شباب لبنان هرباً من “جحيم” بلدهم يدخلون “جنة” الهجرة أفواجاً
صدى وادي التيم- لبنانيات/
لم يكن مشهد الطوابير أمام مراكز الأمن العام لاستصدار جوازات سفر جديدة بالمشهد العابر، على رغم أن لبنان يوسَم تاريخيا بأنه بلد الهجرة، بدءا من الفينيقيين وصولا إلى… “عفوا” جموع المتسولين “فيزا” من أي سفارة إلى أي مكان في المعمورة، اللهم إلا البقاء في جحيم لبنان.
مشاهد الوداع في صالات المغادرة في مطار بيروت توثّق ان الاعوام الثلاثة الاخيرة كانت سنوات الهروب الجماعي من “جحيم” لبنان. والمؤسف في هذه الهجرة أنها “تشفط” جيل الشباب المتعلم واصحاب المهن الحرة والمتخرجين الجدد، حتى تكاد الفئات العمرية بين العشرين والأربعين من الاعمار تنفد من المجتمع اللبناني الذي ينحو أكثر فأكثر إلى أن يكون مجتمعا طاعنا في السن. هذه الاشكالية ستوقع المصانع والمؤسسات بأزمة مستقبلية، بدا نذيرها مع فقدان اليد العاملة الشبابية التي يبدو ان هجرتها ستطول، خصوصا ان “لبنان يحتاج بأحسن الاحوال إلى 12 عاما ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في العام 2017 وبأسوأ الاحوال إلى 19 عاما”، وفق تقديرات البنك الدولي.
وإذا كانت الهجرة الكبرى الاولى في فترة الحرب العالمية الأولى دفع ثمنها جبل لبنان نحو 330 ألف شخص غالبيتهم من القوى الزراعية العاملة، فإن الموجة الثانية الكبرى التي جاءت خلال الحرب الاهلية هجّرت إلى المغتربات نحو مليون لبناني من الكادرات الصناعية والمهن الحرة.
أما الهجرة الكبرى حاليا فتجتاح بقسوة حمَلة الشهادات العليا والكادرات الطبية والصناعية والسياحية والهندسية والمالية والمصرفية. والمؤذي هنا أن هؤلاء يشكلون الثلاثية الذهبية لأركان الاقتصاد اللبناني وهي السياحة والاستشفاء والمصارف. عدا عن ذلك، فإن الجامعات الكبرى لم تنجُ من هذا النزف، على رغم المحاولات الجدية لدعم الاساتذة والطلاب بغية تعزيز القدرة على الصمود وتمرير المرحلة.
وطن النجوم… وداعاً!
و”كأنك تحمل قنبلة في يدك يمكن أن تنفجر في أي لحظة”… هذا هو الشعور الذي ينتاب الشباب في حال كان خيارهم البقاء في لبنان المشتعل على الجبهات المالية والاقتصادية والمعيشية والسياسية. ولكن هذا القرار، على صعوبته، يبدو أنه القرار الذي يصبو اليه كثيرون خصوصا بعد انفجار المرفأ المدمِّر الذي زاد إحباط الشباب وغضبهم، في ظل أزمة اقتصادية قاسية وتعثّر حكومي طال أمده. هذه الحوادث المتراكمة دفعت الكثير من اللبنانيين، وخصوصا الشباب منهم، إلى الهجرة إلى بلد آخر، لعلهم يحظون بحياة أفضل. وهو ما أظهره الاستطلاع السنوي لشركة “أصداء بي سي دبليو” (ASDA’A BCW) لرأي الشباب العربي لسنة 2020، إذ أظهر أن 77% من الشبان والشابات اللبنانيين “يسعون في شكل جدي إلى الهجرة” أو “فكّروا بالهجرة” إلى بلد آخر، ما يشكل أعلى نسبة في العالم العربي.
وما يعزز هذا القرار اليوم، هو أن 78% من اللبنانيين تعدّوا مستوى خط الفقر البالغ 5 دولارات في اليوم اي نحو 100 ألف ليرة يوميا، إذ إن الكثير منهم ليس في استطاعتهم تأمين هذا المبلغ. ومن 166 ألف مهاجر عام 2019 وصلنا اليوم إلى 305 آلاف مهاجر في طريقهم لمغادرة لبنان.
من وجهة نظره كلبناني هاجر من لبنان قبل ثلاثة عقود، يرى الخبير في اقتصاد الاعمال الدكتور فادي جواد أن الهجرة اليوم “تشبه إلى حدّ كبير الهجرة التي حدثت خلال الحرب اللبنانية، والتي كانت اهم اسبابها فقدان الأمل ودخول اللبنانيين في نفق مظلم لا نهاية له، خصوصا جيل الشباب الذي أُحبِط على جميع الصعد وتُرك لبيئة قادرة على استقطابه وتجنيده في اجندات مدمرة”. ولكن الاخطر اليوم عن الفترة السابقة هو الحالة الاقتصادية التي تعتبر من أكبر 3 ازمات عالميا منذ 1850، وهذا سيؤدي برأي جواد إلى “تهجير نخبة الكوادر من الاجيال كافة، حيث كنا سابقا نرى ان الهجرة مقتصرة في الاغلب على طبقة وفئة معينة من اللبنانيين، ولم نلاحظ هجرة اطباء واختصاصيين بهذا الحجم، بدليل أننا نرى أشهر الاطباء والمهندسين الذين تعدّوا عمر الستين يغادرون بأعداد كبيرة نحو اوروبا ودول الخليج، وهذا يصب في اتجاه هجرة العقول وتفريغ لبنان من كوادره!”.
