضًا من أغراضِ الحياة. أنا خادمُ الحياةِ في قَدَمَي جندي.

قليلًا بعد وأذهبُ في رحلةٍ جديدة حيث لا عَلَمًا إلا علَم لبنان. رجائي ألا يمسَّ أحدٌ بقايا التراب في نَعلَّي. أن اتنشَّقَ عطرَ هذا التراب يحوّلني إلى حذاءٍ مفيد. تحيةُ وفاءٍ للرِّجلَين اللتَين تنتعلانَني. فيهما ما يكفي من عزيمةٍ لخلود لبنان.

 

المصدر:النهار – روني ألفا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!