ويؤكد جواد أن “كوادرنا البشرية المتميزة هي ثروتنا المتبقية. فجميع اصولنا الاقتصادية دمرت، وهذه الكوادر التي تجذب المستثمرين نحو لبنان ستصبح معدومة بعد انتشارها في العالم. وتاليا عند عودة الاوضاع الاقتصادية إلى التعافي لن تجد المصارف والمؤسسات والمستشفيات النخبة المتميزة، حتى انها لن تكون قادرة على استقطابها مجددا بسبب فقدانها الثقة بلبنان”!
ما يحصل اليوم، برأي جواد هو “عملية مقصودة وممنهجة من الطبقة الحاكمة التي تعي ماذا تفعل عبر مخطط افراغ البلد من كوادره وتحويلهم إلى رافدين للعملات الصعبة (تحويلات المغتربين بلغت نحو 9 مليارات دولار) حتى يتسنى لهم البقاء في مناصبهم، وتاليا فإن زيادة الطاقة الاغترابية تعني من وجهة نظرهم جزءا مهما من الحل الاقتصادي الاشمل للسنوات الخمس المقبلة”.
وإذا كان البعض يلقى اللوم دائما على الخارج في الازمات التي يعانيها لبنان، إلا أن جواد يعتبر أن “المخطط اليوم لبناني وليس خارجيا، ويقضي بإفراغ المجتمع اللبناني من طاقاته الشبابية واصحاب الخبرات الذين يؤثّرون بشكل فعلي على بقاء السلطة وديمومة وجودها، في مقابل ابقاء التابعين الذين يعززون وجودهم. وهنا الخطير في هذه المعادلة من وراء سيناريو الهجرة الحالي، الذي سينتج عنه على المدى الطويل مجتمع استسلامي تابع بشكل كامل للإقطاعيين”.
وفي غياب الحلول الكبرى، يلفت جواد إلى أنه “لن يكون في مقدورنا دعوة الشباب والكوادر للبقاء في لبنان بعد الانهيار الاكبر الذي حصل، ولن تنفع اي مناشدة لهم بالبقاء، بما يأخذنا إلى مشهد لبنان جديد”.
يقدِّر الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين عدد الذين هاجروا عام 2020 بنحو 17700 لبناني مقارنة مع 66924 غادروا البلاد من دون عودة عام 2019. وهذه النسبة كانت قد ارتفعت بين عامي 2018 و2019، من 33 ألفا في 2018 إلى 66924 في 2019، أي بزيادة نسبتها 100% بين العامين. وكانت “الدولية للمعلومات” أجرت في نهاية العام 2019 دراسة بيّنت فيها أن 70% من المغادرين راوحت أعمارهم ما بين 25 و35 سنة، فيما شهد العام 2019 النسبة الأكثر ارتفاعا لجهة عدد المغادرين في السنوات الخمس الأخيرة والبالغ عددهم 147700 مهاجر.
أسباب عدة تدفع الإنسان في العادة إلى ترك موطنه والهجرة إلى بلد آخر، قد تكون أمنية أو سياسية أو اقتصادية، مثلاً: الهرب من الحروب والصراعات والبحث عن الأمن والأمان، البحث عن فرصة عمل بمداخيل أحسن، الهروب من قمع النظام السياسي في بلده، وغيرها. وهذا ما حصل خلال فترة السبعينات من القرن الماضي حين حدثت موجة الهجرة الثانية بسبب الحرب الأهلية من جهة والفورة النفطية في دول الخليج من جهة أخرى وفرص العمل فيها بمداخيل مرتفعة جدا، وفق ما يقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور ايمن عمر الذي يوضح أنه “منذ الصغر وبالعودة إلى كتب الجغرافيا، كان يتم تصميغ آذاننا بأن لبنان بلد فتيّ وهو ما سيشكل العامل الأساس في تطويره وتنميته. فجاءت الحرب الأهلية لتغير من الهيكل السكاني ومن خصائص التركيبة السكانية وانخفاض نسبة الفتوة فيها بعدما تخطت نسبة الـ 50% في العام 1970”. ومع أن ثمة مناطق حافظت على نسبة الفتوة فيها (دائرة الإحصاء المركزي عام 2004) خصوصا في الشمال حيث إن نسبة الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة تمثل نحو 50%، إلا أن الأزمة الحالية، وفق عمر “ستقضي على ما تبقى من هذه الخاصية في التركيبة السكانية التي لطالما تميز بها الواقع الديموغرافي في لبنان، والسبب هو هجرة الشباب”.
بَيد ان الأخطر في موجة الهجرة الحالية التي طرقت الأبواب هو برأي عمر “فقدان الأمل ببناء وطن حقيقي، إذ إن معظم اللبنانيين لا يملكون في قلوبهم أدنى مشاعر الانتماء لوطنهم ويفقدون أيّ حسّ وطني تجاه بلدهم، وتاليا تضمحل أي محفّزات للبقاء في أرض الوطن”. ومما يعزز حالة فقدان الأمل ليس الانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل وتخطي البطالة نسبة 65% وبلوغ معدلات الفقر مستويات قياسية بلغت 74% من الشعب اللبناني فحسب “إنما السلوك السياسي للمسؤولين في طريقة تعاطيهم مع الأزمة الكارثية بنفس العقلية القائمة على التنازع والاشتباك في سبيل الحصول على مكتسبات شخصية وحزبية ومناطقية ومذهبية، وهيمنة طبقة سياسية فاسدة على كل مقومات الدولة ومقدراتها وتجذّرها، بحيث أصبحت هذه الطبقة هي الدولة بحدّ ذاتها، ومن ثم يرى اللبنانيون أن لا شيء يربطهم بهذه الدولة، والملجأ هو الهجرة ولسان حالهم يقول: “وداعاً وطن النجوم الكاذبة”.
سلوى بعلبكي – النهار